هنري لورنس يلقي محاضرة بالمعهد الفرنسي في القاهرة (مواقع التواصل)علي الكفراوي
29/9/2022|آخر تحديث: 30/9/202212:36 AM (مكة المكرمة)
هنري لورنس (مواليد 1954) مؤرخ فرنسي، درس الأدب العربي في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية في باريس، ومنذ عام 2003 وهو يشغل كرسي أستاذ في كولاج دي فرانس للتاريخ المعاصر للوطن العربي، وحاول في كتاباته عن الشرق أن يبحث عن معرفة الآخر.
وتعلم العربية لإكمال دراسته العليا في بحث طبيعة العلاقات بين الشرق والغرب، متخذا حملة نابليون بونابرت نقطة فاصلة، ثم عاد إلى ما قبل الحملة بقرن من الزمان، وتقدم بعدها إلى الأمام قرنين، حتى وصل إلى عصرنا الراهن، ليعطي في النهاية صورة شاملة عن أوضاع العالم العربي على مدار القرون الثلاثة المنصرمة، وهي القرون التي احتك الشرق فيها بحداثة الغرب.
له العديد من المؤلفات، تدور معظمها عن الشرق العربي، وعلاقة الغرب بالعرب والإسلام، ولعل أهمها كتابه الموسوعي "مسألة فلسطين" الصادر في عدة مجلدات، وكتاب "الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر، الاستشراق المتأسلم في فرنسا (1698-1798)"، الذي ينظر للحملة الفرنسية على مصر كفكرة فرنسية نتجت عن رؤية الفرنسيين لمصر الفرعونية بوصفها جزءا من التاريخ الإغريقي والروماني القديم، وله أيضا كتب "بونابرت والإسلام" و"بونابرت والدولة اليهودية" و"المشرق العربي في الزمن الأميركي، زمن حرب الخليج إلى حرب العراق" و"أوروبا والعالم الإسلامي تاريخ بلا أساطير" وغيرها.
وألقى لورنس محاضرة قبل يومين في المعهد الفرنسي بالقاهرة، ضمن سلسلة محاضرات ميدان المنيرة التي يقدمها المعهد الفرنسي (وسط القاهرة).
جغرافيا تشغل السياسة الدولية
وحول الدافع الذي حدا به للكتابة عن فلسطين سفره الكبير المعروف، قال لورنس -في المحاضرة- إن ما سمّيته "مسألة فلسطين" كانت الغاية منه معرفة؛ كيف أن قطاعًا جغرافيًا صغيرًا يمكن مقارنته بإقليم فرنسي، لا يمتلك أيّ موارد اقتصادية، له مثل هذه الأهمية في الجغرافية الإستراتيجية والجغرافية السياسية الراهنة. هذا القطاع الصغير يشغل السياسة الدولية بشكل كبير، و"أدركت أن المسألة في غاية التعقيد: فالمرجعية التاريخية لفلسطين هي -أيضًا- في مرجعية المقدّس والديانات التوحيدية الثلاث".
ولورنس يرى أن الشرق فقد تميزه عن الغرب، وبدأ ينسحب من المشهد ويخرج من التاريخ، بل بدا الغرب والشرق نسخة واحدة شبيهة، وبالنظر إلى الأوضاع التي يعيشها الشرق، فمن المستحيل -حسب تعبيره- على المدى القريب أن ينتفض من رماده لابتكار نموذج بديل، مثل الأندلس، وما حدث هو محصلة للعولمة التي تنزع نحو قولبة حياة الناس في وعاء ومنظومة لا تميّز ولا تمايز فيهما.
المؤرخ والدور الاجتماعي
مؤخرا، أطلق هنري لورنس كتابه "التاريخ المفروض" الصادر عن دار النشر فايار في 2022، وضمنه أفكاره الثاقبة عن كتابة التاريخ، وخلاصة خبرته الطويلة، لا سيما كتابته من قبل الغرب، وعن العلاقة بين المعرفة والسلطة، وعن دور المؤرخ في المجتمع، كذلك يوضح مدى تطور الاستشراق والاستغراب بشكل موازٍ، من دون تعارض كل منهما مع الآخر، آخذا العالم الإسلامي مثالا على ذلك، كما يطرح الكاتب معالجة لأشكال العنف الحديث في القرنين العشرين والحادي والعشرين، ودلالة ارتباطهما الزمني بالمستقبل وبمنظورات قادمة تجعل من الممكن تبرير كل الوسائل، وعلاقة الاستشراق بالاستعمار.
وعن إسهامات التاريخ في الثقافة، تساءل هنري لورنس عن "علاقتنا بالتاريخ المعيش، الذي يعد مصدرا دائما للجدل في مواجهة نقاشات وتحديات الحاضر حول حركات ما بعد الاستعمار".
و"التاريخ المفروض" آخر كتب هنري لورنس، وهو نتاج تجاربه كمؤرخ، في مشوار تحولت الحكمة من خلاله إلى تجربة وخبرات، ويقول إن العمل مؤرخا يقوم على المتابعة للصور والأحداث، فضلا عن رؤية كثير من الصور التمثيلية، وإذا كانت هناك قواسم مشتركة بين أحداث حقبة ما ومسمياتها.
ويقول إن "المؤرخ يقوم بتحديد الوقائع من خلال العديد من إجراءات التحقق، وهذا يقودنا إلى سؤال الإنكار والأخبار الكاذبة، فيقول البعض هذه الواقعة لم تحدث، ولكن هنا يكون العديد من الوثائق، والإنكار هو لعبة لاعلاقة لها بالتفسير، وإلا سيسمح بالتشكيك بالوقائع، والتاريخ المعاصر لديه ثروة ضخمة من الوقائع والوثائق التي يحتمي بها التاريخ، في حين أن التاريخ اليوناني يفتقد الوثائق، وهناك العديد من الافتراضات التي شككت في حقائق العصر الروماني"، حسب قوله.
الاستشراق والنهضة الشرقية
وعن الاستشراق وعلاقته بالتاريخ، وأثر الاستشراق وعلاقته بالحقبة الاستعمارية، يريد لورنس أن يضفي على الاستشراق هالة نورانية، كونه هو الذي ساعد الدول المستعمرة في البحث عن هويتها، حسب تقديره، ويقول "الاستشراق لم يظهر إلا أواخر القرن 18 وتم تعميمه عالميا ابتداء من 1929، وهو ما أطلق عليه المستشرقون "النهضة الشرقية "، بمعنى أنهم كانوا ينهلون من أدب الشرق، واستفادوا به، هذا الأدب الذي ستكون له بصمة على الفكر والأدب الألماني".
ومن خلال اللقاء بين الأدب وعلم الآثار، ربط النقاد بين المعرفة التاريخية وعلم الآثار، وهو ما وصل إليه شامبليون بفك رموز حجر رشيد، واكتشاف الآثار المتعلقة بالحضارتين اليونانية والفينيقية، وبعد ذلك في 1840 جاءت اكتشافات متعلقة بالحضارة السومرية، واكتشافات ظهرت عام 1900 متعلقة بالحضارة الهلينية.
وهناك أيضا الاستشراق الفني، وهو البحث عن استشراق ملون زاه، فالاستشراق في أوروبا كانت له خيارات: إما الاكتفاء بالانطباعية، أو التوجه للشرق الذي لم تطله يد الثورة الصناعية، والمثير أن المستشرقين هم أكثر من قاموا برسوم الآثار الشرقية، مما يعطي الاستشراق نظرة خاصة، بمعنى أنه ليس هناك بعد متعلق بالفترة الاستعمارية، ولكن هناك تمثيلا بالحقبة الرومانية والحضارات الأخرى .
وكذلك هناك ما يسمى العلوم الاستعمارية التي نشأت عنها العلوم الاجتماعية في ما بعد، وهذا يطرح أيضا تساؤلات حول دور الاستشراق في المجتمعات، لأن هذا العلم قد ألقى الضوء على بعض الوقائع التاريخية للمجتمعات، فعندما كان البريطانيون في الهند تمت ترجمة الأدب السنسكريتي للغات الأوروبية، وما نتج عن ذلك من تعاون بين البراهمة والإنجليز ابتداء من النصف الأول من القرن 19، وكل الأدب الهندوسي وما تلاه من نزعة وطنية هندية يعود إلى تلك النزعة السنسكريتية، بل أعطوهم الحرية الدينية، وما تلاه من تعاون بين الدول المستعمرة والقوى الأجنبية المستعمرة في الجزائر ومصر والعراق وغيرهم، وهو الحديث عن نتاج مشترك بين الفقهاء الأوروبيين والإسلاميين، الذي ما زال مستمرا حتى وقتنا هذا.
سعيد ناقدا
وخصص هنري لورنس فصلا كاملا في كتابه عن إدوارد سعيد ومشروعه الذي أنجزه عن الاستشراق، إلى أن استقر كبحث مرجعي مؤسِس لمدرسة نقدية لها أعلامها في جميع القارات، وفي سؤال حول إذا كانت النقاشات الجارية في مجتمع المؤرخين سمحت بإعادة اكتشاف المفكر الفلسطيني-الأميركي الراحل إدوارد سعيد في حقبة ما بعد الاستعمارية.
لكن لورنس يبقى من بين المؤرخين القلائل الذين انتقدوا مقاربته للاستشراق، وحجته في ذلك أن إدوارد سعيد لم يكن مؤرخًا بل كان ناقدًا أدبيًا، كما لم يكن يمتلك ثقافة عن حقول وميادين الشرق التي كانت ستحميه من ارتكاب بعض الأخطاء البسيطة التي وردت في كتابه "الاستشراق".
ويقول هنري لورنس أن إدوارد سعيد كان قوة لا يمكن إزاحتها، ولكن "الشرق لم يكن ابتكارا من الغرب، وإنما هو حقائق تاريخية وثقافية، بمعنى أن النزعة الثقافية التي يعيبها إدوارد سعيد على الاستشراقيين طبّقها ناس عديدون منتمون إلى ثقافات الشرق أيضا".
واستدرك أن "الشرقيين هم من عرفوا أنفسهم بأنهم تابعون للغرب، ولكني أقول إن الشرق هو ملتقى الغرب، وإدوارد سعيد قام بكثير من التحليلات وقدم نقدا أدبيا، لكنه غير متخصص في العلوم الاجتماعية، لأن كل من تخصصوا في العلوم الاجتماعية دحضوا ما قاله إدوارد سعيد، وأضرب مثالا بذلك، ميشيل فوكو لم يتطرق لإدوارد سعيد ولم يذكره"، على حد تعبيره.
وكان إدوارد سعيد رأى أن "الاستشراق" شكل منذ أواخر القرن 18 أسلوبا غربيا للسيطرة على الشرق، مؤكدا أن دراسة الشرق من قبل الغربيين هي دراسة منحازة مدفوعة بأغراض استعمارية ووجهات نظر مسبقة ونظرة دونية لشعوب الشرق مهما حاولت أن تبدو علمية وموضوعية.