تدور هذه القصة على أرض مصر في ناحية بلبيس بمحافظة الشرقية حيث يكثر النخيل، وتعدد أصناف التمر والفاكهة- كان يعيش غراب سمين.. تربى على العيش الرغيد والرفاهية وسعة الرزق.. كان يقضي يومه متنقلًا من نخلة إلى نخلة.. قافزًا من غصن إلى غصن.. ينقر ما شاء من الرطب ويتناول ما يشتهي من الفاكهة الناضجة.. ولم يكن من أهل هذه المنطقة سوى السماحة والصبر على إزعاجه ونهبه للثمار، فخيّل له أن كل تلك البساتين وأحراج النخيل كانت ملكًا له وحده يتصرف فيها كما يريد. وعزم غراب بلبيس على الخروج يوم ما في نزهة طويلة، فانطلق يضرب الهواء بجناحيه صاعدًا وهابطًا حتى أنتهى به المطاف إلى السويس..
وكانت السويس في ذلك العهد مرفًأ صغيرًا قليل العمران، لا يعرف الحركة إلا من العام للعام حيث يستقبل وفود المسلمين المسافرين إلى الأراضي الحجازية لأداء فريضة الحج.. وهناك، رأى هذا الغراب غرابًا آخر أعجف البدن، ناحل الجسم، ذو عظام بارزة من للريش لشدة نحوله وهزاله.. فمال عليه وسأله: كيف حالك؟ قال غراب السويس: هي كما ترى والحمدالله.. قال له: إنك تعيش هنا في مكان قفر.. فمن أين تجد طعامًا؟ قال: من العام للعام تأتي إلى هنا جمال الحجاج والمحمل النبوي.. فتترك في مباركها بعرات أظل طوال العام أنبش فيها لعلي أعثر على حبة قمح أو فول، ومن هذا أجد قوتي وقوام حياتي..
قال له: إنك يا صحابي تعيش في الحرمان، والخير في الدنيا كثير.. ولو أنك خرجت معي من هذه المنطقة لتجد من سعة الرزق ما تحب ومن ألوان العظام ما يملأ عظامك المعروقة باللحم والشحم. قال غراب السويس: ولكنّي في هذا المكان القفر أعيش حرًا طليقً، لا يرهبني تهديد إنسان ولا يزعجني جبروت مخلوق، والحرية مع الجوع خيرُ من الشبع مع ذل النفس، وهوان العبودية ورهبة الخوف.. فرد عليه غراب بلبيس: ذلك كلام العاجزين الذين يقعدهم العجز عن الوصول إلى ما يرغبونه.. وعندنا هناك في بلبيس من أصناف التمر والفاكهة مالا يوصف.. ومن البساتين وأحراج النخيل مالا يحد، وكل هذا أطويه تحت جناحي.. وإني فيه حر التصرف أتناول منه ما أريد وأشتهي، و إني أدعوك لقضاء أيام في ضيافتي حتى ترى بنفسك الفرق بين ذل الحرمان وعز الرفاهية.
وطار غراب السويس مع صاحبه.. وعاد الغرابان إلى بلبيس.. وكان غراب بلبيس يبدو في كثير من الزهور والخيلاء، فانطلق يطير من نخلة إلى نخلة، وهو ينعق نعيقًا مزعجًا متواصلًا، ويضرب الرطب بمنقاره عابثًا، فيتساقط على الأرض أكوامًا، وقصده أن يظهر لصاحبه ما يتمتع به من السطوة والنفوذ! وضاق صاحب النخيل بنعيق الغراب المؤذي، وبما يصنع من العبث بالرطب وإتلافه على غير طائل، فقال في نفسه: والله قد تساهلنا مع هذا الغرب فطغى وبغى وخرج عن طوره حتى أصبح حربًا على أرزاقنا، وكنّا نحتمل غرابًا واحدًا فأصبحا غرابين!
ثم مال الرجل إلى الأرض والتقط حجرًا وغافل الغراب العابث وقذفه به، فأصاب منه مقتلًا، وسقط سريعًا لساعته! ورأى غراب السويس ما حل بصاحبه السمين..
فأسرع يضرب الهواء بجناحيه راجعًا لائذًا بالقفر الذي كان يعيش في وهو يقول: "بعر السويس ولا تمر بلبيس"!