الملصق الدعائي لفيلم "أحلام يستطيع المال شراءها" (مواقع التواصل)
إذا كان فيلم "أحلام يستطيع المال شراءها" (Dream that money can buy) أُنتج عام 1947، فإن المعاني التي يطرحها ويعالجها موجودة كلها كبذور في عالم "منصات التواصل الاجتماعي" في العقد الثالث من القرن 21.
"الجميع يحلمون، الجميع يسافرون إلى بلادٍ حيث قد يكون الجمال الغريب والحكمة والحب في انتظارهم أحيانا". تلك هي الكلمات الافتتاحية للفيلم الذي أخرجه هانز ريختر، وكتب جزءا من حواره بالتعاون مع ريتشارد هولباك.
تدور حبكة الفيلم حول "جو"؛ شاب شاعر فقير وقّع عقد إيجار غرفة ليعيش فيها، وكان يتساءل: كيف يدفع تكلفة الإيجار حتى نظر لنفسه في المرآة ليكتشف أنه يستطيع رؤية محتويات عقله تتكشف وهو ينظر في عينيه؛ يُدرك آنذاك أن لديه مهارة غير عادية ويمكن توظيفها من أجل الربح السريع.
يجعل "جو" من غرفته الصغيرة مشروعًا تجاريا ويبيع أحلاما مخصصة لعدد من الأفراد المحبطين، بناء على ما يستقيه من النظر في عيونهم، وعبر تلك الأحلام يُقدم الفيلم نظرة سريالية ثاقبة على محتويات اللاوعي والنفس البشرية في تلك الفترة، فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
السريالية واللاوعي كأبجدية جديدة
ظهر المذهب السريالي في الفنون في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبالتزامن مع الشهرة الواسعة التي حازتها نظريات سيغموند فرويد عن اللاوعي والعقل الباطن، اللذين تعامل معهما على أنهما مصدر رئيسي للإلهام، وربط بين علم النفس والفن. وهكذا يمضي الفيلم ذاته حيث نرى في الأحلام السريالية السبعة -التي قام بوضعها وتصميمها 7 سرياليين مشهورين- تجارب شعورية فردية مختلفة.
قدم ريختر في الفيلم ثيمة نفسية عبر الحالات السبع التي أتت لشراء الأحلام؛ فرغم أن البشر قد يكونون نجحوا في تحقيق أعمالهم أو وظائفهم، فإنهم لم ينجحوا في تحقيق ذواتهم. فها هم يلجؤون لتلك الغرفة حيث تُكشف فيها رغباتهم الدفينة واللاواعية ليحصلوا على أحلام كبيرة ومريحة، ثم سيخرجون منها وقد حظوا بالوهم الناجم عن حلم لم يستطيعوا أن يلمسوه على أرض الواقع.
وقالت عالمة النفس الأميركية ديردري باريت في ذلك ما نصه "يأتي العملاء من باب واحد من عالم اليقظة/غرفة الانتظار، من حين لآخر يفتحون الباب الذي يؤدي إلى الفراغ، الذي يمثل على ما يبدو اللاوعي أو مصدر صور الأحلام، حيث يحدث وابل ساحق من المشاهد الغريبة والعواطف والتفاعلات كلها في وقت واحد".
"الجميع يحلمون، الجميع يسافرون إلى بلاد حيث قد يكون الجمال الغريب والحكمة والحب في انتظارهم أحيانا"
ما أشبه اليوم بالبارحة!
رغم أن الأحلام السبعة التي تناولها الفيلم كانت تستكشف اللاوعي العصابي واليائس لأشخاص يعيشون وبال الحروب العالمية المدمرة، فإننا بعد أكثر من 70 عاما نرى أن المباحث التي يطرحها الفيلم، بل والثيمة العامة له؛ لا تكاد تخرج عن عالم منصات التواصل الاجتماعي في الوقت الحاضر.
تظهر الأحلام في الفيلم على التوالي: "الرغبة" كتبه ونفذه السريالي الألماني ماكس إرنست، وهو الحلم الأول. و"الفتاة ذات القلب الجاهز" نفذه فرناند ليغر. و"روث وزهور ومسدسات"، نفذه المخرج السريالي مان راي. ثم رابعًا "أقراص" لرائد الدادائية مارسيل دوشامب. و"السيرك" ألفه ونفذه ألكسندر كالدر. ثم "باليه" ونفذه أيضا ألكسندر كالدر. وفي النهاية "نرجس أو نرسيس" وقام بتنفيذه مخرج العمل هانز ريختر.
يعتمد فتح العقل الباطن (واستعراض ما فيه للجمهور في ذاك الفيلم) على نموذج سيغموند فرويد للتحليل النفسي؛ على السطح يظهر الإدراك الواعي (الأنا) كقمة جبل جليدي، بينما تكمن الكتلة الأكبر من الجبل الجليدي تحت السطح في العقل اللاواعي، حيث تُقمع وتتصارع الرغبات والاحتياجات الفطرية التي تنمو لتتحكم وتسيطر على "الهوية" غير المُحققة.
"جو" ومنصات التواصل
تلعب منصات التواصل الاجتماعي دور "جو" في القرن 21. الجميع يحتاج الدخول للغرفة التي قد تكون فيسبوك أو إنستغرام أو تويتر وغيرها، ليُطلق لهويته الحقيقية العنان، ويسمح للذات التي لم يمهلها الزمن وقتًا لتتحقق في أن تفعل ذلك سواء بشكل سلبي أو إيجابي. لقد تغيّرت لغة الكلام ومفرداتها، ولا مجال للحميمية والسرية، الصورة التي نقدمها عن أنفسنا للآخرين هي "الإيغو" الأعلى الذي نريد ترسيخه في الأذهان.
تتحكم التطبيقات المتعددة في جوهر وجودنا تمامًا كما اعتاد "جو" أن ينزلق إلى لاوعي زبائنه، ويقدم لهم أحلامًا كما تُقدم تلك المنصات صورا وأفكارا وأحلاما. كما لو أن "نواة كياننا" -على حد تعبير فرويد- لم تفلت منا فحسب، بل تم تسليمها إلى شخص آخر مجهول الهوية. ها نحن نعيش في زمن تضخم الأنا المرتبط بعولمة احتياجاتنا القهرية. النرجسية الجماعية هي السمة المميزة للحظة الحالية. كل شيء معروف، وكل شيء معروض.