الدرس الثالث والاربعون (القراءات والقرّاء)
الملاحظ أنّ هناك قراءات عديدة للآيات القرآنية، والمشهور منها حالياً سبع قراءات منسوبة لسبعة من القرّاء. وقد تعدّدت الآراء حول القراءات المتعدّدة للقرآن الكريم، ومدى اعتبارها، والضوابط الدقيقة للقراءة المعتبرة.
وقد ادعى البعض تواتر القراءات السبع المشهورة، قال الزركشي: "والقراءات السبع متواترة عند الجمهور"(1)، ونسب الزرقاني القول بتواتر القراءات العشر الى "المحقّقين من الأصوليين والقرّاء كابن السبكي وابن الجزري والنويري..."(2).
ويجدر بنا أن نشير الى تاريخ القراءات وأسباب تعدّدها، فنقول:
يرجع الاختلاف بين القراءات الى عصر الصحابة عقيب وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما تشير إليه المصادر التاريخية، "حيث عمد جماعة من كبار صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد وفاته الى جمع القرآن في مصاحف، كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل والمقداد بن الأسود وأضرابهم، وربّما اختلفوا في ثبت النص أو في كيفية قراءته، ومن ثمّ اختلفت مصاحف الصحابة الأولى"(3).
ويشير ابن أبي داوود الى أنّ المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه لم يخل من لحن، حيث ذكر انّ المصحف المذكور قد عرض على عثمان فقال: "قد احسنتم واجملتهم أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ثمّ قال: أما لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا"(4).
اذن فقضية اختلاف القراءات ليست وليدة العصور المتأخرة، وانّما تمتد إلى عصر الصحابة، بل تدل بعض النصوص - بغض النظر عن صحّتها - الى تعدد القراءات في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم).
منها: ما روي عن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها فدخلنا جميعاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ودخل ثالث فقرأ كل واحد منّا غير قراءة صاحبه فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يحسّن الجميع..."(5).
ومنها: ما عن زيد بن أرقم قال: جاء رجل الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال: أقرأني عبدالله بن مسعود وزيد وأُبي فاختلفت قراءتهم، بقراءة أيّهم آخذ؟ قال: فسكت رسول الله...(6).
ومنها: ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)... فانطلقت به أقوده الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم). فقلت: إنّي سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تُقرئنيها.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أرسِلْه، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): "كذلك أُنزلت، إنّ هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف. فاقرأوا ما تيسّر منه"(7).
وهناك عدد آخر من النصوص بهذا المعنى رواها علماء الجمهور. وإن كنّا نتحفظ بالنسبة لمضمون بعضها المتضمن لاختلاف القرآن المُنزل.
تدوين القراءات المشهورة
اتّضح من خلال ما تقدّم انّ ظاهرة تعدد القراءات كانت معروفة منذ عصر الصحابة، وقد انتقلت الى المسلمين
الذين تعلّموا القرآن منهم، وساهمت عدّة عوامل - سنشير إليها - في تعميق الاختلاف بين القراءات، وتكثيره، حتى صارت القراءة فنّاً كسائر الفنون.
وتجرّد - في فترة لاحقة - قوم لفنّ القراءة واعتنوا به حتى اشتهر فيه جماعة عُرفوا بالقرّاء، ولكل واحد منهم قراءة يتميّز بها.
وقد تصدّى المهتمون ببحوث القرآن الكريم الى ضبط هذه القراءات وجمعها.
فذكر ابن الجزري انّ أول من تصدى لتدوين القرّاء وقراءاتهم هو أبو عبيد القاسم بن سلام الأنصاري (ت: 224) تلميذ الكسائي، وقال: "وجعلهم فيما احسب خمسة وعشرين قارئاً، بما فيهم السبعة الذين اشتهروا فيما بعد".
وجاء بعده أحمد بن جبير بن محمد أبو جعفر الكوفي (ت: 258) فجمع كتاباً في قراءات الخمسة من كل مصر واحداً.
ثمّ القاضي اسماعيل بن اسحاق - صاحب قالون - (ت: 282) ألّف كتاباً جمع فيه قراءة عشرين قارئاً.
ثمّ ألّف أبو جعفر الطبري (ت: 310) كتاباً حافلاً سمّاه الجامع فيه نيّف وعشرون قراءة.
الى أن جاء ابن مجاهد أبو بكر أحمد بن موسى (ت: 324) فألّف كتاباً اقتصر فيه على قراءات السبعة فقط(8). وبعده ألّف الآخرون على منواله.
وهكذا نلاحظ أنّ تعيين هؤلاء القرّاء السبعة وتمييزهم عن غيرهم كان مصدره ابن مجاهد في القرن الرابع الهجري. ولم يميّزهم الذين سبقوه في تدوين القراءات والقرّاء.
1- مناهل العرفان: 1 439.
2- تلخيص التمهيد: 1 213.
3- المصاحف لابن أبي داوود: 32 - 33.
4- مسلم: 2 203، مسند أحمد: 5 127.
5- المستدرك: 2 323.
6- الجامع الصحيح: 3 339، حديث 4992.
7- يراجع البيان: 178.
8- تلخيص التمهيد: 1 159.
الدرس الرابع والاربعون (أهم عوامل اختلاف القراءات)
نستطيع أن نعتبر أهم العوامل التي أدّت الى اختلاف القراءات ما يلي:
1 - عدم دقّة بعض الصحابة ومن أخذ عنهم في حفظ الآيات، ولذلك نجد أنّ بعض القراءات تختلف في الكلمات زيادةً ونقيصة، أو تتباين كلماتها، ولعلّ من ذلك ما روي عن يزيد النخعي قال: انّي لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة... واختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا "وأتمّوا الحج والعمرة للبيت" وقرأ هذا: (وأتمّوا الحج والعمرة لله)(1).
2 - بداءة الخط الذي كتبت به المصاحف.
حيث لم يكن الخط متطوّراً آنذاك، ولم تكن له قواعد دقيقة، ويمكن أن نسجّل - في هذا المضمار - الملاحظات التالية - في الخط - التي قد تكون منشأ لاختلاف القراءات:
أ: عدم التنقيط، ولعلَّ منشأ ذلك قراءة الكسائي (إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبّتوا)(2). وقرأ الباقون (فتبيّنوا). ومنه قراءة ابن عامر وحفص (ويكفّر عنكم)(3). وقرأ الباقون (نكفّر عنكم).
ب: تجريد الحروف عن الحركات ونحوها من العلامات، فقد قرأ نافع قوله تعالى: (ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم)(4) بصيغة النهي، بينما قرأها الباقون بصيغة المضارع المجهول.
ج: إسقاط الألفات: فقد قرأ أبو جعفر والبصريّون (وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة)(5)، وقرأ الباقون (واعدنا).
3 - اختلاف لغات العرب ولهجاتهم.
مثل (نستعين) قال الفرّاء: "هي مفتوحة في لغة قيس وأسد، وغيرهم يقولونها بكسر النون"(6).
4 - تحكيم الرأي والاجتهاد.
ويبدو أنّ هذا من العوامل المهمّة لاختلاف القراءات، روى أبو جعفر الطبري والحاكم النيسابوري - وصحّحه - عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: ﴿غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾(7) هي من خطأ الكاتب، وإنّما هي (حتى تستأذنوا وتسلّموا)(8). وقد تقدّمت مجموعة أخرى من النصوص. هذه هي أهم العوامل التي أدّت الى اختلاف القراءات وربّما تكون هناك عوامل أخرى، تعرّضت لها المصادر المطوّلة.
وبعد أن عرفنا اختلاف القراءات وأهم عوامل هذا الاختلاف فلابدّ من تحديد ضوابط القراءة الصحيحة المعتبرة، وعدم الاعتماد على غيرها من القراءات غير الثابتة. وهذا ما سوف نشير إليه إن شاء الله تعالى.
أمّا ما هي الضابطة المعتمدة في اختيار القراءة الصحيحة فنقول: أشرنا آنفاً الى أنّ كثيراً من علماء الجمهور اعتمدوا القراءات السبع المعروفة، وبعضهم اعتمد القراءات العشر - التي سنشير الى أصحابها - وقد أشرنا وسنوضح عدم الخصوصية لهذه القراءات بالنسبة لغيرها.
أمّا أتباع أهل البيت(عليهم السلام) فيعتمدون كل قراءة كانت مألوفة في عصور الأئمة(عليهم السلام) في الصلاة وغيرها، كما نصّ على ذلك السيد الحكيم (قدس سره)(9)، وغيره من الفقهاء.
لأنّ عدم ردع الأئمة من آل البيت(عليهم السلام) عن أية قراءة مألوفة في عصورهم دليل على اعتبارها كلها عندهم(عليهم السلام)، بل تضمّنت بعض النصوص الحث على القراءة المألوفة بين الناس.
وعلى كل حال، لاشك في اعتبار النسخة المتداولة من القرآن الكريم التي هي قراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي - برواية حفص - التي أخذها عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعدد آخر من الصحابة، وقد حكى الذهبي عن حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن قال "لم أخالف علياً في شيء من قراءته، وكنت أجمع حروف علي، فألقى بها زيداً في المواسم بالمدينة فما اختلفنا إلاّ في التابوت كان زيد يقرأ بالهاء وعلي بالتاء"(10).
وروي أنّ زيد لمّا قرأ (التابوه) قال علي (عليه السلام) اكتبه (التابوت) فكتبه كذلك(11).
1- يراجع سورة الحجرات: 6.
2- يراجع سورة البقرة: 271.
3- يراجع سورة البقرة: 119.
4- يراجع سورة البقرة: 51.
5- كتاب سيبويه: 2 257.
6- سورة النور: 27.
7- جامع البيان: 18 87.
8- المستمسك: 6 245.
9-
10- سير أعلام النبلاء: 2/426.
11- تدوين القرآن: 345.
يتبع