الروائية والناقدة الليبية فاطمة سالم الحاجي ألفت روايات "صراخ الطابق السفلي" و"رحيل آريس" وكتبا نقدية بينها "مفهوم الزمن في الرواية الليبية"
لأنها ولدت في بيت يحفل بالعلم والأدب والتصوف، ظهرت لديها ميول أدبية منذ نعومة أظفارها وبتشجيع من والدها الشاعر والأزهري المتصوف زاد شغفها بالكتابة وانغمست في عالم الأدب باكرا.
هذه هي الكاتبة الليبية فاطمة سالم الحاجي التي استطاعت أن تبني مسارها الأدبي بنجاح رغم الأوجاع الكثيرة التي تحاصرها وتحاصر بلدها ليبيا، وهي تحلق بجناحي النقد والرواية رغم أن بدايتها كانت في الشعر والقصة.
وتعتبر الحاجي -الحاصلة على دكتوراه في النقد من المملكة المتحدة- من الكاتبات الليبيات والعربيات المتميزات، إذ سطرت قصة نجاحها بالكثير من الإصدارات النقدية الجدية والمهمة نذكر منها "القراءة النقدية الجديدة" و"مفهوم الزمن في الرواية الليبية" وكتاب " الخطاب الروائي" الذي كتبته بالإنجليزية، وترجم فيما بعد إلى العربية، وأهلتها هذه المسيرة النقدية الحافلة، لتكون عضو لجنة تحكيم في الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2017، وعضوا محكما في عدة جوائز أخرى.
وفي الرواية، أصدرت الحاجي رواية أولى بعنوان "صراخ الطابق السفلي"، عام 2016، وصدرت روايتها الثانية "رحيل آريس"، منذ أسابيع عن دار "الخريّف" للنشر بتونس.
وبين وجعين وحربين، حرب الذات وحرب الوطن، حاولت فاطمة سالم الحاجي -المقيمة في تركيا- في روايتها الجديدة، مقاربة الثورة الليبية من خلال حرب الصراع على النفوذ ومن خلال تقاطعات قصص الأبطال موسى وحور وعامر، لتكشف للقارئ جوانب خفية من حكم تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا.
كل ذلك باقتباس جميل من إله الحرب في الميثولوجيا اليونانية "آريس" على أحداث الرواية وعنوانها، وبقص سردي موحٍ يوهم بالواقع ولا ينقله ويذهب إلى ما وراء السطور وخفايا الحروب والصراعات وبسرد متدفق جميل، لنكتشف ليبيا الأعماق برؤية تخييلية أدبية. وتميمتها في كل هذا الفيض المتناقض من الأحاسيس والمشاعر والسرد المتخيل والذي لا تغيب عنه الحرب، مقولة فينسنت فان غوخ إن "الفن يرمم من كسرتهم الحياة".
حول تفاصيل هذه الرواية الجديدة "رحيل آريس" وأوجاع الصراعات والحرب، كان لنا هذا الحوار مع فاطمة الحاجي التي فتحت لنا قلبها ونزيف قلمها وأدخلتنا خدر شخصياتها وطباعها المتقلبة، كما انفتح اللقاء على قضايا النقد والمنفى والثورة والوطن.
- حاولت روايتك الجديدة "رحيل آريس"، مقاربة الثورة الليبية بطريقتها، من خلال حرب الصراع على النفوذ، ألا تعتبر مقاربة هذه الثورة الفتيّة التي ما زالت في طور التفاعل بعمل روائي، مغامرة فنية صعبة محفوفة بالمخاطر؟
لا شك أن الكتابة عن الأحداث التي ما زالت في طور التطور والتفاعل مجازفة كبيرة، لكن اعتمادا على معايشتي لما يحدث كل يوم من جرائم تنهش الوطن وتراجيدية الأحداث، لم تكن أمامي فرصة للتأجيل وترقب ما ستؤول إليه الأمور.
كان الحزن والاضطراب دافعين للتدخل والإفصاح عن رؤيتي الحدسية والمبنية أيضا على ما أكده ما حدث في سيرورة الحياة وقانون الصراع الذي يجب أن ينتهي في نقطة ما.
رواية "رحيل آريس" اشتقت اسمها من إله الحرب في الميثولوجيا اليونانية القديمة
ورواية "رحيل آريس" ليست تطابقا مع أحداث الواقع وإنما هي تصور مبني على الشخصيات التخيلية، ورؤية الروائي الاستباقية التي تبني عالما أكثر إدهاشا من عوالم متوفرة في الزمن الحاضر، على أمل أن نشاهد هذه التراجيديا منفصلة عن ذواتنا فتكون الصورة أكثر وضوحا وتأثيرا.
- حمل عنوان روايتك "رحيل آريس" تكثيفا ورسائل خفية من خلال تضمين إله الحرب في الميثولوجيا اليونانية القديمة "آريس"، فأي أبعاد رمزية فنية لهذا العنوان؟
للعنوان عدة وظائف في الرواية منها المرجعية والأيقونية واللغوية والتأثيرية. كما أنه يشير إلى المضمون ودلالته. ورحيل آريس عنوان مركب من الرحيل ومن اسم إله الحرب في الميثيولوجيا الإغريقية.
ويوجه العنوان القارئ إلى بصيرة متفائلة برحيل هذا الإله والدلالة ترشح من العنوان بإحلال السلام، وهو مضمون الرواية في المجمل، فكان اختياري عن وعي كامل بهذا المكون ولا يحمل تناقضا أبدا، بل هو مرآة عاكسة لدلالة الرواية فالعنوان يفك شفرة الرواية بجملة اسمية خبرية تعلن رحيل الحرب.
كما أن العنوان يمثل ركيزة مهمة في العملين النقدي والروائي، ففي الأول يجب أن يحمل العنوان إشارة دالة لمضمون الكتاب ومحتواه بصدق. أما في العمل الأدبي فهناك مساحة حرة للتفكير في العنوان وإمكانية تحميله عدة وظائف، فقد يكون رمزيا ومخاتلا يدفع للتساؤل وإثارة التشويق والتفكير فيما يحمله من معانٍ.
- إذا صح وصف روايتك "رحيل آريس" بأنها صرخة ضد الحرب والظلام ورفض للواقع الليبي المتشرذم في الأعوام الأخيرة، فما الوسائل الفنية التي وظفتها واستعملتها، لنقل وتحويل هذا الواقع المؤلم إلى لعبة قصصية تخييلية؟
"رحيل آريس"، رواية صادمة حسب ما وصفها بعض من قرأها، وهي فعلا كما أسلفت صرخة ضد الحرب ورفض للواقع الليبي المتشرذم وضد جبروت الإنسان على أخيه الإنسان وشريكه في الدم واللغة والأرض والتاريخ والدين والثقافة. حرب بلا مبرر إلا التعنت وعدم الوفاء للوطن.
وتتشكل متعة التخيل الموجعة للأحداث التراجيدية التي حدثت وما زال لهيب نيرانها يلتهم الإنسان العربي والوطن، فيراها القارئ المتزامن معها بعين الحقيقة الماثلة في اتصال وانفصال ممتزجة بالألم ومكسوة بالوجع بين سحر التخيل وأفق الانتظار. والفضاء يتشكل ويمتد بين مدن ليبية وعربية التي اجتاحها الأعداء بأشكال مختلفة.
لقد اخترت شخصيات متضاربة الاتجاهات والرؤى عبر فترة زمنية معاشة يجرفها الصراع المدمر ويشعل فتيل الحرب الذي يدعو كل شخصية إلى الانتقام والعنف لرد الثأر.
ومن خلال هذه الأحداث التراجيدية ينبت العشق الظامئ بين ثنائيات الصراع فيجعلها أكثر تعقيدا بين تناقض الحرب وتشويه الحب، وكل ما هو جميل في الكون. وينبت أخيرا حقل من السمو في تيار الدماء فيرسم في فضاء العتمة سيمفونية الدم المفتوحة على نغم تفاؤلي بترحيل آريس -إله الحرب- عن الوطن.
- امتدت فترة كتابتك لرواية "رحيل آريس" لسنوات عديدة مررتِ فيها بظروف تراجيدية فقدت خلالها زوجك وابنك وعشت متاهة اللجوء، وتزامنت فترة الكتابة مع الأحداث المريرة التي عاشتها ليبيا، فأين يبدأ الذاتي وأين ينتهي الموضوعي في هذه الرواية؟
لا شك أنني عانيتُ كثيرا نتيجة ظروفي الخاصة وفجيعتي في ابني الشاب الذي مات كمدا نتيجة ما أصابنا من فقْد للوطن وتفرق الأسرة وغيبة دفئها، ومن رحيل زوجي الذي مات بعيدا عن الوطن ودفنته في الغربة. كان النزيف داخليا لهذه الفجائع وضياع الوطن في متاهة الحرب والشتات.
الأحداث الروائية هي نزيف للروح ولكل هذه الظروف، لكنها ليست سيرة ذاتية ولا يوجد بها أي تشابك مع حياتي الخاصة. هي شخصيات منفصلة متخيلة في فضاء يستمد من الواقع المعاش وقائع متخيلة نصدقها لأنها تلامس الروح وتحمل دلالات نبيلة، نص يدفع القارئ إلى أفق ووعي نقدي جديد ينضح عاطفة موجعة.
البنية الكلية تتشكل من أحداث درامية مختلفة وشخصيات فاعلة وتوظيف مكثف للغة، كما كان اللعب الزمني واضحا بين الماضي بمستوياته المختلفة من ماض قريب ومن ماض بعيد.
رواية "صراخ الطابق السفلي" تدور أحداثها في طرابلس حيث تتتبع معاناة النساء
وحسب الناقدة يمنى العيد فأنا أرى مثلها أن الأدب قوة محركة للجماهير، لأنه ثورة على الواقع يثير بحتميته انتصار الطبقة العامة ويسهم في تطوير الحركة التحررية الوطنية، وفي رأيي أن السرد فن يجبر كسر الإنسان وروحه المتشظية، ويمسح عن النفس غبار الحياة، وهذا الرأي أستمده من فينسنت فان غوخ بتصرف "إن الفن يرمم من كسرتهم الحياة".
- إلى أي مدى تستطيعين نزع معطف النقد والنظريات النقدية الأدبية، حين تنتقلين إلى عالم الرواية وتنغمسين في كتابة عمل روائي جديد؟
الكتابة الإبداعية حالة شعورية لها معطياتها وشروطها، وهي مثل الحالة الانفصالية بين الذاتين الحقيقية والمتخيلة ولا تخضع إلا لشرط الموهبة. وتمر مراحل الإبداع بالإعداد والكمون والإشراق، والتحقيق والتنفيذ ثم المراجعة. وهنا تتدخل ربما الخبرة النقدية وهي تأخذ مني وقتا طويلا لأنها قراءة واعية للكتابة وإعادة التفكير والتصور لكنني لا أفعلها إلا في حدود معينة.
- كيف استفدتِ واستثمرتِ تجربة المنفى التي تعيشينها من أعوام، أدبيا وإبداعيا؟
المنفى رحلة قسرية لتعذيب الروح والمنفى منذ العصور القديمة كان يعد من أقسى العقوبات التي ينزلها القدر على الإنسان خاصة إذا كانت له روح شفافة ومرتبطة ارتباطا وثيقا بفضاء الوطن. إنها عقوبة وحشية حلت على شغاف القلب فدمّرته. وقد خرجتُ من وطني لأسباب اضطرارية حيث تعرض زوجي لجلطة خطيرة في المخ في بداية الأحداث وما يسمى بالربيع العربي.
في البداية، كان الأمل يداعبنا أن الأوضاع ستتحسن وستحل مشاكل ليبيا وتصبح دولة مستقرة ولكن للأسف كل يوم يتوارى الحلم وتصعب مراسم العودة. ظل زوجي 3 سنوات فاقد الذاكرة وعندما عاد كان نصفها مفقودا مع عدم القدرة على الحركة، فأصبحت العودة مستحيلة برجل مسنّ مقعد ودولة بلا قانون، فاضطررت للصمود رغم استحالة المعيشة بلا مرتب ولا أهل ولا معين.
فقدت ابني الوحيد وأنا بعيدة عنه. روحي المضطربة ارتعشت بحرقة لكن الجرح عميق، وظللت أُمنّي النفس والزوج بالعودة ولكن إرادة السياسيين والقوات المتدخلة في أزمة ليبيا أبوا إلا أن ينتهي زوجي في الغربة وتدفن أكفانه أكوام أشواقه وحنينه للديار ونهايتي أحمل كل هذا الألم بلا سند إلا الله.
لا شك أنها تجربة بالغة المرارة ما زلت أتجرع ويلاتها وأحاول أن أدفن جراحي في الكتابة لعلها تقدم لي جرعة أمل لأثبت أنني ما زلت على قيد الحياة. وقد أنهيت روايتي المميزة "رحيل آريس" وهي رواية صادمة حول الحرب واشتركت في مؤتمر النقد والأدب بجامعة اليرموك حول "النقد بين النصين المقدس والسردي"، وما زلت أجمع شتات الروح المبعثرة لأكتب عن جرائم الحرب التي مزّقتنا.
- أصدرتِ 3 كتب نقدية مهمة ولك في نفس الوقت روايتان، فلماذا محاولة التحليق بأكثر من جناح في عالم الأدب؟ هل أنتِ ناقدة ضلت طريقها إلى الرواية أو العكس صحيح؟
التموقع بين النقد والرواية اختيار من جهة وإجبار من جهة أخرى. وهنا يجب العودة إلى مرحلة النشأة والطفولة فقد ظهرت لديّ الميول الأدبية لأنني نشأت في بيت يحفل بالأدب والعلم والتصوف. كان والدي شاعرا ومتصوفا أزهريا، فشجعني على الكتابة منذ نعومة أظفاري وعندما لاح شغفي بالتعبير الشعري أسوة بأخويّ الأكبر سنا اللذين أصبح أحدهما شاعرا والآخر شاعرا وكاتب قصة.
كتبت الشعر والقصة القصيرة ثم انقطعت للتفرغ للدراسة المعمقة العليا والحصول على الدكتوراه فكان مجال النقد من التخصصات التي وجدت نفسي فيه.
ولكن الموهبة ظلت نداء ملحا وكنت أحاول أن أسكته إلى أن نضجت خبرتي في الحياة وكانت حتمية الرواية، بدأت برواية "صراخ الطابق السفلي" وهي ملحمة بانورامية حول الثمانينيات وتجربة الشعب الليبي وما مر به من أحداث جسام تستحق التوقف عندها. ولاقت نجاحا كبيرا والدليل اهتمام النقاد المتخصصين الذين ثمنوها عاليا.
ثم رواية "رحيل آريس" وهي نزف الروح حول ما يحدث في المجتمع العربي من أحداث قاسية وظلم قاهر فكان الصمت دليل الخيانة في رأيي. وتحول الحزن المكابر إلى هذا العمل الأدبي حول الحرب وويلاتها وداعش وجرائمه في الوطن الكبير.
وأتمنى من كل أعماقي أن تصل هذه الرواية الصادمة لكل القراء في وطننا الكبير، وأن تتحول أيضا إلى نداء للجميع لإنهاء وترحيل الحرب إلى غير رجعة وإحلال الوئام والسلام.