الدرس الحادي والاربعون(جمع القرآن)
من الأبحاث الهامّة التي تبحث عادة في علوم القرآن قضية جمع القرآن، والعصر الذي تمّ فيه ذلك.
ونشير هنا إلى أن الجمع قد يطلق ويراد منه أحد أربعة معان:
أولاً: الحفظ (في الصدور)
وقد فسّر البعض الأحاديث الواردة في أنّ بعض الصحابة جمع القرآن في عهد رسول الله بأنّهم قد حفظوه، مثل ما أخرجه النسائي عن عبد الله بن عمر انّه قال: جمعتُ القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي (ص) فقال: اقرأه في شهر...(1).
وكذلك ما أخرجه ابن أبي داوود عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله خمسة من الأنصار معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري(2).
ويبدو أنّ هناك عدداً من الصحابة كانوا يحفظون القرآن الكريم، وفي مقدّمتهم الإمام علي (عليه السلام) كما اشارت إليه مجموعة من النصوص.
الدرس الثاني والاربعون (ترتيب القرآن)
من البحوث التي اُثير حولها الجدل تحديد الفترة التي تمّ فيها الترتيب الحالي بين الآيات والسور القرآنية، وانّه هل كان كذلك منذ زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو أنّه أمر استحدث بعده (صلى الله عليه وآله وسلّم)؟
ويفترض البحث في نقطتين..
الأولى: في الترتيب بين الآيات القرآنية ضمن السورة الواحدة
الصحيح انّ القرآن الكريم الموجود بين أيدينا يمتد في ترتيب آياته الى عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم). وتوجد على هذا عدّة شواهد..
الأول: انّ السورة القرآنية مهما اختلفت آياتها في المضامين وتاريخ النزول فهي تمثل وحدة جامعة للآيات التي تتضمنها وفق التسلسل الخاص فيما بينها.
فهي نظير كلمة المتكلم والرسالة والكتاب، فكما يكون التغيير في تسلسل مقاطع الكلمة أو الرسالة أو في تسلسل فصول الكتاب تلاعباً به وخيانة لصاحبه، فكذلك التغيير في ترتيب آيات السورة الواحدة، فإنّه يعتبر تحريفاً وتلاعباً بالقرآن الكريم، لأنّ التسلسل الخاص بين الآيات دخيل في هيئة السور القرآنية، فالنصوص الواردة في فضل أية سورة لوحظ فيها الترتيب الخاص بين آياتها. وكذلك باقي أحكام السورة.
ولذلك لا يجوّز الفقهاء التغيير في آيات السورة الواحدة في الصلاة. فكل تغيير في ذلك يعتبر نوعاً من التحريف في القرآن. فتنفيه أدلة نفي التحريف المتقدّمة، خصوصاً عندما نلاحظ أنّ هذا التغيير يصحبه عادة تغيّر السبك أو تغيّر المعنى واختلاف فهم مضامين الآيات.
الثاني: وجود العديد من النصوص الدالة على انّ الترتيب بين الآيات كان يتمّ بأمر من الرسول نفسه.
منها: ما أخرجه أحمد بن حنبل بإسناده عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذ شخَص ببصره ثمّ صوّبه، ثمّ قال: "أتاني جبرئيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة الى آخرها"(1).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) "وإنّما كان يعرف انقضاء السورة بنزول "بسم الله الرحمن الرحيم" ابتداءً للأخرى"(2) مما يكشف عن تميّز السور في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم).
ومنها: الأحاديث الواردة في خواتيم بعض السور أو أوائلها، مثل ما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعاً: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" وفي لفظ آخر: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف"(3).
ونظيره ما رواه الكليني بسنده عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "ما من عبد يقرأ آخر الكهف إلاّ تيقّظ في الساعة التي يريد"(4).
وكذلك ما ورد في آثار وفضل أوائل أو اواخر السور الأخرى، ممّا يعني ترتّب الآيات ضمن تسلسل محدّد منذ عهد الرسول وآل بيته (صلوات الله عليهم). وقد ادّعى عدد من الباحثين في علوم القرآن الإجماع على ذلك، منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته(5)، والسيوطي في الاتقان(6).
النقطة الثانية: الترتيب بين السور
وقد اختلف العلماء والباحثون في ذلك، فمن يرى أنّ جمع القرآن ضمن مصحف واحد قد تمّ في عهد الخلفاء بعده ذهب الى ان الترتيب الفعلي بين السور قد حدث آنذاك، بينما يرى آخرون - كابن الانباري والسيد المرتضى - أن الترتيب المذكور توقيفي قد تولاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم).
وبما أنه لا تترتب على ذلك ثمرة مهمة لا موجب لإطالة الكلام فيه.
1- تفسير العياشي 119، مستدرك الوسائل 4165.
2- الاتقان: 1 213.
3- أصول الكافي: 2 632.
4- الاتقان: 1 211.
5- المصدر.
6- راجع البرهان: 1 318.
يتبع