الثورة التقنية العالمية ألقت بظلالها على مختلف صنوف المعرفة ومنها الأدب الذي استثمرها ووظفها في بنيته التكوينية والأسلوبية، باعتبار أن الانفتاح المعرفي هو الذي ساهم في تغير الأدوات التعبيرية.
أستاذ اللسانيات في جامعة بغداد مشتاق عباس معن يرى أن التفاعلية شكّلت جنسًا أدبيا جديدا بمختلف تنوعاته (مواقع التواصل)
منذ أقل من عقدين، خرجت للأوساط الثقافية في العراق قصيدة أطلق عليها القصيدة التفاعلية التي وجدت تفاعلا بين مؤيد ومعارض، كونها القصيدة التي تستعين بكل هو متوفر في برامج الحاسوب المختلفة، معبرة عن طرق التلاحم في عصر التقنيات، وتشكّل نوعا جديدا من أشكال التحول الشعري البصري، وقد أُلفت حولها الكتب ورسائل وأطروحات جامعية.
وهذا ما ولّد الأسئلة التالية: ما حجم التفاعل بينها وبين الجمهور؟ وهل لها رواد في الإنتاج والتلقي؟ وهل هي جنس أدبي؟
التعريف والظهور
يعرف الأدب التفاعلي بأنه عملية مزج النص، سواء كان قصيدة أو قصة أو أي نص آخر، مع صورة تتحرك أو فيلم أو لقطات متجزأة من أعمال معروفة، مع موسيقى تلائم فحوى النص، فتنتهي المسافات بين الشاعر والمتلقي، وهذا شكل -كما يعده البعض- من أشكال التفاعل التقني الذي ظهر في أميركا تحت مصطلح "النص المترابط" (hypertext)، وفي أوروبا تحت مصطلح "الرقمي" (numerique)، وفي فرنسا تحت مصطلح "الأدب المعلوماتي" (informatique).
وعقد أول مؤتمر بباريس عام 1994 تحت عنوان "الأدب والمعلومات"، لكنه ظهر عربيا في العراق ليكون رائده الشاعر الدكتور مشتاق عباس معن، الذي حاول مع بداية الألفية الثانية ابتكار هذا النوع الأدبي الذي ولد من رحم التطور التقني، ورغم ذلك يعده نقاد أدبا ملتبسا كونه يعتمد على طبيعة البيئة الرقمية ورؤية المتلقي، وهنا مثال لقصيدة تفاعلية.
الوسيط والمغايرة
والدكتور معن أستاذ اللسانيات في جامعة بغداد، حاصل على شهادة دبلوم حاسبات من معهد سبكترم الأميركي في صنعاء، والدكتوراه عام 2003 من كلية اللغات بجامعة صنعاء، والماجستير 2008 تخصص آداب ببغداد، وأصدر ثمانية مجاميع شعرية، وحاز على 4 جوائز محلية وعربية وعالمية، وكُتب عن نتاجه الأدبي عشرات البحوث والمقالات والرسائل والأطروحات في الجامعات العراقية والعربية والأجنبية.
يقول إن أسباب الفكرة الأولى التي قادته للأدب التفاعلي هي "المستجدات التي تفرض نفسها، لاسيما تلك التي تنتمي إلى الضرورات لا الكماليات، وكانت التفاعلية الرقمية قد فرضت حضورها في ذهني وتفكيري بداية الألفين".
وهذا الاستواء قاده الى إصدار أول مجموعة شعرية "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" سنة 2007، تلتها مجموعة بعنوان "لا متناهيات الجدار الناري" سنة 2017، ويعتقد أن "التفاعلية الرقمية شكلت جنسا أدبيا جديدا بمختلف تنوعاته الشعرية والسردية والمسرحية والقصصية، وغايرت النتاجات الأدبية الورقية المناظرة ليس من حيث الوسيط، وإنما من حيث المكونات البنائية ووحدات التواصل الإبداعي وفلسفة الأدب الذي تنتمي إليه".
وهو ما يؤثر على المتلقي الذي يراه "مشاركا من خلال التفاعلية لا متلقيا فقط، والحرف ليس هو سيد النص، بل شاركه في السيادة البنائية كل من الصوت والصورة والحركة والتقانة"، لذا، من الطبيعي أن يكون "التفاعل مع هذا المستجد الأدبي مختلفا بحكم تفاوت الوعي به والتهيؤ الأكاديمي للتعامل معه".
تفاعل وجامعات
ويرى الكثيرون أن الثورة التقنية العالمية ألقت بظلالها على مختلف صنوف المعرفة، ومنها الأدب الذي استثمرها ووظّفها في بنيته التكوينية والأسلوبية، باعتبار أن الانفتاح المعرفي هو الذي ساهم في تغيّر الأدوات التعبيرية. تقول أستاذة النقد الحديث في جامعة بغداد الدكتورة فاطمة البحراني "ليس غريبا أن يتنامى الجديد عبر الزمن تدريجيا حتى يفهمه المتلقون ويهضمونه، وتكثر النماذج الدالة عليه والمساندة لحضوره".
فاطمة البحراني تعتبر التفاعلية أضحت جنسا أدبيا له سماته الأدبية المفارقة لسواه من الإنتاجات الأدبية (مواقع التواصل)
وتضيف البحراني أن الجميع قد يجد "التفاعلية الرقمية ذات اتساع تدريجي في الوسط الثقافي العربي وكذلك الجامعات العربية، حتى استحالت مادة أدبية صالحة للتدريس الجامعي والتحليل النقدي، فضلا عن كونها مادة إبداعية لها جمهورها المتفاعل معها".
وترى الإنتاجات الشعرية التفاعلية الرقمية لرائد الشعر التفاعلي العربي مشتاق عباس معن "خير دليل على ذلك بحيث باتت مرجعا للنقاد ومادة للباحثين والدارسين وعينة للأدباء كي يحذوا حذوها"، وأن "هذه القصيدة أضحت جنسا أدبيا له سماته الأدبية المفارقة لسواه من النتاجات الأدبية الأخرى".
البيئة والقناعة
إن القصيدة التفاعلية لم تكن بالمنجز العابر أمام شاشة الإبداع الأدبي، ولا بالصدفة التي يمكن تجاوز تأثيرها وأثرها في المتلقي. يقول الشاعر سلام البناي إن القصيدة التي جاء بها معن "فتحت شهية المتتبعين لهذا النوع من الإبداع كونه ترك الأبواب مفتوحة للجميع من أجل التواصل والنقد والإبداع".
ويرى البناي أن القصيدة التفاعلية تستعين "بكل ما يمكن توافره في برامج الحاسوب كالصورة الثابتة والمتحركة، والأشكال الغرافيكية، والأصوات الحية وغير الحية، وكل ما من شأنه أن يبث شكلا جديدا من أشكال الحيوية والتفاعل في النص"؛ ولهذا يرى أن "هذا النوع الأدبي حاول أن يجد له مكانا في البيئة الإلكترونية، وهو تجربة تخرج عن كل ما هو مألوف بالكتابة والتلقي"، مشيرا إلى أن "من يستوعبها سوف يغير قناعاته في القراءة والإحساس بالنص".
خارج الزمن
لكن الأمر لم يكن مقبولا من الجميع، وكل شيء جديد يجد معارضة أو عدم قبول، ويرى الناقد العراقي أمجد نجم الزيدي أن "ظهور ما يعرف بالأدب التفاعلي أو القصيدة التفاعلية هو انتقال خارج الزمن الفعلي لمجتمعاتنا التقليدية، التي ما زالت تحكمها الثقافة الشفاهية".
ويضيف أن هذا الانتقال "يجب أن يرافقه انتقال تلك الثقافة إلى ثقافة جديدة، تتواءم أو تتطابق مع البنية العامة لهذا النمط الجديد من الكتابة"، ويعتقد أنه لا يكفي توفر الأدوات الحديثة من حواسيب أو إنترنت وغيرهما، "بل يجب أن يصاحب هذا الانتقال حركة ثقافية واجتماعية موازية، تحقق ذلك الالتئام".
الناقد العراقي أمجد نجم الزيدي يرى أن الأدب التفاعلي انتقال خارج الزمن الفعلي لمجتمعاتنا التقليدية (مواقع التواصل)
ويرى الزيدي أن "الأمر ينحصر في المختصين فقط"، ويزيد على ذلك أنه: منذ تجربة الدكتور مشتاق عباس معن في "تباريح رقمية"، لم نجد تجارب أخرى تركت أثرا واضحا، أو حازت على جمهور واسع من التلقي، سوى الدراسات النقدية والأكاديمية التي تنظر إليها في أكثر الأحيان بوصفها تجارب معرفية وليس تلقيا ذوقيا شعبيا. ويعتقد أنه "ليس من السهل أن تأخذ حيزا مهما في التلقي، أو تجد لها جمهورا واسعا يتفاعل معها".