نوبل.. صانع الموت الداعي للسلام
أرقى جائزة عالمية تعتبر سقفا لكل الجوائز، حلما يراود الكثيرين، تمنح صاحبها مكانة في التاريخ واحتفاء بإنجاز أفاد البشرية.. إنها نوبل، يحصدها العقل البشري حين يبدع، والفعل حين يخدم السلام، لكن رغم الصورة البراقة تلاحقها الانتقادات وإن كان ظاهرها المثالية.
مرحبا بكم في العاصمة السويدية ستوكهولم نحن الآن في الـ21 من أكتوبر/تشرين الأول عام 1833، الأجواء صافية لكن لن تدوم ولد طفل يدعى ألفريد نوبل، التاريخ بمولده سيختلف، وسيمتزج بالدماء رغم أنه كان شاعرا أديبا لكن والده غير المسار ، كان الأب مهندساً فذا درّس أبناءه علوم الطبيعة والكيمياء والآداب.
نبوغ ألفريد كان مذهلاً فأتقن خمس لغات، واهتم بالأدب والشعر، لكن للأب رأي آخر، حيث أرسل ألفريد للخارج ليدرس علم الكيمياء، فورث التفكير في صناعة المفرقعات عن والده العبقري.
اختراع الديناميت
في طريقه لاختراع الديناميت وبتجاربه أنهى نوبل حياة شقيقه وأربعة من زملائه عام 1864، واخترع الديناميت الناسف عام 1867 أعقبه أشكال أخرى من المتفجرات، فأقام مصانع صدّر من إنتاجها ما يكفي ويزيد لأغراض التدمير والحرب، وعمل حتى وفاته على تلبية ما حلمت به كل جيوش أوروبا.
لكن ما قصة الجائزة؟
عام 1867 نشرت صحيفة فرنسية خبر وفاة نوبل تحت عنوان "وفاة تاجر الموت"، خلط حدث بينه وبين شقيقه الذي توُفّي نتيجة تجربة، أوردت الصحيفة أن الرجل الذي أصبح غنياً بإيجاد حلول لقتل مزيد من الناس أسرع من أي وقت مضى قد توُفّي، كان يعتبر نفسه داعياً للسلام لكنه واصل مسيرته وافتتح مصانعه في أكثر من 20 دولة، وخشية أن يتهم بالتدمير ترك وصية أوقف فيها تسعة ملايين من الدولارات، ومنها منحت أول جائزة عام 1901، وتوجه سنويا لأفضل الأعمال في مجالات الأدب والسلام والاقتصاد والطب والعلوم.
جائزة مسيسة
إذا تتبعت الجائزة عبر عقود والفائزين بها ستنجلي لك حقيقتها، وسترى ببساطة وجهها السياسي، كونها غالباً ردّ فعل للأحداث العالمية، ولأي شخص أو هيئة أو منظمة الحق في الترشح فلن يكلف الأمر أكثر من إعداد ملف للشخص أو المنظمة مرفق به طلب الترشيح، ويدفع به إلى لجنة الجائزة بالنرويج.
فائزون مثيرون للجدل
كان أصل الجائزة هو ضرورة تقديم منفعة أو خدمة للبشرية، وقد حصلت بذلك عدة شخصيات شهيرة على هذا التكريم العالمي، لكن انتقادات لاحقت عملية اختيار اللجنة بعض الفائزين الذين اعتبروا أحيانا غير جديرين بها.
تريد مثالا
تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية وصفها بـ"نوبل العار"، حيث منحت جائزة نوبل للطب عام 1949 للبرتغالي آنتونيو إيغاس مونيز عن اختراعه "عملية فصل فص المخ الجبهي للمرضى الذين يعانون أمراضا نفسية، إلا أن العملية أثبتت فشلها الكامل فيما بعد.
إليك دليل آخر، عام 1953 فاز رئيس الصليب الأحمر الأمريكي جورج مارشال مؤسس "مشروع مارشال" لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بجائزة نوبل للسلام، رغم أنه هو نفسه كان قائداً للقوات العسكرية الأمريكية في أثناء الحرب الأمريكية الفلبينية.
دليل آخر قد يضرب مصداقية الاختيار.. منحت جائزة نوبل للسلام لمتحاربين وصلوا لتوهم من ميدان المعركة إلى مائدة المفاوضات فسلمت مناصفة عام 1973 لكل من الأمريكي هنري كيسنجر والفيتنامي دوك تو، فساوت الجائزة بين المعتد والضحية.
وخلاف أمريكا وروسيا كان حاضرا في نوبل، فالحصيلة الأكبر من الجوائز كانت من نصيب أدباء أمريكا، في وقت حجبت عن روسيا وحتى إن نالها روسي، فإما أن يكون منشقا أو معارضا لسياسات الكرملين!
ففي عام 1997 مُنحت جائزة نوبل للاقتصاديَّيْن الأمريكيين روبرت ميرتون ومبيرون سكولس، لفتحهما آفاقاً جديدة في مجال التقييمات الاقتصادية، إلا أن الشركات المالية التي طبّقَت نظريتهما خسرت بعد ذلك مليارات الدولارات.
وكانت المفاجأة بحصول الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما على جائزة نوبل للسلام عام 2009 بعد أشهر قليلة من تولّيه الحكم، فانتقد كثيرون خيار اللجنة، معتبرين أن أوباما لم يقدم شيئاً للسلام آنذاك.
وتطول القائمة لتطرح أسئلة جادَّة عن المعايير والاعتبارات التي تقف وراء قرارات اللجنة، وإن كانت تحاول فقط التحري لمنح الأكْفاء والجديرين بالجائزة. فالفائز لا يعني أنه الأحق بها في زمانه إنما يعني أنه طلبها أو طلبت له، وقد يكون في زمان الفائز بها مَن هو أكثر خدمة للسلام وللبشرية، ولكنه لم يحظَ برضاء أعضاء لجنة التحكيم.
في النهاية إذا كانت شروط الجائزة محيّرة وأموالها مشبوهة وصاحبها مرتكبا لأكبر جريمة في القرن العشرين فلا تستبعد ما بها من انحرافات، وبعد المائة عام صناعة المفرقعات والمتفجرات مزدهرة وفي الوقت نفسه توجه جوائز للأدب وللسلام، وكأن نوبل حي بيننا يمنح الجوائز بيد ويقتل باليد الأخرى.