المتغيرات النفسيّة وأثرها على الوضع الغذائي وتصويب الهدف – ريده الحبيب*

من خلال عملي اليّومي في لقاء مختلف أنماط الشخصيّات من المراجعين،، أحاول رصد الحالات الأكثر تكراراً أو تعقيداً او غرابة، لأنّها تستحق التمعّن والتركيز والتي قد تثير لدّي الرّغبة في متابعة الحالة وتطوير خطة العلاج والتي قد تستدعي تدخّل التخصّصات الأخرى للمشاركة في علاج الحالة.
ومن أكثر ما يتردّد عليّ بالعيادة مؤخّراً الحالات المنهكة نفسيّاً من مختلف ضغوطات الحياة والتي تنعكس بدورها على تغذية الفرد مابين زيادة الوزن أو نقصانه وما بين نشوء مشاكل صحّية قد تصاحب مشكلة الوزن.


مصدر الصورة: hindustantimes.com
وأذكرعلى سبيل المثال، حالات الاكتئاب، التهيّؤات، الخوف والهلع، التعب، الخمول وقلّة الطاقة والتركيز، القلق والتوتر والأرق، الوحدة، وانعدام الحياة الاجتماعية، والمشاكل العائليّة والوظيفيّة. نّاهيك على ما ذكرت أنّ هذه المشاكل تشمل النساء والرجال والأطفال بمختلف الأعمار.
حقيقة لا توجد لديّ إحصائيّة بذلك ولكن هي شواهد يوميّة ومتكرّرة.
؛؛وفي تحليلي الشّخصي، فإنّ متغيّرات الحياة وعصر العولمة والتعلّق بالحياة الاجتماعيّة الإلكترونية، واختلاف أوقات الدوام العملي والساعات الطويلة والمتقلّبة، واختلاف نمط الدراسة ترك أثراً سلبيّاً في غالبه، حيث انعكس كل ذلك على علاقة الفرد مع نفسه كابتعاده عن القراءة الإيجابية من مصادر الكتب المفيدة للتحصيل المعرفي. وإهمال ممارسة الهوايات الجميلة والمفيدة وانعكاسها على النفسيّة والحياة عموماً، وتقلّص العلاقات الأسريّة والاجتماعية، وكذلك ضعف الوازع الدّيني لدى البعض للأسف؛؛


مصدر الصورة: careermonk.in
وحينما نلقي نظرة على إحصائيّات منظّمة الصحّة العالميّة نجد أنّه في العام ٢٠١٩، كان هنالك شخص واحد من كل ٨ أشخاص أو ٩٧٠ مليون شخص في جميع أنحاء العالم مصابين باضطراب نفسي وكان القلق والاكتئاب الشكلين الأكثر شيوعاً من تلك الاضطرابات.
أمّا عام ٢٠٢٠، فقد شهد ارتفاعاً كبيراً في عدد من يعانون من اضطرابات القلق والاكتئاب بسبب جائحة كوفيد ١٩، حيث تبيّن التقديرات الأوليّة زيادة في اضطرابات القلق بنسبة ٢٦٪ واضطرابات الاكتئاب الرئيسيّة بنسبة ٢٨٪ خلال عام واحد فقط.
وفي العام ٢٠١٩، كان هنالك ٣٠١ مليون شخص مصابين باضطراب القلق، منهم ٥٨ مليون طفل ومراهق تتنوّع ما بين القلق والخوف المفرط والاضطرابات السلوكيّة والهلع.


وفي نفس العام كان هنالك ٢٨٠ شخص مصابين بالاكتئاب، منهم ٢٣ مليون طفل ومراهق، وتختلف حالات الاكتئاب ما بين تكدّر المزاج، فقدان المتعة أو الاهتمام بالأنشطة مع الشعور بضعف التركيز أو الإفراط في الشعور بالذنب وضعف تقدير الذّات أو اليأس واضطرابات النوم وتقلبات الشهيّة والوزن والشعور بالتّعب أو فتور الطاقة أكثر من العادة.
؛؛وتّم رصد ١٤ مليون شخص في ذات العام ٢٠١٩ يعانون من اضطرابات الأكل، منهم ٣ ملايين طفل ومراهق. وتشمل: فقدان الشهيّة العصبي والشره المرضي العصبي، سلوك الأكل غير الطبيعي والانشغال بالطعام، تاركة أثر سيّئ وخوف بارز من وزن الجسم وشكله، كل ذلك مخلّفاً ورائه مخاطر صحيّة وأضرار جسيمة أو قصور شديد في الآداء؛؛
وغالباً ما يبدأ من فقدان الشهيّة العصبي خلال فترة المراهقة أو في مطلع مرحلة البلوغ والذي قد يرتبط بالوفاة المبكّرة بسبب المضاعفات الطبيّة أو الانتحار. أمّا الأفراد الذين يعانون من الشّره المرضي العصبي فيتعرضون لمخاطر تعاطي مواد الإدمان بشكل كبير وكذلك الانتحار والمضاعفات الصحيّة ومن ضّمنها السّمنة والسّمنة المفرطة.
كما وجد في نفس العام ٤٠ مليون شخص منهم أطفال ومراهقين يعانون من اضطراب السلوك غير الاجتماعي وهو سلوك فوضوي معادي للمجتمع مثل التحدّي والعناد وانتهاك حقوق الآخرين والأعراف والقوانين المجتمعيّة.


مصدر الصورة: .supernanny.co.uk
وأُضيف إلى كل ما ذكر، اضطرابات نموّ الجهاز العصبي، انفصام الشخصيّة واضطراب الكرب التالي للوضح (اضطراب ما بعد الصّدمة) واضطراب ثنائي القطب.
قد يتعرّض الفرد الواحد من هذه الاضطرابات أو أكثر بسبب الظروف الشّاقة كالفقر المادي أو العاطفي والعنف والإعاقة وعدم المساواة بالرغم من قدرة معظم الناس على الصمود بوجه المصاعب حسب ما ذكرت ذلك منظّمة الصحّة العالميّة.
كما يوجد في موقع منظّمة الصحّة العالميّة تقريرات عن نسبة الانتحار والتي وُجد أنّها تنتشر بنسبة أعلى في المجتمعات المتحضّرة الغير متديّنة عن المجتمعات المتخلّفة لكنّها متديّنة. كما هو واضح في الفروقات بين معدّلات الانتحار ما بين بعض دول الغرب المتقدّمة مع بعض الدول العربيّة المتخلّفة، وقد أُرجح السبب أنّ للدّين دوراً في بناء الشخصيّة الهادفة والمستقرّة وفي مقاومة الإنسان لظروف الإحباط وضغوطات الحياة فلا يستسلم لها لأنّه يعيش مبدأ التوكّل والزهد والفناء في الله تبارك وتعالى.


مصدر الصورة: zeina-b.com
لذا، أقول لمن هم لدينا في المجتمع ولديهم معاناة مع الضغوط الحياتيّة والمجتمعيّة المختلفة أنّ لديكم كنز عظيم متمثّل في دين رسول الله صلّى الله عليه وآلة وسلّم والمنسجم مع الطبيعة البشريّة حيث يبيّنها ويعالج أمراضها ويرفع الاحتقانات والتوتّرات منها والذي قفز به لفوق مستوى الظروف الحياتيّة ممّا يدل على أنّه منتج إلهي وليس بشري.
وكما يظهر جليّاً في وصايا الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام لابنيه الحسن والحسين عليهما السلام في بيان قدرته الجبّارة من قوّة الإرادة حينما قال: “والله لو أُعطيتُ الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نّملة أسلبها جُلب شعيرة ما فعلته”.
وحينما قال (ع):
تركتُ الخلق طُرّاً في هواكَ وأيتمتُ العيال لكي أراكَ
فلو قطّعتني في الحبِّ إرباً لما مالَ الفّؤادُ إلى سواكَ
وقول الرسول الأعظم محمد صلّى الله عليه وآلة وسلّم سيّد الأخلاق الكريمة (تخلّقوا بأخلاق الله) ، وأخلاق الله أن نكون صادقين، أنقياء، لدينا من الحلم والبذل والجود، وأن نصبح مرآة لله، مظهراً لله، خليفة لله في أرضه، فالتخلّق بأخلاق الله يجعلنا شخصيّة رشيدة وسليمة وخالية من الأمراض النفسيّة.
وقول الله تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وهذا هو مبدأ التسليم لله تعالى بما آتانا الله وكتبه لنا، وغيره الكثير من المدلولات الإلهيّة.

؛؛والرابط في الموضوع هنا، إنّ الحالة النفسيّة تنعكس حتماً على الوضع الغذائي، فإذا كان الشخص يعاني من مشكلة في الوزن أو ما يصاحبها من مشاكل صحيّة أخرى فهو يواجه صعوبة في الالتزام بنظام غذائي ونمط حياة صحّي متغيّر من البعثرة والعشوائيّة التي تعيشه حياته المنهكة نفسيّاً؛؛
كثير من الحالات راجعتني بالعيادة ولديها شغف وحماس في بداية الأمر، سرعان ما يهفت ويتلاشى سريعاً ولا يستطيع الالتزام والاستمرار وبالتالي الخفق في تحقيق الهدف والرغبة مما قد يساهم في زيادة التقلّبات النفسيّة أكثر لإضافة عبئ جديد محزن لحياته، فنجد البعض يميل إلى كثرة تناول الطعام وتعويض النقص العاطفي بتناول المزيد من الطعام وبشراهة والتي تكون على الأغلب فارغة القيمة الغذائية وعالية السعرات الحرارية، لعلّها تفرغ الشحنات السلبيّة المسبّبة للضيق والكدر من وجهة نظرهم.
وهنا لابد من أن يقف الشخص المعاني مع نفسه قليلاً ويفكّر مليّاً فيما هو صانع ولِيعرف أنّه:

  • لن تنحل ضائقتك النفسيّة بالأكل البتّة.
  • ستزداد نفسيّتك سوء بعد الانتهاء من الأكل أو على الأقل بعد ظهور الزيادة في الكيلوجرامات المكتسبة من خلال الميزان والشكل الجسماني.
  • معاقبة النفس بهذه الطريقة تولّد ضعف القوّة النفسيّة والاستسلام لكل ما هو سلبي في الحياة.

وأذكّر هنا فيما ورد في هذا الموضوع، ما قاله لقمان لإبنه “يا بنيّ، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة” ، جامع السعادات ج2 – ص4.
وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: “لا تميتوا القلب بكثرة الطعام والشراب، فإنّ القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء” ، جامع السعادات ج2 – ص4. ويقول الإمام الباقر عليه السلام: “مامن شيء أبغض إلى الله عز وجلّ من بطن مملوء” ، جامع السعادات ج2 – ص4.
وكفى لشهوة البطن ذمّاً أنّها صارت منشأ لإخراج آدم وحواء من دار القرار إلى دار الذّل والافتقار، إذ نُهيا عن اكل الشجرة فغلبتهما شهوتهما حتى أكلا منها، فبدت لهما سوأتهما.
أمّا الأشخاص اللذين يميلون إلى عدم الرغبة في تناول الطعام وقلّة الاستمتاع بلذّة الطعام فهؤلاء يعانون من فقد الوزن المؤدّية إلى النحافة والتي تصل إلى الحد المرضي وتغيّر الشكل الجسماني إضافة إلى نشوء المشاكل الصحّية كفقر الدم وهشاشة العظام وتساقط الشعر وغيرها.
وعند هذه الحالات المتقدّمة فالأفضل الّلجوء إلى العيادات النفسيّة والتي تعتبر ركيزة علاجيّه هامّه لحل المشكلة ولا يجب الخجل والتحسّس من هذه الخطوة وهذا قبل زيارة عيادة التغذية والتي تنضم يداً بيد مع المعالجة النفسيّة، حيث أنّ اختصاصي التغذية لا يستطيع مساعدتك في حل مشكلتك إن لم تتمكّن من تجاوز مشكلتك النفسيّة بغض النظر عن قدرتك في تجاوز المشكلة المسبّبة للضائقة النفسيّة أو لا.


مصدر الصورة: washingtonpost.com
إذاً ملخّص ما ذُكر:

  • تذكر آثار الشره السلبيّة.
  • التأمّل في المفاسد المترتّبة على الولوع في الشراهه: من الذلّة، والمهانة، وسقوط الحشمة والمهابة، وفتور الفطنة، وحدوث العلل والأمراض الكثيرة.
  • قلّة تناول الطعام والحرمان منه يولّد مع الوقت اضطرابات نفسيّة تنعكس في رفض الطعام بشكل متزايد كلما طالت المدّة وهذا بدوره يخلّف وراءه مشاكل صحيّة.
  • من فوائد الاعتدال في تناول الطعام باعتماد قاعدة (لا إفراط ولا تفريط) يترك أثره على صفاء القلب ورقّته، إتقان الذهن وحدّته والالتذاذ بالمناجاة والطاعة والعبادة، الترحّم لأرباب الفقر والحاجة، كسر شهوات المعاصي، دفع النوم الذي يضيّع العمر، وصحّة البدن ودفع الأمراض.
  • تفهّم أهمية العلاج النفسي والسلوكي في حياتنا المعاصرة وعدم التخوّف أو الخجل منه إطلاقاً، وبحسب منظّمة مايو كلينك العريقة تعرّف لنا العلاج النفسي على أنه مصطلح عام لعلاج مشاكل الصّحة العقلية من خلال التحدّث مع طبيب نفسي أو أخصائي نفسي أو غيره من مقدّمي خدمات الصحة العقلية. في أثناء العلاج النّفسي، تتعرّف على حالتك وحالاتك المزاجيّة ومشاعرك وأفكارك وسلوكياتك، حيث يساعدك العلاج النّفسي على تعلّم كيفيّة السيطرة على حياتك وتحمّل المواقف الصّعبة من خلال مهارات التكيّف الصّحي.
  • هناك العديد من أنواع العلاج النّفسي، لكل منها منهجها الخاص. ويعتمد نوع العلاج النفسي المناسب لك على وضعك الفردي. يُعرّف العلاج النّفسي أيضًا باسم العلاج بالحوار، والاستشارة، والعلاج النّفسي، أو ببساطة العلاج.
  • التعاون مع إختصاصي التغذية بقدر الامكان واطلاعه على العقبات والصعوبات الحياتيةّ أو حتى النفسيّة ليتمكّن من مساعدتك في وضع الخطة العلاجيّة والسلوكيّة، والاستمرار بقدر الامكان معه والمحافظة على مواعيد الزيارة حتى في حالة الاخفاق في تحقيق الهدف من البداية.

*أخصائية تغذية علاجية ورياضية