رواية "بيروت على ضفة السين" مرشحة في اللائحة الأولى لجائزة الغونكور الفرنسية لهذا العام
تستثمر رواية "بيروت على ضفة السين" للكاتب اللبناني الفرانكفوني سبيل غصوب في الجرح اللبناني القديم والمتجدد دائما عبر رحلة بين بيروت وباريس حقنها غصوب بكل ما يمكن للسرد المأساوي أن يحقن به من مآس وفجائع وموت وغربة واشتياق، وبعثها في قصة حب من نوع خاص لا ترغب في الانتهاء، محيرا القارئ بين حرب لا معنى لها وهذه المعشوقة رغما عنها المسماة لبنان.
مشروع غصوب السردي
تعد هذه الرواية -المرشحة في اللائحة الأولى لجائزة غونكور الفرنسية لهذا العام- ثالث أعمال غصوب الذي سبق له أن نشر روايتين في دار لونتيلوب الفرنسية التي بدأ معها مشواره الروائي بروايتين قصيرتين "الأنف اليهودي" و"بيروت بين قوسين".
ومع روايته "بيروت على ضفة السين" الصادرة عن دار ستوك العريقة يبدو أن هواجس الكاتب الإبداعية اتضحت أخيرا، وبدأت تأخذ شكل مشروع سردي واضح المعالم يستند إلى موضوعي الاغتراب/ الهوية والعائلة، بحيث لا تخلو رواية من رواياته منهما.
على امتداد 200 صفحة المشكلة للرواية يحاول الكاتب إيجاد جواب لسؤال لا جواب له ثم ينتقل إلى سؤال آخر، لتتشكل سلسلة لا نهائية من الأسئلة حول الحرب والموت والاغتراب والمنفى والحق في أن يعيش اللبناني آمنا في بلده.
أسئلة تتيه في زحمة أحداث شخصيات تشبه دمى الماريونات (عرائس متحركة) تحركها يد تعرف تلك الشخصيات بلا شك أنها يد الجنون.
الروائي اللبناني الشاب سبيل غصوب في لائحة جائزة غونكور الفرنسية العريقة (دار ستوك)
البحث عن وطن داخل الصور
خلق غصوب حميمية سردية جعلت نصه يُقرأ بسلاسة بفضل اختياره أسلوب الفصول القصيرة ولغة الرسائل والمذكرات، بل طغت اللغة الصحفية التحقيقية على مقاطع كثيرة من الرواية، بهدف إحداث نوع من التماهي بينه وبين الراوي في البداية، لضيق مساحة الخيال في هذا النوع من الكتابة المستمدة أساسا من المرويات العائلية والسيرة الذاتية والعمل البحثي أيضا، لكن هدف غصوب الأهم في اختياره هذا الأسلوب هو شخصنة التاريخ والحرب.
ويريد الكاتب عبر شخصنة الحرب ألا تصبح موضوعا تاريخيا جامدا بتواريخ وجداول إحصائيات للخسائر البشرية والمادية ولا فرسا يمتطيه السياسيون بحسب المناسبة بل موضوعا شخصيا ذاتيا بأبعاده النفسية، ففي النهاية لكل إنسان عاش المأساة أن يحكيها بطريقته.
وهنا تظهر الحاجة الماسة للمعرفة، معرفة ما وقع من جنون مفض إلى جنون أكبر، لا لشيء إلا لإيجاد تفسير منطقي للمشاعر المتضاربة بخصوص أوطاننا، تلك التي تجعلنا نحبها رغم ما فيها من عنف ودمار، تماما كما جاء على لسان الراوي "إنني في حاجة لكتابة هذه الحرب، أحتاج أن أحكيها، أن أفهم المشاعر التي انتابت والديّ وقتها، أحاول أن أضع الكلمات المناسبة على صور العائلة، على تلك التي في مخيلتي، وعلى صور البلد المدمر التي لا أمل من النظر إليها واكتشاف هذه الأرض التي أرغب فيها رغم عنفها..".
خيار وحيد
ربما لم يخرج الكاتب في هذا النص عن العقيدة الأوستيرية (نسبة للروائي الأميركي بول أوستر) التي ترى أن مهمة الأدب ليست إيقاف المشاكل ولا السعي إلى حلها، بل مهمته الوحيدة هي رصد الآلام التي تسببها هذه المشاكل، فالرواية لم تخض في أسباب الحرب الأهلية ولا في الثورة اللبنانية ولا في المنفى الاضطراري إلا لتظهر ما خلفته هذه في حياة وذوات شخصيات العمل من دمار نفسي وتشتيت أسري غير معقول.
وهنا يظهر الدور الكاشف لسؤال الراوي لوالديه الذي انطلقت منه أحداث الرواية عن سبب هجرتهما إلى فرنسا، في محاولة لمَنطَقة التناقض الصارخ بين تخيلاته عن لبنان وحقيقة ما تعيشه فعلا.
ويقول الراوي "لا يخبرني والدايّ إلا بذكرياتهما السيئة: الهجمات، احتجاز الرهائن وحنينهما إلى الوطن، لكنني حين أنظر في صور العائلة التي جمعتها أمي في ألبومات، لا أرى أي أثر للحرب أو لتلك الهجمات ولا أعثر على شيء من الألم فيها، صور يخيل لكل من يراها أنها لحياة مثالية من شمس ووجبات وعائلة وأزهار".
وبهذا السؤال انطلق الراوي في البحث عن جذوره، ليفهم ولو مجرد شيء يسير عن حالة الاغتراب والقهر التي يعيشها المغترب رغما عنه، ففي وقت الحرب لا خيار هناك إلا أن تُقتل على أرض تحبها أو تبقى على قيد الحياة في أرض لا تشبهك في شيء.
استيراد الوطن
هكذا اختار قيصر وحنان (والدا الراوي) البقاء على قيد الحياة في أرض لا تشبههما، لكن ذلك لم يمنعهما من مد يد العون لأقربائهما، ولا كان ذلك سببا في قطع علاقتهما روحيا بالوطن الذي استمر داخلهما.
بل حاولا بسذاجة وحب أن ينقلاه إلى باريس، محاولة يصفها الراوي بانبهار "في الحقيقة لبنان هو والداي، حين أزورهما في شقتهما الباريسية أحط في لبنان، في عيونهما أرى البلد، لم أعد قادرا على رؤيتهما يبكيان بسبب هذا البلد الذي كلما تعرض لهجمات، لانفجارات، أو للحرب ينتابني الشعور أنها ضد والديّ، وهذا ما لا أحتمله".
وهنا تظهر شخصية الأم كشخصية طاغية منحت سرد غصوب لمسة مميزة جمعت بين التدفق وخفة الروح، وتشكل حكايتها مع شخصيات الرواية الأخرى: قيصر، أمين، سلمى، إلياس، حبيب ويالا، شهادة صادقة عن المأساة اللبنانية التي جعلت "فردوس العرب" أرضا لكل الحروب بالوكالة، حروب لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد وإن بشكل وبأسباب مختلفة تبتدعها السياسة والمصالح الطائفية التي لم يتجاهلها الكاتب وإن لم يتعمق فيها رغبة في النأي بعمله هذا عن تصنيفه رواية سياسية.
ولم يسعَ الكاتب إلى تقديم وجهة نظر للواقع اللبناني، بل إلى وضع هذا الواقع في قالب سردي مرتبط بروح الإنسان، متناغما مرة أخرى مع العقيدة الأوستيرية التي عبر عنها ذات مرة في حوار منشور، قائلا "إن مهمة الروائي التحدث عن الحياة الداخلية للبشر".
التغلغل في الذات
وتبدو الرواية كأنها تملك قدرة هائلة على التغلغل في ذات القارئ، وتفرض تماهيا عجيبا بين أحداثها وأحداث حياته، سواء الشخصية أو تلك التي عاشها من يحيطون به أو تمكن من التقاطها والتعاطف معها بشكل ما، وهو ما يبرر حفاوة الأوساط الإعلامية وبعض المنابر النقدية بها، تماما كما يحدث مع أعمال كثيرة تشتغل على مأساة الإنسان العربي، ولا سيما تلك المتعلقة بالحروب ومسألة الحرية.
لكن الروائي لم يتخلص من شيء غير قليل من جلد الذات وتمجيد الآخر بحسب نقاد، وهو اتجاه صار ميلا سرديا لدى بعض الكتّاب العرب الذين يكتبون بلغات أخرى، لضمان شيء من القبول الإعلامي والنقدي، وهو ميل لا بد من دراسته وإمعان التفكير فيه، ولا سيما إذا صاحب كتابات تشعرك بوجود مشروع سردي مهم خلفها، ككتابات غصوب الذي يبدو مصرا على التموقع في المشهد الروائي الفرنكفوني بقوة.
ولعل وجود الروائي في قائمة الغونكور لهذه السنة سيمنحه دافعا جديدا لكتابة نص يمكنه المنافسة وكتابة اسمه في مدونة السرد العالمية، فمهما امتلكت رواية "بيروت على ضفة السين" من جماليات ذُكر بعضها فقد لا يكون من المرجح أن تستمر في المنافسة أمام نصوص مذهلة تضمنتها اللائحة الطويلة للغونكور في طبعتها الجديدة.
وأيضا قد لا تفوز الرواية بالجائزة -التي منحت من قبل للكتّاب العرب الطاهر بن جلون في 1987، وأمين معلوف عام 1993، وليلى السليماني في 2016- بسبب ما يعتري هذا العمل من مآخذ على مستوى الموضوع الذي لم يشتغل فيه غصوب وفق زاوية تناول جديدة لم تطرق بعد، إضافة إلى الغياب شبه التام للخيال في العمل، مما جعله مجرد سرد للمرويات، ولم يظهر في روايته الأخيرة ما أظهره في عمليه السابقين، ولا سيما في روايته "الأنف اليهودي" التي تناولت موضوع الهوية تناولا جديدا أظهر فيها الكاتب قدرة هائلة على كتابة اللامتوقع.