بسم الله الرحمن الرحيم
أقدم لكم هذه الترجمة ، التي تتعلق بموضوع علم الفوضى ، ذلك العلم الذي طالما أثار الكثير من الطلبة و الباحثين و العلماء .
و لقد بدأ اهتمامي بعلم الفوضى منذ أن وقع بين يدي كتاب " الفوضى Chaos " الذي ألفه : James Gleick و ترجمه : سامي الشاهد ( و لي تحفظ على الترجمة ! ) ، ثم كتاب " الفوضى و الحتمية " الذي ألفه عدة علماء و ترجمه : هاني حداد .
فأردت أن أكتب تلخيصا لهما إلا أنني استصعبتُ الأمر ، حتى وقع بين ناظريّ موقع د ماثيو ثرمب الذي وجدت فيه هذا الموضوع الذي كتبه بشكل يسير و وجيز ، فاستعنت بالله و ترجمته . و ها أنا أقدمه لكم .
و أرجو أن تستمتعوا بالموضوع كما استمتعت به ، و كلي تطلع إلى آراءكم و تعقيباتكم على الترجمة .
يقع الموضوع في 14 صفحة ، و هو مكوّن من خمسة دروس لذلك سأقوم بطرحها تباعا إن شاء الله ، حتى لا يكون هناك استثقال أو ملل من القارئ .
تحياتي و أعتذر عن الإسهاب .
-----------------------------------------------------------
ما هو علم الفوضى ؟
مقدمة :
مرحبا بك أيها القارئ في درس " ما هو علم الفوضى ؟ ".
إننا نأمل أن تجدها طريقة مفيدة و شيقة للتعرف على أحد أشد المواضيع إثارة في العلوم الفيزيائية .
إن " الفوضى " كلمة ذات معنىً مخصصٌ في الفيزياء ، و هي ليست ما نعنيه بالفوضى في حياتنا العامة .
بالنسبة للفيزيائيّ ، فإن مصطلح " حركة فوضوية " لا يتعلق فيما إذا كانت حركة النظام الفيزيائي تظهر شديدة الاهتياج ، بل في الواقع فإن النظام الفوضوي قادر على أن يتطور بطريقة مرنة و منتظمة .
و بالأحرى فإن الفوضى تُعزى إلى قضايا تتعلق بما إذا كان بالإمكان التنبؤ بشكل دقيق بعيد المدى عن سلوك النظام .
خلال أربعة قرون في الفيزياء كانت القوانين الفيزيائية قد عكست الصلة التامة بين السبب و الأثر الناتج عنه في الطبيعة . و هكذا إلى فترة قريبة ، كان هناك افتراض بأن من الممكن دائما التنبؤ بشكل دقيق بعيد المدى عن أي نظام فيزيائي طالما أننا نعرف شروطه الابتدائية بشكل جيد .
إن اكتشاف الأنظمة الفوضوية في الطبيعة قبل ما يقارب المئة سنة أدى تقريبا إلى القضاء على ذلك الانطباع . و بعد إتمامك الدروس الخمسة لهذا المقرر سوف تفهم كيف تحقق ذلك و لماذا .
في الدرس الأول ، سوف تتعلم عن ( فلسفة الحتمية ) ، التي تمثل الاعتقاد الأساس في العلوم الفيزيائية و هو يقضي بأن كل سبب له أثر فريد ، و العكس صحيح .
كما في الدرس الثاني ، سوف تتعلم عن ( الشروط الابتدائية ) ، بمعنى كيف أن الفيزيائيين يعتمدون على القياسات الأولية لأي نظام . و باستخدام الخط الافتراضي الواصل بين السبب و النتيجة ؛ تُستخدم الشروط الابتدائية للتنبؤ بحالات النظام في أوقات متقدمة أو متأخرة .
أما في الدرس الثالث ، فستتعلم عن ( الارتيابية <اللاحتمية> في القياسات ) ، و هي المبدأ القائل إنه لا يمكن إجراء أي عملية قياس بدقة لانهائية .
و في الدرس الرابع ، سوف تتعلم كيف أن الحتمية ،و الشروط الابتدائية ، و الارتيابية في القياس ؛ هي السبب في حدوث "عدم الاستقرار الديناميكي" ، و الذي هو لأكثر الفيزيائيين تعبيرٌ مرادف للـفوضى .
أخيرا ، ستتعلم في الدرس الخامس ، كيف أن الحركة الفوضوية هي العامل في ظهور بنيات منظَّمة على نطاق واسع (large-scale ) .
الدرس الأول : فلسفة الحتمية :
الحتمية هي الاعتقاد الفلسفي بأن كل حدث أو فعل هو نتيجةٌ محتومة لأحداث أو أفعال تسبقها . و بالتالي – من حيث المبدأ على الأقل – فإن كل حدث أو فعل يمكن التنبؤ به كليا بشكل أمامي ( تقدمي ) أو خلفي ( نحو الماضي ) .
و يمكن أن نتقصى الحتمية بوصفها اعتقادا فلسفيا قي مادية الكون ، و ذلك منذ الزمن القديم الذي يعود إلى عصر الإغريق منذ آلاف السنين .
لقد اندمجت الحتمية مع العلم الحديث في سنة 1500 م على وجه التقريب ، مع توطـُّد الفكرة القائلة إن قوانين " السبب و النتيجة " تتحكم كليا في كل الحركات و البنيات في المستوى المادي .
بناء على النموذج الحتمي للعلوم ، فإن الكون يتجلى للعيان مع مرور الزمن كآلة متكاملة ، بلا اشتراك للعشوائية أو الانحراف عن القوانين المحتومة .
إن الشخص الذي كان قريبا جدا من توطيد الحتمية في لب العلوم الحديثة هو نيوتن ، الذي عاش في بريطانيا قبل 300 عام على وجه التقريب .
لقد اكتشف نيوتن مجموعة من المبادئ المختصرة، عبَّر عنها في جمل قليلة ، و بيَّن أنها تستطيع و بشكل مدهش التنبؤ بالحركة لتشكيلة متنوعة و واسعة من الأنظمة مع درجة عالية جدا من الدقة .
و برهن نيوتن أن قوانينه الثلاثة في الحركة - المجتمعة خلال عملية المنطق - بإمكانها التنبؤ بدقة بمدارات الكواكب حول الشمس ، و بشكل مسارات المقذوفات في الأرض ، و جدول مواسم مد المحيط طوال الشهر و السنة ، و غير ذلك من العديد من الأشياء .
إن قوانين نيوتن حتمية بالكلية لأنها تتضمن المفهوم القائل إن أي شيء يحدث في أي وقت في المستقبل هو حتما متصل بما يحدث الآن ، و زيادة على ذلك فإن كل شيء يحدث الآن هو مرتبط كليا بما حدث في لحظة ما في الماضي.
لقد حققت قوانين نيوتن الثلاثة نجاحا باهرا لعدة قرون بعد اكتشافها ، و قد أظهر علم الفيزياء بوضوح كيف تستطيع قوانينه أن تحسب للمراقب حركة أي عملية فيزيائية يمكن تصورها تقريبا .
و على الرغم من أن قوانين نيوتن قد أُبطلت قرابة العام 1900 م بمجموعة أكبر من القوانين الفيزيائية ؛ إلا أن الحتمية تبقى اليوم كهدف و لبّ فلسفي للعلوم الفيزيائية .
الدرس الثاني :
الدرس الثاني : الشروط الابتدائية :
من بين أهم الابتكارات التي ساهمت في إنشاء العلوم الحديثة في العام 1500 م تقريبا هي تلك الفكرة القائلة : إن القوانين التي تحكم الكون المادي يمكن أن تفهم بشكل ذي مغزى فقط إذا تم التعبير عن الخصائص الفيزيائية بوصفها قياسات محددة ، أي في حدود رقمية و ليس في ألفاظ تعبيرية فقط .
إن استخدام القياسات الرقمية لوصف العالم الفيزيائي هو السبب في كون القوانين الفيزيائية يجب التعبير عن أنها في النهاية معادلات رياضية ، لا تراكيبا لفظية متواضعة .
فعلى سبيل المثال ، و على الرغم من أن قوانين نيوتن قد تم التعبير عنها في كلمات ؛ إلا أنه من أجل أن يتم تطبيقها لدراسة نظام محدد فإنه من الضرورة أن تستعمل تلك القوانين في صيغها الرياضية .
إن قوانين نيوتن هي أهم مثال – على وجه التقريب – للقوانين الديناميكية ، بمعنى أنها تربط القيم العددية للقياسات في زمن محدد بالقيم في زمن آخر متقدم أو متأخر .
إن القياسات التي تظهر في قوانين نيوتن تتعلق بشكل خاص بالنظام المدروس ، و لكنها أنموذجيا تتضمن الموضع ، و السرعة ، و اتجاه الحركة لكل الأجسام في النظام ، و كذلك مقدار القوة و الاتجاه لأي قوى تطبَّق على تلك الأجسام ، في أي زمن معطى لتاريخ النظام .
في التعبير عن القياسات المخصصة لنظام مُعطى ( سواء أكان النظام الشمسي ، أو جسما ساقطا على الأرض ، أو تدفقات المحيط ) فإن القيم التي تم قياسها في وقت ابتدائي يُعبَّرُ عنها بمصطلح " الشروط الابتدائية " للنظام .
لذا ، كقوانين ديناميكية ، فإن قوانين نيوتن حتمية لأنها تتضمن أنه لأي نظام معطى ، فإن الشروط الابتدائية نفسها سوف تعطي دائما نتيجة متطابقة .
إن أنموذج نيوتن للكون كثيرا ما يشبَّه بلعبة البليارد ، حيث إن النتائج تظهر رياضيا من الشروط الابتدائية في الطريقة المحددة سلفا . مثل الحركة التي يمكن أن تجري إلى الأمام أو إلى الخلف مع الزمن .
إن لعبة البليارد هي مقياس مفيد للتماثل ، لأنه في المستوى الميكروسكوبي فإن حركة الجزيئات يمكن أن تقارن بتصادمات كرات البليارد ، و بالقوانين الديناميكية نفسها المنفذة في الحالتين .
الدرس الثالث :
الدرس الثالث : الارتيابية في القياسات :
إن أحد المبادئ الأساس في العلوم التجريبية هو أنه لا يوجد قياسات لانهائية الدقة ، بل على العكس يجب ضرورةً أن تتضمن القياسات درجة من الارتياب ( الشك ) في القيم .
هذا الارتياب الذي يظهر في أي قياسات حقيقية ناشئ عن الحقيقة القائلة إن أي أداة قياس يمكن تخيلها – حتى لو صممت و استخدمت بشكل متكامل – يمكن أن تسجل نتائجها بدقة محدودة فقط .
هناك طريقة واحدة لفهم هذه الحقيقة و هي أن ندرك أنه من أجل تسجيل قياسات مع دقة لانهائية فإن الأداة سوف تتطلب نتائج قادرة على أن تعرض عددًا لانهائيًا من الأرقام .
باستخدام أداة قياس أكثر دقة ، يمكن التقليل من الارتياب بمقدار غالبا ما يكون صغيرا إلى الحد الذي نحتاج إليه لهدف مخصص . غير أنه ليس بالإمكان التخلص من الارتيابية نهائيا حتى و لو كفكرة نظرية .
في الديناميكا ، يكون لوجود الارتياب في أي قياسات حقيقية معنىً و هو أنه عند دراسة أي نظام فإن الشروط الابتدائية لا يمكن أن تعيَّن بدقة لانهائية .
و في دراسة الحركة باستخدام قوانين نيوتن فتظهر الارتيابية في الشروط الابتدائية للنظام مسببة ارتيابا مناظرا – مهما كان صغيرا – في مدى التنبؤ لأي زمن متقدم أو متأخر .
على مدى معظم التاريخ الحديث للفيزياء ، فقد تم الافتراض بأنه من الممكن أن يُقلـَّص ( يكمش ) الارتياب في التنبؤات الديناميكية النهائية بواسطة قياس الشروط الابتدائية بدرجة أكبر و أكبر من الدقة .
و بالتالي ، فإن في دراسة حركة الصواريخ على سبيل المثال يمكن أن نعرف الوضع النهائي للصاروخ على نحو دقيق لعشرة أضعاف بتحديد الشروط الابتدائية عند القذف على نحو دقيق لعشرة أضعاف .
من المهم أن نتذكر أن الارتيابية في النتيجة الديناميكية لا تظهر من أي عشوائية في معادلات الحركة – فهي حتمية تماما – و لكن تظهر بسبب الافتقار إلى الدقة اللانهائية في الشروط الابتدائية .
إن هدف العلوم التجريبية غير المعلن هو أنه مع زيادة الدقة المطردة لأدوات القياس بتطور التكنولوجيا ، فإن الدقة في التنبؤات الناشئة عن تطبيق القوانين الديناميكية سوف تصبح أكبر و أكبر ، و تقترب من الدقة المطلقة و لكن لن تصل إليها أبدا .
الدرس الرابع : عدم الاستقرار الديناميكي :
بعد أن تم فهم المقصود بالحتمية ، و الشروط الابتدائية ، و الارتيابية في القياسات ، تستطيع الآن أن تتعلم عن " عدم الاستقرار الديناميكي " ، و هو الذي بعني لأكثر الفيزيائيين الفوضى نفسها .
إن " عدم الاستقرار الديناميكي " يُحال إلى نوع خاص من السلوك في الزمن يوجد في الأنظمة الفيزيائية الحتمية ، و قد اكتشف في سنة 1900 م تقريبا بواسطة العالم الفيزيائي و الرياضي هنري بوان كارييه .
كان بوان كارييه فيزيائيا مهتما بالمعادلات الرياضية التي تصف حركة الكواكب حول الشمس .
إن معادلات حركة الكواكب هي تطبيقات لقوانين نيوتن و بالتالي فهي حتمية بشكل كلي .
و لأن هذه المعادلات الرياضية للمدارات حتمية فهذا يعني بلا ريب أنه بمعرفة الشروط الابتدائية – في هذه الحالة ، أوضاع و سرعات الكواكب ، في زمن ابتدائي معطى – تستطيع أن تعرف الأوضاع و السرعات لهذه الكواكب في أي لحظة في المستقبل أو الماضي .
و بالطبع ، فإنه من المستحيل أن تقاس الشروط الابتدائية و السرعات للكواكب لدقة لانهائية ، حتى مع استخدام أدوات قياس متكاملة ، و طالما أنه من المستحيل أن تسجل أي قياسات بدقة لانهائية ؛ هكذا فهناك دوما وجود للغموض – مهما كان صغيرا – في كل التنبؤات الفلكية التي تنشأ بواسطة القوانين التي تمت صياغتها عن طريق معادلات نيوتن .
حتى الوقت الذي جاء فيه بوان كارييه ، كان الافتقار إلى الدقة اللانهائية في التنبؤات الفلكية يعدّ مشكلة ثانوية ، على أية حال ، بسبب فرضية ضمنية اتخذها معظم الفيزيائيين في ذلك الوقت .
لقد كانت الفرضية تنص على أنه إذا استطعت أن تقلص ( تكمش ) الارتيابية في الشروط الابتدائية – ربما باستخدام أجهزة قياس أدق – حينها فإن أي غموض في التنبؤات سوف ينكمش بنفس الدرجة .
و بتعبير آخر ، بوضع معلومات أكثر دقة في قوانين نيوتن ، سوف تحصل على نتائج أكثر دقة لأي زمن متقدم أو متأخر . هكذا كان الافتراض بأنه من الممكن نظريا أن نحصل على تنبؤات شبه كاملة لسلوك أي نظام فيزيائي .
و لكن بوان كارييه لاحظ أن نظاما فلكيا معيَّنا لم يبدُ مطيعا للقاعدة التي تنص على : أن تقليص الشروط الابتدائية دائما يقلص التنبؤات النهائية بطريقة مطابقة .
باختبار المعادلات الرياضية ، وجد بوان كارييه أنه و إن كان نظامٌ فلكيّ صغيرٌ معيَّنٌ مطيعًا بحق لقاعدة " الانكماش – الانكماش " للشروط الابتدائية و التنبؤات النهائية ، إلا أن أنظمة أخرى لم تطعها .
و تلك الأنظمة الفلكية التي لم تطع القاعدة تماما هي التي تتكون من ثلاثة أجسام فلكية أو أكثر يتفاعل بعضها مع بعض . و لهذه الأنواع من الأنظمة بيّن بوان كارييه أن غموضا صغيرا جدا في الشروط الابتدائية سوف ينمو مع الزمن بمعدل ضخم .
و بالتالي ، فإن مجموعتين تكادان أن تكونا متعذرتي التمييز من الشروط الابتدائية للنظام نفسه سوف تُنْتَجَانِ في تنبؤين نهائيين مختلفين بشكل شاسع عن بعضهما .
إنّ بوان كارييه أثبت رياضيا أن " انفجار " الارتيابات الصغيرة في الشروط الابتدائية إلى ارتيابات ضخمة في التنبؤات النهائية باقٍ حتى لو كانت الارتيابات الابتدائية قد انكمشت إلى أصغر حجم يمكن تصوره .
لذلك – و لهذه الأنظمة – حتى لو استطعت أن تحدد القياسات الابتدائية لمئات الأضعاف أو ملايين الأضعاف من الدقة ، إلخ ... ؛ فإن الارتياب لزمن متقدم أو متأخر لن ينكمش بل سيبقى ضخما .
إن فحوى تحليل بوان كارييه الرياضي كان برهانا على أنه لهذه " الأنظمة المعقدة " فإن الطريقة الوحيدة للحصول على التنبؤات بأي درجة من الدقة تستلزم تحديد الشروط الابتدائية لدقة لانهائية مطلقة .
و لهذه الأنظمة الفلكية فإن أي غموض على الإطلاق – مهما كان صغيرا – سوف يظهر بعد فترة زمنية قصيرة كارتياب في التنبؤ الحتمي الذي كان من الندرة بحيث إنه أصغر مما إذا كان التنبؤ قد تم بواسطة الفرصة العشوائية .
إن " الحساسية للظروف الأولية " و الموجودة رياضيا في الأنظمة المدروسة بواسطة بوان كارييه أصبحت تعرف باسم " عدم الاستقرار الديناميكي " أو بيُسر : " الفوضى " .
و بسبب كون التنبؤات الرياضية بعيدة المدى للأنظمة الفوضوية لا تعدو أن تكون في دقتها فرصة عشوائية ، فإن معادلات الحركة تستطيع أن تنتج فقط تنبؤات قصيرة المدى بأي درجة من الدقة .
و على الرغم من أن عمل بوان كارييه كان قد اُعتبر مهمًا من قِبَلِ بعض الفيزيائيين الواعيين في ذلك الوقت ، إلا أن العديد من العقود مرت قبل أن تُدرَك القيمة لاكتشافاته من قِبَل المجتمع العلمي ككل ، و السبب الوحيد لذلك هو أن أكثر المجتمع الفيزيائي كان مشغولا بإجراء اكتشافات جديدة في فرع جديد من الفيزياء يسمى " ميكانيكا الكم " الذي هو امتداد فيزيائي في عالم الذرة .
و أخيرا ... الدرس الخامس !
الدرس الخامس : توضيحات الفوضى :
من الدروس الأربعة السابقة تعلمت أيها القارئ أنه في الأنظمة الفوضوية و باستخدام القوانين الفيزيائية فإن إجراء تنبؤات دقيقة بعيدة المدى هو أمر مستحيل ، حتى إن كان نظريا . لأن إجراء تنبؤات دقيقة بعيدة المدى لأي درجة من الدقة على الإطلاق قد يتطلب إعطاء الشروط الابتدائية لدقة لانهائية .
ففي وقت اكتشافها ، كانت ظاهرة الحركة الفوضوية قد اعتبرت شذوذا رياضيا ، و في العصور التي تلت ذلك ، جاء الفيزيائيون لاكتشاف السلوك الفوضوي بشكل أوسع انتشارا ، بل إنه قد عدّ منذ ذلك معيارا في الكون .
إن أحد أهم الاكتشافات كان قد تم في عام 1963 م ، بواسطة عالم الأرصاد ادوارد لورنز ، و الذي كتب برنامجا رياضيا أساسا لدراسة أنموذج ميسرٍ للمناخ .
على وجه التحديد درس لورنز أنموذجا بدائيا عن كيفية ارتفاع و هبوط تيارات الهواء عندما يتم تسخينها بواسطة الشمس .
و قد احتوت شفرات كمبيوتر لورنز المعادلات الرياضية التي تحكم تدفق تيارات الهواء . و لكون شفرات الكمبيوتر حتمية حقا ، فقد توقع لورنز أنه بإدخال القيم الابتدائية نفسها ؛ فإنه سوف يحصل بالضبط على النتائج نفسها عندما يقوم بتشغيل البرنامج .
تفاجأ لورنز ، على أية حال ، عندما وجد أنه حين يضع مدخلات يعتقد أنها القيم الابتدائية نفسها ؛ فإنه يحصل على نتائج شديدة الاختلاف في كل مرة.
و باختبار أكثر عناية ، أدرك أنه لم يكن في الحقيقة يضع المدخلات بالقيم الابتدائية نفسها في كل مرة ، و لكنها كانت تختلف قليلا عن بعضها .
فهو لم يلحظ أن القيم الابتدائية كانت مختلفة في كل مرة يقوم بتشغيل البرنامج لها ؛ لأن الاختلاف كان صغيرًا بشكل لا يصدق ، فهو من الصغر بحيث يعتبر ميكروسكوبيا و تافهًا بالنسبة للمعايير المعتادة .
لقد دُرست الرياضيات التي احتواها أنموذج لورنز للتيارات الجوية بشكل واسع في السبعينات . و تدريجيا ، صار من المعروف أنه حتى أصغر تناقض يمكن تخيله بين مجموعتين من الشروط الابتدائية سوف ينتج عنه تناقضٌ ضخمٌ في وقت متقدم أو متأخر ، و هذه هي العلاقة التي تميز النظام الفوضوي بالطبع .
إن العلماء الآن يؤمنون بأنه مثلما هو أنموذج لورنز الكمبيوتري اليسير لتيارات الهواء ؛ فإن المناخ ككل هو نظام فوضوي . و هذا يعني أنه من أجل أن نجري توقعات مناخية بعيدة المدى على أي درجة من الدقة - على الإطلاق - فإنه من الضرورة أن نأخذ عددا لانهائيا من القياسات .
حتى لو كان من الممكن أن نملأ كامل الجو الأرضي بصف هائل من أدوات القياس – في هذه الحالة ترمومترات ، و مقاييس الريح ، و بارومترات – فإن الارتيابية ( اللاحتمية ) في الشروط الابتدائية سوف تظهر من الاختلافات الدقيقة في القيم المقاسة بين كل من الأدوات في ذلك الصف .
و لأن الجو فوضوي ، فإن هذه الارتيابات ، مهما كانت صغيرة ، سوف تغمر أي حسابات في النهاية و سوف تهزم دقة التوقعات .
يُطلق أحيانا على هذا المبدأ مصطلح " تأثير الفراشة " من ناحية التوقعات المناخية ، إن " تأثير الفراشة " ناشئ عن الفكرة القائلة إنه فيما إذا كانت هناك فراشة ما ترفرف بجناحيها في جزء محدد من العالم فإنها قادرة على إحداث زوبعة تظهر بعد عام في الجهة الأخرى من العالم .
بسبب " تأثير الفراشة " فإنه من المقبول الآن أن التوقعات المناخية يمكن أن تكون دقيقة فقط في المدى القصير ، و أن التوقعات بعيدة المدى حتى لو أخذت بواسطة أكثر الطرق الكمبيوترية تطورا يمكن أن نتخيلها ، فإنها لن تكون أكثر من مجرد تخمينات .
و هكذا يبدو أن وجود الأنظمة الفوضوية في الطبيعة يضع حدا لقدرتنا على تطبيق القوانين الفيزيائية الحتمية للتنبؤ بالحركات بأي درجة من اليقينية .
إن اكتشاف الفوضى بدا دالا على أن العشوائية تكمن في لبِّ أي أنموذج حتمي للكون .
بسبب هذه الحقيقة ، فإن بعض العلماء بدؤوا يتساءلون فيما إذا كان هناك مغزىً على الإطلاق أن يُقال إن الكون حتميّ في سلوكه . و هذا سؤال مفتوح قد يُجاب عنه جزئيا من خلال ما يتعلمه العلماء زيادة عن كيفية عمل الأنظمة الفوضوية .
إن أحد أكثر القضايا تشويقا في دراسة الأنظمة الفوضوية هو ما إذا كان وجود الفوضى قد يُنتج في الحقيقة تراكيبا منظمة و أنماطا أوسع نطاقًا .
لقد تصور بعض العلماء أن وجود الفوضى – الذي هو عملية العشوائية خلال قوانين الفيزياء الحتمية على المستوى الميكروسكوبي – قد يكون ضروريا في الحقيقة لظهور أنماط فيزيائية ذات نطاق أوسع ( مقياس أكبر ) .
و مؤخرا ، صار بعض العلماء يؤمنون بأن وجود الفوضى في الفيزياء هو ما يعطي الكون " سهم الزمن " و الذي هو : التدفق غير العكسي من الماضي إلى المستقبل .
و كما أن دراسة الفوضى في الفيزياء قد دخلت قرنها الثاني ؛ فإن قضية ما إذا كان الكون حتميا تظل سؤالا مفتوحا ، و سوف تبقى بلا شك كذلك ، و إن أصبحنا أكثر فهما في ديناميكيا الأنظمة الفوضوية .
و للجميع أطيب التحايا و أصدقها ...
منقول