مدينة الإعلام في مانشستر بإنجلترا حيث موقع أستوديوهات البث الأرضي الجديدة لهيئة الإذاعة البريطانية للتلفزيون والراديو في المملكة المتحدة بي بي سي (شترستوك)
اقترن اسمها -منذ انطلاقها في يناير/كانون الثاني 1938- بدقات ساعة "بيغ بن" والعبارة الشهيرة لمذيعيها "هنا لندن"، لكن هذا الصوت الذي سمعه المستمعون العرب على مدار 84 عاما سيتوقف ليصبح تاريخا وذكرى؛ بعد إعلان الهيئة البريطانية وقف البث الإذاعي بلغات عدة بينها العربية.
وسيخسر نحو 400 عامل في الخدمة العالمية في شبكة "بي بي سي" (BBC) وظائفهم ضمن برنامج لخفض التكاليف والانتقال إلى المنصات الرقمية، حسب ما أعلنت المؤسسة البريطانية أمس الخميس.
وقالت "بي بي سي" إن خدمتها العالمية بحاجة إلى توفير 28.5 مليون جنيه إسترليني (31 مليون دولار) ضمن تخفيضات أوسع بقيمة 500 مليون جنيه إسترليني.
وكشفت الشبكة نهاية يوليو/تموز الماضي عن خطط لدمج قناة "بي بي سي" الإخبارية العالمية بالقناة البريطانية المحلية للشبكة، وإطلاق القناة الجديدة في أبريل/نيسان 2023.
وتُبث خدمة "بي بي سي" العالمية حاليًّا بـ40 لغة، ويشاهدها أسبوعيًّا نحو 364 مليون شخص.
عادات الجمهور
لكن عادات الجمهور آخذة بالتغيّر، حسب الشركة، وبات مزيد من الناس يصلون إلى الأخبار عبر الإنترنت، وذلك يعني أن الانتقال إلى "الرقمنة أولًا" منطقي من الناحية المالية، خصوصًا في ظلّ ارتفاع تكاليف التشغيل.
وقالت الشركة في بيان على الإنترنت إن "طروحات اليوم تنطوي على إغلاق إجمالي صافي 382 وظيفة"، و11 خدمة لغوية بالأساس هي رقمية فقط: الأذربيجانية والبرازيلية والماراثية والموندو والبنجابية والروسية والصربية والسنهالية والتايلاندية والتركية والفيتنامية.
وستنضمّ خدمات بـ7 لغات إلى الخدمات الرقمية حصرًا ضمن خطط إعادة الهيكلة، هذه الخدمات بالصينية والغوجاراتية والإيغبو والإندونيسية والبيدجين والأوردو واليوروبا.
وستتوقف الخدمات الإذاعية بالعربية والفارسية والقرغيزية والهندية والبنغالية والصينية والإندونيسية والتاميلية والأردية، إذا تمت الموافقة على المقترحات من قبل الموظفين والنقابات.
ولن تتوقف أي خدمة لغوية، حسب الشركة البريطانية، غير أن بعض مراكز الإنتاج ستنتقل إلى خارج لندن. وستنتقل الخدمة التايلاندية إلى بانكوك والخدمة الكورية إلى سول والخدمة البنغالية إلى دكا، وسيُبثّ برنامج "Focus on Africa" (أضواء على أفريقيا) من نيروبي، حسب "بي بي سي".
التحول الرقمي
وقالت مديرة الخدمة العالمية في "بي بي سي" ليليان لاندور إن هناك "حجة مقنعة" لتوسيع الخدمات الرقمية، فقد زاد عدد المشاهدين أكثر من الضعف منذ عام 2018.
وأضافت أن "الطريقة التي يصل بها الجمهور إلى الأخبار والمحتوى آخذة في التغير، كما أن التحدي المتمثل في الوصول إلى الناس وإشراكهم في جميع أنحاء العالم بصحافة ذات جودة وموثوقية آخذ في الازدياد".
وُتموّل خدمة "بي بي سي" العالمية من رسوم الترخيص في المملكة المتحدة، حاليًّا 159 جنيهًا إسترلينيًّا للتلفزيون الملون وتدفعها الأسرة لدى شراء جهاز تلفزيون.
وأعلنت الحكومة تجميد رسوم الترخيص في وقت سابق من العام، وعُدّ ذلك هجومًا على مؤسسة بريطانية عريقة.
لكن وزراء رأوا أن نموذج التمويل يحتاج إلى المراجعة بسبب التغيرات التكنولوجية.
تاريخ طويل
في عام 1936، ساعدت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) مكتب الاستعمار البريطاني في إنشاء "خدمة إذاعة فلسطين" في القدس، وهي إذاعة على الموجة المتوسطة كان الهدف منها بث وجهات النظر البريطانية إلى العالم العربي.
في ذلك الوقت كان البث الإذاعي الإيطالي باللغة العربية يبث على موجة متوسطة من مدينة باري الإيطالية (وأصبح أيضا يبث من موجة قصيرة من روما بدءًا من عام 1934)، وكان يهاجم السياسات البريطانية بشدة لا سيما بعد الحرب الإيطالية الإثيوبية الثانية.
وفي السنوات التي سبقت إنشاء خدمة اللغة العربية في "بي بي سي" عام 1938، كانت هناك خطط لدى وزارة الخارجية البريطانية لإطلاق بث إذاعي في قبرص التي كانت وقتئذ مستعمرة للتاج، وكان ينظر إليها على أنها أكثر استقرارًا من فلسطين وقت الانتداب البريطاني.
في ذلك الوقت، دارت نقاشات في هيئة الإذاعة البريطانية بخصوص المعايير الإخبارية والمهنية، وتجنب الوقوع في أعمال الدعاية. وفي عام 1938، وبعد 16 عامًا من تأسيس هيئة الإذاعة البريطانية، بدأت البث باللغة العربية لمدة 65 دقيقة، لتصبح إذاعة "بي بي سي" العربية واحدة من أقدم وأطول الخدمات الإخبارية باللغة الأجنبية في تاريخ بريطانيا.
وفي عام 1940، زادت مدة البث إلى ساعة و25 دقيقة، وما يقرب من ساعتين بحلول عام 1942، وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية كان بث اللغة العربية يمتد 3 ساعات، واستخدمت اللغة العربية الفصحى للبث.
ظهر أول بث في عام 1938 في نشرة إخبارية واحدة، ولاحقًا بحلول عام 1940 ظهرت نشرة إخبارية ثانية بعد قراءة القرآن في الصباح.
وفي عام 1942، تم بث نشرة إخبارية ثالثة في "منتصف النهار" في الساعة 10:45 بتوقيت غرينتش الموافق 12:45 بالتوقيت المحلي في بلاد الشام.
وفي حين أن النشرات الإخبارية كانت في الأساس ترجمات لأعمال "الخدمة الإمبراطورية" (Empire Service) باللغة الإنجليزية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، كانت الإذاعة على اتصال مباشر مع المناصب الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية في الخارج كمصدر إذا كانت أخبارًا محلية. وفي عام 1943 أنشأت الدائرة العربية مكتبًا في القاهرة، فأتاح ذلك جمع الأخبار المباشرة من مصادر بالشرق الأوسط.
وكان نقاش الموضوعية حاضرا طوال تاريخ إذاعة "بي بي سي" العربية، واتهمت الإذاعة العريقة -في موطنها- بالانحياز للتيار الليبرالي التقدمي. واختارت هيئة الإذاعة البريطانية بحلول منتصف القرن الـ20، بعد مزاعم مستمرة من الحكومة الإسرائيلية بالتحيز ضد إسرائيل، إنشاء منصب تحريري رفيع لتقديم المشورة لها لا سيما في تغطية قضايا الشرق الأوسط.
وفي كتاب "إعادة الظهور الاستعماري: المشروع الثقافي للإمبراطورية البريطانية المتأخرة" (Imperial Encore: The Cultural Project of the Late British Empire)، الصادر عن مطبعة جامعة كاليفورنيا 2021، استكشفت المؤلفة كارولين ريتر -المؤرخة المتخصصة بدراسة تاريخ الإمبراطورية الحديثة- كيفية استخدام الصناعات الثقافية ضمن إستراتيجية إطالة عمر الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا، وتقول المؤلفة إن تقنيات الراديو الجديدة آنذاك وضعت في خدمة مصالح الإمبراطورية.
وترى المؤلفة أن بريطانيا بعد أزمة السويس عام 1956 (العدوان الثلاثي) بدأت تتعامل مع قضية إنهاء الاستعمار من خلال توجيه خطابها للجماهير والسكان الأصليين في أفريقيا، وعبر تأكيدها أنها مع الاستقلال الأفريقي، فوجدت "بي بي سي" نفسها لأول مرة "مضطرة إلى التنافس من أجل جمهور ما بعد الاستعمار، في اللحظة التي "أصبح فيها الجمهور أكثر أهمية".