بعد قرن على اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.. الأيادي المصرية تطالب بالخروج من ظل المستكشفين الأجانب
عالم المصريات الإنجليزي هوارد كارتر (1873-1939) مع أحد المصريين قد يكون حسين أبو عوض أو حسين أحمد سعيد أمام مومياء وتابوت الملك توت عنخ آمون الذهبي عام 1922 (غيتي)
تجسّد الصورة التاريخية للبريطاني هوارد كارتر وهو يتفقد تابوت توت عنخ آمون بينما يجلس مصري في الظل قربه، والتي تعود إلى مطلع القرن العشرين، 200 عام من علم المصريات: من ناحية العالِم الغربي الذي يكتشف كنوز مصر، ومن ناحية أخرى أيادٍ مصرية تجاهلها تاريخ الكشوفات الفرعونية.
وتقول أستاذة المصريات في جامعة دورهام البريطانية كريستينا ريغز إن علم المصريات الذي نشأ في الحقبة الاستعمارية "خلف تفاوتات هيكلية" ما تزال "أصداؤها موجودة حتى اليوم".
وبينما يحتفل العالم بمرور قرنين على اكتشاف حجر رشيد على يد الفرنسي جان فرانسوا شامبوليون، و100 عام على الكشف عن مقبرة الملك الطفل توت عنخ آمون، ترتفع أصوات للمطالبة بخروج مساهمات المصريين في هذه الإنجازات إلى العلن. وتعكس المطالب رغبة المصريين في استعادة تراث بلدهم واسترجاع كنوز من آثارهم يعتبرون أن الغرب "سرقها".
وطالبت مصر مرارا بعودة آثارها المعروضة في الخارج، وعلى رأسها رأس نفرتيتي المعروض في متحف برلين، وحجر رشيد المعروض بالمتحف البريطاني، ويعدّ اليوم من أكثر المعروضات شعبية وأهمية في المتحف الواقع بلندن.
أياد مصرية باكتشاف مقبرة الملك الذهبي
ويؤكد رئيس بعثة التنقيب المصرية في القرنة (جنوب البلاد) عبد الحميد درملي أن المصريين "تحمّلوا عبء الشغل كلّه، لم يكن هناك أجنبي يعمل بيده".
ويتابع "بدوننا (المصريين) لم تكن لتحصل أي اكتشافات. العامل المصري الذي نقّب له اسم كان ينبغي كتابته ولكنه نسي على الفور".
في الاتجاه نفسه، تقول الباحثة المتخصصة في التراث المصري هبة عبد الجواد "كأن أحدا لم يحاول فهم مصر القديمة" قبل شامبوليون عام 1822.
وتعود ريغز فتوضح أن المصري الجالس في الظل إلى جوار كارتر بالصورة الشهيرة قد يكون "حسين أبو عوض أو حسين أحمد سعيد" اللذين كانا لعقود من أعمدة فريق كارتر إلى جانب آخرين مثل أحمد جريجر وجاد حسن.
لكنها تضيف أنه لا يمكن لأي خبير أن يتعرف اليوم على الأشخاص الموجودين في الصور. وتقول أستاذة التاريخ "قبع المصريون في الظل مجهولين وغير مرئيين في رواية تاريخهم".
في البداية، ظهر شخص واحد فقط هو حسين. وتم تداول اسم آل عبد الرسول الذي يُعتقد أنه اكتشف بالصدفة، وكان لا يزال طفلا، مقبرة توت عنخ آمون على الضفة الغربية لنهر النيل في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1922 داخل جبانة أصبحت اليوم الأقصر، في منطقة القرنة.
وتتعدّد الروايات حول هذا الاكتشاف، وأشهرها أنه تعثّرت قدما عبد الرسول فوقها أو تعثّرت معزته عندها أو انقلبت منه قلة (إناء من الفخار كان يستخدم لتبريد المياه) فكشفت المياه عن وجود حجر.
وبحسب الأسطورة المحلية، اكتشف اثنان من أجداده أحمد ومحمد عام 1871، المومياوات الخمسين التي عثر عليها في الدير البحري، ومن بينها مومياء رمسيس الثاني.
تهميش من التاريخ
والتقت وكالة الصحافة الفرنسية حفيد أحد أقرباء عبد الرسول ويدعي سيد، وقد انفجر ضاحكا عندما سمع هذه الروايات. وقال مازحا "أقوى اثنتين عندنا ينبغي تسليط الضوء عليهما هما المعزة والقلة" ثم تساءل "هل هذا منطقي؟". واعتبر أن المشكلة تكمن في أن "أناسا آخرين كتبوا (التاريخ) ونحن لم نكتب".
وتشير ريغز إلى أنه كل مرة نُسب فيها اكتشاف إلى المصريين، كان الفضل يعود إما إلى "أطفال أو لصوص مقابر" إن لم تكن "حيواناتهم".
أما هبة الباحثة في التراث فترى أن "علم الحفائر وعلم الآثار في الأساس يقومان على علم الجغرافيا، وخصوصا المعرفة بطبقات الأرض المختلفة التي يمكن من خلالها تحليل ما إذا كان هناك شيء أم لا، وهذا ما يعرفه الفلاح المصري، كونه يحتك بشكل يومي مع التربة والأرض في الزراعة".
لهذا انتقلت عمليات التنقيب من جيل إلى جيل في القرنة، حيث يعيش آل عبد الرسول، وإلى "قفط" شمال الأقصر التي تم تدريب سكانها على البحث عن الآثار عام 1880 على يد البريطاني وليام فلندرز بيتري. وكان الجدّ الأكبر لمصطفى عبده صادق من بين هؤلاء.
ومطلع القرن العشرين، استقرّ الرجل على بعد 600 كيلومتر شمال قفط للتنقيب في جبانة سقارة بالقرب من أهرامات الجيزة، وساعد مع أولاده وأحفاده على مدى قرن من الزمن في الكشف عن عشرات المقابر، بحسب ما روى الحفيد للوكالة الفرنسية وهو نفسه عالم آثار معروف.
وقال إن أسرته لم تأخذ حقها، رافعا صور أجداده الذين لا يظهر اسم أي منهم في كتب التاريخ اليوم.
عالما الآثار البريطانيان هوارد كارتر (1874-1939) (يسار) وآرثر كالندر في مقبرة توت عنخ آمون مع عامل مصري (غيتي)
الاستعمار الثقافي
وترى عميدة كلية الآثار في أسوان مونيكا حنا أنه "تم تجاهل المصريين في كتابة تاريخهم بسبب الاستعمار الثقافي لمصر منذ 200 سنة".
وتقول المحاضرة في معهد الآثار الشرقية في القاهرة فاطمة كشك إنه ينبغي أن نأخذ في الاعتبار "السياق التاريخي لمصر خلال الاستعمار" البريطاني.
,مطلع القرن العشرين، وعلى خلفية الروح الوطنية المتصاعدة، أصبح التراث الفرعوني أداة لتقوية الحس الوطني، وتحولت الحرب الثقافية إلى معركة سياسية.
,عام 1922 -الذي شهد اكتشاف مقبرة الملك الطفل fوادي الملوك- غنّت المطربة الأشهر آنذاك منيرة المهدية "إحنا ولاد توت عنخ آمون".
في العام نفسه، وبعد حملات متكررة نددت بهيمنة الأجانب على التراث الوطني، تمكنت القاهرة من وضع حد لنظام التقسيم الذي كان ساريا خلال الحقبة الاستعمارية، ويقضي بأن يحصل الغربيون على نصف ما يتم اكتشافه من آثار مقابل تمويلهم عمليات التنقيب.
غير أن مصر القديمة فُصِلت نتيجة ذلك عن الحديثة، وبات يُنظر إلى "الحضارة المصرية القديمة على أنها حضارة ملك للعالم بأسره، ولكن هذا العالم كان متمركزا في الغرب" بحسب ما تقول الباحثة في التراث.
وبقي توت عنخ آمون في مصر ولكن "أرشيف عملية التنقيب" -الضروري لأي نشر أكاديمي وعلمي- ذهب إلى كارتر، واعتبر من مقتنياته الخاصة، وفق حنا.
وأضافت "كنا لا نزال مستعمَرين، ولذلك تركوا لنا القطع، ولكن أخذوا منّا القدرة على إنتاج المعرفة عن مقبرة توت عنخ آمون".
وعندما قررت ابنة شقيق كارتر أن تتبرّع بهذا الأرشيف بعد وفاته عام 1939، اختارت أن تهبه لجامعة أكسفورد وليس إلى مصر.
وتنظم جامعة أكسفورد في الوقت الراهن معرضا باسم "توت عنخ آمون: تنقيب في الأرشيف" لكي تلقي الضوء على "المصريين المنسيين غالبا من الفرق الأثرية".
مقبرة توت عنخ آمون من الداخل (غيتي)
القرنة: منازل فوق المقابر
في القرنة، يتذكر أحمد عبد الراضي (73 عاما) أنه عثر عندما كان طفلا على رأس مومياء قرب أساسات المنزل الذي كبر فيه، والذي شُيّد فوق واحدة من مقابر جبانة طيبة حيث كبر.
ويقول إن أمه انفجرت باكية وهي تتوسل إليه أن يعامل "هذه الملكة" باحترام. ولكنها كانت في الوقت ذاته، بحسب عبد الراضي، تخزّن البصل والثوم في تابوت من الغرانيت.
اليوم، لا توجد في قرية القرنة إلا الأنقاض التي تنتصب بينها، بين المقابر والمعابد "أعمدة ممنون" التي بنيت قبل 3400 عام وكأنها تسهر على رعاية الأحياء والموتى.
وعام 1998، بدأت جرافات تابعة للحكومة بتدمير المنازل الصغيرة المشيدة بالطين والحجر، والتي تأوي 10 آلاف من سكان القرنة، وتوجد أسفلها مقابر يعود معظمها إلى الحقبة ما بين العامين 1200 و1500 قبل الميلاد.
وفي اشتباكات مع الشرطة، قتل 4 من السكان الذين رفضوا إخلاء منازلهم، بحسب الوكالة الفرنسية. ويقول درملي إن سكان القرنة احتجوا على إزالة بيوتهم بسبب ارتباطهم الكبير بالتراث الفرعوني.
وانتهت المعركة -من أجل كشف التاريخ القديم- على حساب المصريين، مما أثار انتقادات من اليونسكو. ودافع وزير الآثار آنذاك زاهي حواس عن قرار إزالة المنازل قائلا "كان ينبغي القيام بذلك للحفاظ على التراث".
وبحلول العام 2008، كانت معظم المنازل أزيلت ونُقل السكان بعيدا عن مصادر رزقهم حول الآثار الفرعونية والأراضي التي يرعون فيها ماشيتهم.
متحف مفتوح
ووفق حنا، أرادت السلطات إجلاء الناس "لتجعل من الأقصر متحفا مفتوحا، فيأتي السائح ويرى الآثار كما كانت منذ مئات السنين" مشيرة إلى أن سمعة أهالي القرية في حينه أنهم لصوص آثار.
وعلى مدى قرون، خرجت أعداد لا تحصى من الآثار من مصر، مثل مسلة الأقصر في باريس أو معبد ديبود في مدريد، منحتها الحكومة المصرية هدايا لدول صديقة.
ولكن قطعا أخرى أرسلت إلى المتاحف الأوروبية في إطار نظام التقاسم الاستعماري، وذهبت مئات الآلاف من القطع إلى "مقتنيات خاصة في جميع أنحاء العالم" وفق عبد الجواد.
مقبرة توت عنخ آمون ومحتوياتها في معرض بباريس
هدايا وغنائم
وأطلق حواس حملة في أكتوبر/تشرين الأول من أجل استعادة حجر رشيد وزودياك دندرة. وقد تمكن حتى الآن من جمع 78 ألف توقيع، ويعتزم إطلاق عريضة جديدة بشأن تمثال نفرتيتي، إذ إن هذه القطع الثلاث تثير جدلا منذ سنوات.
ويعرض حجر رشيد -الذي حفرت عليه عام 196 قبل ميلاد المسيح كلمات باليونانية والمصرية القديمة والهيروغليفية- في المتحف البريطاني بلندن ومكتوب إلى جواره "أخذه الجيش البريطاني من مصر عام 1801".
وقال متحدث باسم الجيش البريطاني لوكالة الصحافة الفرنسية إن الحجر "هدية دبلوماسية" ولكن عبد الجواد تقول إنه "غنيمة حرب".
أما تمثال نفرتيتي فحط في متحف نيوس (Neues Museum) في برلين بموجب نظام التقاسم الاستعماري، وفق السلطات الألمانية.
ويؤكد حواس أن رأس نفرتيتي التي رسمت عام 1340 قبل الميلاد وجلبها علماء آثار ألمان عام 1912 "خرجت من مصر بشكل غير مشروع".
أما زودياك دندرة فوصل إلى باريس عام 1820 عندما أرسل عمدة المدينة سيباستيان لوي سولنييه فريقا لنزعه بالمتفجرات من أحد المعابد جنوب مصر.
زودياك البالغ طوله 2.5 متر وكذلك عرضه، معلّق في أحد أسقف متحف اللوفر منذ العام 1922 في حين توجد منه نسخة من الجص في دندرة.
وتعتبر حنا أن نقل زودياك إلى اللوفر "جريمة". وتضيف "ما كان مقبولا آنذاك" لم يعد كذلك "بالموازين الأخلاقية للقرن 21".