لوحة حطام السفينة للرسام جوزيف مالورد وليام تورنر (مواقع التواصل الاجتماعي)
الحياة بحر لُجّي يخوضه الإنسان تماما كما تخوض سفينة البحر، وكما أن الانتصار الوحيد الذي يتوق له ربان السفينة هو بلوغ الشاطئ، فإن الانتصار الوحيد الذي يتوق له أي إنسان هو النجاة من غمار الحياة سالما. وربما لهذا السبب، جذبت لوحات تحطم السفن عددا كبيرا من الرسامين.
وجه التشابه بين الإنسان والسفينة والحياة والبحر دفع رسامين كثيرين إلى تصوير هشاشة النفس البشرية في مواجهة تقلبات الحياة؛ كسفينة يستطيع البحر تحويلها إلى حطام في سويعات معدودة.
وكما أن المآسي على تعدد أشكالها كانت تتحول إلى دراما مسرحية على يد أدباء وفنانين عظام، فإن تحطم السفن صار عملا ملحميا على أقمشة اللوحات على أيدي رسامين كبار من أمثال الروسي إيفان إيفازوفسكي (Ivan Aivazovsky) (1817-1900).
برع إيفازوفسكي في رسم المسطحات المائية والمشاهد البحرية لدرجة أن الأديب الروسي أنطون تشيخوف كان يُشبه الأشياء الجميلة قائلا "جميل كأنه من صنع إيفازوفسكي".
وقد رسم إيفازوفسكي عددا من اللوحات الملحمية التي تناول موضوعها تحطم السفن، منها على سبيل المثال لا الحصر لوحة "حطام سفينة" المرسومة عام 1854 على المذهب الرومانسي.
إيفازوفسكي استطاع توظيف اللون في صنع جحيم يكتنفه الرعب من الغرق المحدق (مواقع التواصل الاجتماعي)
والمدرسة الرومانسية هي اتجاه في الرسم ظهر في مطلع القرن الـ19 في مواجهة الثورة الصناعية والفلسفات الشكوكية التي صاحبتها. وتميل الرومانسية إلى رسم مواضيع تمسّ الإنسان ومخاوفه ودواخله النفسية وتمثيلها بشكل ملحمي ودرامي، بعيدا عن المواضيع اللاهوتية العميقة التي سيطرت على عالم الفن في العصور الوسطى. ويعدّ إيفازوفسكي واحدا من أعلام الرومانسية، فقد حملت لوحاته طابعا خياليا وملحميا، بخاصة تلك المتعلقة بتحطم السفن.
نرى في اللوحة سيطرة اللون الرمادي الذي يرمز إلى العواصف الشديدة، وقد استطاع إيفازوفسكي توظيف اللون في صنع جحيم يكتنفه الرعب من الغرق المحدق: سفينة مائلة تكاد تنقلب من قسوة الموج وحدّته، متعثرة في البحر ولا تستطيع النجاة كما لا يستطيع البشر الخروج من غمار بحر الحياة.
ألا يكون هناك ميناء
في كتابه "اللاطمأنينة"، يقول الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا "إنّ المركب، أيّ مركب، هو أداة هدفها الإبحار، بيد أن الغاية الفعلية ليست الإبحار، وإنما الوصول إلى ميناء".
هذه الفكرة الفلسفية تبنّاها الرسام النرويجي كنود بادي (Knud Baade) (1808-1879) الذي اشتهر بشكل خاص بلوحات تحطم السفن في ضوء القمر، التي تميزت بالتناقضات القوية والدرامية بين الظل والنور. ونرى في لوحته "حطام السفينة"، المرسومة عام 1845، تمثيلا واضحا لفكرة عدم وجود ميناء.
يقف طائر بحري على صخرة ثابتا من دون حراك وهو يرى السفينة تغرق ويكاد يغمرها الماء. القمر يوشك أن يخرج من تحت السحب الرمادية الداكنة والبحر هادئ، إلا أن السفينة التي تغرق تعلن أن عاصفة شديدة انتهت منذ لحظات وأن معركة حامية الوطيس دارت هنا وانتصر فيها البحر لا الإنسان.
لوحة حطام السفينة للرسام النرويجي كنود بادي (مواقع التواصل الاجتماعي)
كدنا ننجو.. لكننا لم نستطع
يقدم رسام البحرية البريطاني "وليام جوي" (William Joy) (1803- 1865) في لوحته "سفينة محطمة قرب الساحل في الشتاء"، المرسومة عام 1867، فكرة مختلفة لتحطم السفن. هذه المرة تكاد السفينة تبلغ الشاطئ لكن البحر حال دون ذلك، والبحّارة يتعلقون عبثا بصواريها التي كاد يبتلعها الموج.
جمع آخر استقلّوا قارب النجاة وهم يصارعون الموج لبلوغ الشاطئ حيث يقف عديدون، في وسط اللوحة إلى أقصى اليمين، يشاهدون تلك الملحمة الدائرة، آملين في معجزة ما.
اللوحة بوجه عام مرسومة بحسّ دراماتيكي مترع بالعنفوان والحركة بحكم طبيعة الموضوع، لكنه يحمل في طياته صبغة ملحمية ونفسية حول الصراع الإنساني المرير الذي يخوضه البشر في وجه تقلبات الحياة.
لوحة "سفينة محطمة قرب الساحل في الشتاء" المرسومة عام 1867 (مواقع التواصل الاجتماعي)
النجاة بشق الأنفس
كما أن الحياة تحمل النقيضين (السعادة والتعاسة، النجاح والفشل، النجاة والهلاك) كذلك البحر. قدم الرسّام الفرنسي كلود جوزيف فيرنيه (Claude-Joseph Vernet) (1714-1789) في لوحته "سفينة محطمة في بحر عاصف" عاصفة بحرية شديدة تضرب خطا ساحليا صخريا، فيدحرج الموج سفينتين؛ واحدة لا تزال تقاوم أما الأخرى فترقد محطمة على الصخور.
لوحة "سفينة محطمة في بحر عاصف" للرسّام الفرنسي كلود جوزيف فيرنيه (مواقع التواصل الاجتماعي)
اللوحة عبارة عن ملحمة من السفن المضطربة والرياح الهائجة والسحب الداكنة المخيفة والأجواء الموحشة، يتخلل تلك الملحمة بعض البشر الذين يظهرون في هيئة متقزمة مقارنة بعنف الطبيعة التي تضربهم.
خطوط البرق الملتهبة على اليمين أشبه بخطوط من النار، أما غيوم الرعد القاتمة فتغطي الشمس. في الأسفل، تنكسر أمواج ضخمة فوق الشاطئ وتعود بقوة مثل الشلالات مرورًا بالمنحدرات، وتظهر امرأة فاقدة للوعي على صخرة يحملها عدد من الأشخاص. كذلك هناك محاولات إنقاذ لآخرين، في أسفل اللوحة، كانوا على متن السفينة المحطمة أيضًا.