مواقف من النقد القديم
.
الصاحب بن عباد .. كان عالما فصيحاً، سريع البديهة، كثير المحفوظات، متكلماً، محققاً، نحوياً، لغويا، ولجلالة قدرهِ وعظيم شأنه مدحه خمسمائة شاعر، ولأجله ألف أبو منصور الثعالبي كتاب يتيمة الدهر، وابن بابويه كتاب عيون أخبار الرضا. «كان أول من سمي بالصاحب من الوزراء لأنه صحب الملك مؤيد الدولة البويهي من الصبا، فسماه بالصاحب فلقب به، وكان أبوه وجدُّه من الوزراء، فنشأ في بيت فضل وعلم ووزارة وجلالة ووجاهة».
=
ومِن الانتقادات التي وجَّهها الصاحب للمتنبي وعابه بها: كونه لا يُحسن اختيار الألفاظ والعبارات التي تلائم مقامها، كما لا يراعي طبيعة المخاطَب، ومن ذلك قوله في رثاء أم سيف الدولة:
بعيشكِ هل سلَوتِ فإنَّ قلبي
وإن جانبتُ أرضَكِ غيرُ سالي
.
فينتقده الصاحب قائلاً: "إنما يقول مثل ذلك من يرثي بعض أهله، فأما استعماله إياه في هذا الموضع، فدالٌّ على ضعف البصر بمواقع الكلام"، فالصاحب يرى في هذا البيت تطاولاً وسوء أدب مع الملك سيف الدولة، ويرجع ذلك إلى فساد الحسِّ لدى المتنبي، وعدم قدرته على التمييز لمواقع الكلام، فيخاطب الملوك بما يستحقون، ويخاطب العامة بما هم به، غير أن هذا المعنى الذي فهمه الصاحب، قد يقابله معنى آخر للبيت، وهو كون المتنبي قد ذكر هذا على لسان سيف الدولة، يصف حاله بعد فقدِ أمه، فيكون بهذا المعنى مستقيمًا.
.
صلاة الله خالقنا حنوطٌ
على الوجه المكفَّن بالجَمالِ
.
فيَنتقده بقوله: "هذه استعارة حِداد في عرس، فلا أدري هذه الاستعارة أحسن أَم وصفُه وجه والدة ملك يَرثيها بالجمال" فالمقابلة بين الجمال والحنوط تَخلُق نوعًا من التباعد الذي يُحيل إلى حقلَين أو غرضين، حقل دالٍّ على الفرح، تَحمله لفظة "الجَمال"، وحقل ثانٍ دالٍّ على الحزن، فهذا التباعد بين هذه الحقول يَخلق في رأي الصاحب تشبيهات واستعارات مبتذلة، غالبيتُها لا تلائم مقام الخطاب، ولا طبيعة المخاطب
.
أنشده الصاحب بيتًا لأبي تمام يقول فيه:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى
معي ومتى ما لمته لمته وحدي
فلما سأل ابن العميد تلميذه الصاحب عن عَيب هذا البيت، أجابه بأن أبا تمام قابل المدح باللوم، فلم يوفِّ التطبيق حقه؛ إذ حق المدح أن يقابل بالهجو أو الذم، فالصاحب نظر إلى التقابل في صدر معنى البيت في كلمة "أمدحه" وبين معنى عجزه في كلمة "لمته"، فلو قابل "أمدحه" بـ: "أذمه" لكان أحسن وقعًا في نظر الصاحب، غير أن ابن العميد كانت له نظرة أخرى غير ما ذهب إليه تلميذه؛ حيث قال: "اعلم أن أحد ما يحتاج إليه في الشعر سلامة حروف اللفظ من الثِّقَل، وهذا التكرير في "أمدحه أمدحه" مع جمع بين الحاء والهاء مرتين - وهما من حروف الحلق - خارج عن حدِّ الاعتدال، نافر كل النفار"، فحسن الكلمة ووقعها الحسن في السمع، وخلوها من تنافر الحروف: هو ما يكسب الكلام رونقه لدى ابن العميد، وهي نظرة توضح كيف يوظف ابن العميد آلته البلاغية في نقد الشعر.
.
وفي مثل ذلك انتقد بيتًا للبحتري من الخفيف زاد فيه سببًا؛ حيث يقول: "ونحن وإن كنا نعرف للبحتري فضله، فما ندعي العصمة له، وفي شِعره الكسر والإحالة واللحن..."، ثم أنشد هذا البيت:
ولماذا تتَّبع النفس شَيئا
جعَل اللهُ الفردَوس منه جَـــزاء
فقال للصاحب: "تُنشده: (جعل الله الخلد منه جزاء) فيَستقيم