لعلَّي تردّدتُ قليلاً في نشر شرح هذهِ القصيدة كوني كنتُ مشغولاً في محاربة الفساد بلساني وقد قمتُ بشرحها منذ فترة ثمّ نسيتها ولحسنِ الحظ وجدتها اليوم مكتوبة ومرفقة بشرحي البسيط وقبل أن ابدأ اطلب من الإخوة أن يسدّدوا لي وأن يصوّبوا لي إن اخطأت ومن الله التوفيق
.
.
.
ابن زريق البغداي شاعرٌ عبّاسي ولد في بغداد و توفّيَ في عام 420 هجرياً في الغربة(الأندلس)بعد أن غادر موطنه قاصداً الأندلس لطلبِ الرزق وراحة العيش وذلك بسبب أنّه كان يعاني من الفقر وكانت لديه زوجة في بغداد يحبُّها وتحبّه كثيراً فأصرّت عليه زوجته ان لا يذهب(كما يذكر في قصيدته) ولكنّه كان مضطرّاً للذهاب طلباً في الرزق وبعد أن طافَ الأندلس وهو يمدح امراءها لم تنل يداه ما كان يبتغيه بجد فنالت منه الخيبة وأصابه اليأس ثمّ شعر بالندم الشديد على فراق زوجته وكتب هذهِ القصيدة(لا تعذليه) وقد مات في الأندلس وقيل دفن هناك القصيدة :
1_لا تَعذليه ، فإنّ العذلَ يولِعُهُ
قَد قلتِ حقّاً ولكِن ليس يسمعهُ
*هاهنا المخاطِب هي الروح والمخاطَب هو القلب وهذي عادةٌ شهيرة لدى الشعراء
كقول ذي الرمّة
ما بالُ عينيكَ منها الماءُ ينسكبُ فالشاعر يخاطب نفسه هنا وكذلك الراجز عندما قال
ذكرتَ فإهتاجَ السقامُ المضمرُ وهذا نهجٌ شهير سار عليه القدماء الشعراء والمتأخرون منهم .
العذل : اللّوم ، يولعه أولَعهُ إيلاعاً تقول هو مولعٌ بكذا شيء أي متعلّقٌ به وقد يكون التعلُّق مؤذياً للشخص المولِع
*معنى البيت : لا تعذليه فإنّ عذلك لهُ يجعله أكثر تعلُّقاً ثمّ يرجع فيخاطبها معطياً إيّاها الحق : قد قلتِ حقّاً ولكنَّهُ لايسمعهُ ، أي لا يصغي بالاً
2_جاوزتِ في لومهِ حدَّاً أضرَّ بهِ
مِن حيثُ قدَّرتِ أنّ اللّومَ ينفعهُ
*معنى البيت : أفرطتِ في لومهِ(قلبه) لوماً يضرُّه ، وأنت تحسبين أن اللّوم نافعٌ له ،
3_فإستعملي الرِفقَ في تأنيبهِ بدلاً
من عذلهِ ، فهو مُضنى القلبِ موجَعهُ
التأنيب من قولك أنَّبهُ(بالغ في لومه) ، مضنى القلب : أي مرهَق قال الشاعر
أضنيتني شوقاً يا قاتلي
لقياكَ يا قاتلَ العُشّاقِ لُقياكَ
ومعنى البيت : فإرفقي بهِ يا نفس بدلاً من تأنيبه(توبيخه) فهو(ثمّ يرجع يخاطب نفسه) فهو صاحبُ قلبٍ مرهق وموجوع .
4_قد كان مضطلِعاً بالخَطبِ يحملهُ
فَضُيّقَتْ بخطوبِ الدهرِ أضلَعُه
*المضطلع يقال إضطلع بالحمل : نهضَ بهِ وقويَ عليه من الإضطلاع ،
يقول : قد كان قويّاً يحمل خطباً(الأمر الشديد) وينهضُ بهِ لكنّما لشدّة حملهِ خطوب الدهر ، ضيّقت منها أضلعه أي صارت لا تحتملُها .
5_يكفيهِ من لوعةِ التشتيتِ أنّ لهُ
من النوى كلّ يومٍ ما يروّعهُ
اللّوعة : حرقةٌ في القلب من حبّ ٍ أو هم والشتيت : الشتات أي الضياع وعدم السكون
يقول : يكفي قلبي ما أصابه من لوعات النوى ما يرّوعه(يخيفه ويفزعه) كلّ يوم
6_ما آبَ من سفرٍ إلّا وأزعجَهُ
رأيٌ إلى سفرٍ بالعزمِ يُزمَعُهُ
ما آبَ أي ما عادَ
معنى البيت : ما عدتُ من سفرٍ إلّا وأزعجني سفرٌ آخرٌ وجبَ عليّ العزم والثبات عليه .
7_كأنّما هو في حلّ ٍ ومُرتَحَلٍ
موكَّلٍ بفضاءِ الله يذرعهُ
*ذرعَ يذرعُ : سارَ ليلاً ونهارا ، الحلُّ : الإقامة ، والمرتحل من الإرتحال(الرحيل)
يقول : لا أستطيع الثبات فكأنّني أقيمُ مكاناً وأرتحلُ إلى آخر كأنّي موكّلٌ بالسير ليلاً ونهاراً بفضاء الله لا أستطيع وضعَ رِكابي وهذا وصف يستعمله الشعراء تعبيراً لعدم قدرتهم على البقاء في الديار
8_إذا الزمانُ أراهُ في الرحيلِ غِنىً
ولو إلى السِندِ أضحى وهو يقطَعُهُ
يقول : لو الزمانُ أراهُ(أي نفسه) رزقاً حتّى وإن كان في السندِ(أضحى وهو يقطعه) لذهبَ وقطع بلاد السند طلباً للرزقِ والغِنى
9_تأبى المطامعُ إلَّا أن تُجشّمَهُ
للرزقِ كَدَّاً ولكن ليس يجمعهُ
تجشّمهُ : يقال تجشّمَ السفَر إذا تكلّفهُ على مشقّة(أي تعرّض لأنواع المخاطر للوصول إلى مراده)
معنى البيت : يصف طمع الإنسان في الكد والكدَح في طلب الرزق ثمّ يقول عن نفسه ؛ تأبى(ترفض) هذه المطامع إلّا أن تتعبني في طلب الرزق رغم أنّي لا أستطيع جمعه
9_وما مجاهدةُ الإنسانِ توصلهُ
رزقاً ولا دعةُ الإنسان تقطعهُ
*دعة : نقول : يعيش في دعة أي في راحة وسكينة
معنى البيت : وإنّ الإنسان مهما كدّ في طلب الرزق فلن يناله ويوضّح هذا اكثر في البيت التالي
10_قد وزّعُ اللهُ بينَ الخلقِ رزقهمُ
لم يخلق الله من خلقٍ يضيّعه
معنى البيت : إنّ الله قد كتب على كل مخلوق رزقه ووزّعه عليه ولا يكلّفه أكثر من ذلك ولا يضيّع حقّه من الرزق
11_لكنّهم كلّفوا حرصاً فلستَ ترى
مسترزقاً وسوى الغاياتِ تُقنعهُ
معنى البيت : لكنّ الله قد كلّفهم رزقهم ولكنّك لن ترى مسترزقاً(من يطلب الرزق) مقتنعاً بما نالهُ من رزق
12_والحِرصُ في الرزقِ والأرزاقُ قد قُسمَت
بغيٌ ألا إنّ بغيَ المرءِ يصرعهُ
بغيٌ مِن بغَى المرء شيئاً أي طلَبهُ فهو مبتغٍ أي طالِب ،
معنى البيت : يقول أنّ الرزق والأرزاق قد قسمها الله على الخلق بغياً(أي طلباً منهم) لكنّما بغيُ المرءِ أي طمعهُ في الرزق يصرعه وهذهِ كناية في عدم الكد والطمع أكثر ممّا هو مقدّرٌ لك
13_والدهرُ يُعطي الفتى من حيثُ يمنعهُ
إرثاً ويمنعهُ من حيثُ يُطمعهُ
14_أستودُعُ الله في بغداد لي قمراً
بالكرخِ من فلَكِ الأزرارِ مطلَعهُ
معنى البيت : يقول عن زوجته الّتي فارقها من أجل طلب الرزق وتركها في بغداد أستودعُ الله تقول استودعته إذا جعلته في امانة الله ، استودع الله امرأتي التي تركتها بالكرخ(من فلكِ الأزرارِ مطلعه) يريد بذلك أنّ زوجته قمراً يتجلّى من خلفَ الأزرار أي الزر وهي قطعة مستديرة تشدّ بالثياب(بالعامية : دكمة) وهنا يتبيّن لنا معنى البيت بوضوح تام
إذ أنّه يصف زوجته فيقول كأنّها القمر متستّر بأثياب مشدودة بأزرار
15_ودّعتهُ وبودّي لو يودّعُني
صفو الحياةِ وأنّي لا أودّعة
معنى البيت : يظهر الشاعر الندم في توديع زوجته ويتمنّى أن تودّعه الحياة دونما يودّعها
16_فكم تشبَّثَ بي يومَ الرحيلِ ضُحىً
وأدمعي مستهلّاتٍ وأدمعهُ
إستهلّت العين : أي دمَعت او نزلَ منها الدمع
معنى البيت : فكم طلبَ منّى يوم رحيلي أن لا أفارقه في حين كانت أدمعي وأدمعه مستهلّة
17_وكم تشفّع بي أن لا أفارقهُ
وللضروراتِ حالٌ لا تشفّعَهُ
الأصل من التشفُّع : طلبُ الشفاعة وتشفّعَ بي بمعنى توسّل بي
معنى البيت : وكم توسّل بي أن لا أبتعد عنه ولكنّ ضيق الحال والضرورة لم تكن لتسمح لي بالبقاء
18_لا أكذِبُ اللهَ ثوبُ الصبرِ منخرقٌ
عنَّي بفُرقتهِ ولكن أرقّعهُ
يقول بعدما ملّ وكلّ من الصبر والبعد ؛ لستُ كاذباً حين أقول بأنّ ثوب صبريَ منخرقٌ(ممزّق)مذ فارقتها ولكنّي أرقّعه أي أصبّر نفسي على هذا المصاب
19_إنَّي أوسّعُ عُذري في جِنايتهِ
بالبينِ عنهُ وجُرمي لا يوسّعهُ
يقول : بعدما شعر بثقلِ الندم ؛ إنّي ابالغُ في عذري(اعتذاري)من أجل ما ارتكبته في حقّه من الإبتعاد ولكنّ جُرمي أوسع من ذلك أي لا يكفيه ويكفيني الإعتذار
20_أعطيتُ مُلكاً فلَم أحسِن سياسَتَهُ
وكلُّ من لا يسوسُ المُلكَ يُخلعهُ
معنى البيت : أعطيتُ ملكاً(أي زوجته لأنّهُ كان يحبّها حبّاً شديداً) ولكنّي لم احسن سياسته أي معاملته ثمّ يقول ومن لا يحسن السياسة فإنّهُ لا شكّ يخلعُ منها(أي يُطرد او يستبعد) وهذا وصف في معاملته لامرأته إذ أنّهُ لم يحسن معها فحدَث الفراق وشطّ بهم النوى
21_ومن غدا لابساً ثوبَ النعيمِ بلا
شكرٍ عليه فإنَّ الله ينزعهُ
معنى البيت : يقول ومن كان لابساً ثوبَ النعيم(يريد هاهنا بالنعيم زوجته وأيّامه معها) ولم يشكر الله على ذلك فإنّ الله ينزعهُ منه وهذا ماحصل معه
22_اعتَضتُ من وجهِ خلّي بعدَ فُرقتهِ
كأساً أجرَّعُ منها ما أجرّعهُ
*إعتاضَ فهو معتاض والعوض : المقابِل
يقول : أخذتُ من وجهِ خلّى بعد أن فارقتهُ كأساً من الألم أشربُ منها واشرِبهُ
23_كم قائلٍ لي ذقتَ البينَ قلتُ لهُ
الذنبُ واللهِ ذنبي لستُ أدفعهُ
*يقول : كم من قائلٍ أرادَ لومي بقولهِ ذقتَ البين ولكنّي قلتُ والله الذنبُ ذنبي أنا ولست أدفعه أي (أنكرهُ او استبعده أي أنّني المذنب الوحيد هنا ولا ذنب لزوجتي في هذا الفراق
24_إنّي لأقطعُ أيّامي وأُنفقُها
بحسرةٍ منهُ في قلبي تقطّعه
*أي أنّي أمضي أيامي بحسرةٍ منه أي (زوجته) وقد تقطّع هذهِ الحسرة في قلبي وهي حسرة البعد والندم الّتي لازمتهُ بعد أن فارقَها
25_بمَن إذا هَجَعَ النُوَّامُ بِتُّ لهُ
بلوعةٍ منهُ ليلي لستُ أهجَعهُ
*بمَن : تعود إلى زوجته ، الهجوع : النومُ ليلاً
يقول : وإني أمضي في حسرةٍ بمَن إذا نام الناسُ ليلاً بتُّ ليلي بلوعةٍ منه فلا أهجعُ جرّاء ذلك
26_لا يطمئنُّ لجنبي مضجعٌ وكذا
لا يطمئنُّ لهُ مذ بنتُ مضجعهُ
بانَ : بمعنى افترق ، الجنب الناحية من كل شيء ، المضجع : موضعُ النوم
يقول : لا يطمئنُّ لي وله مذ إبتعدتُ عنه مضجعٌ أي كلانا لا نستطيع أن ننام ممّا احدثهُ النوى والشوق فينا
27_ما كنتُ أحسبُ أنّ الدهرَ يفجعُني
بهِ ولا أنّ بيَ الأيّام تُفجِعهُ
28_حتّى جرى البينُ فيما بيننا بيَدٍ
عسراءَ تمنعُني حظّي وتمنعهُ
يقول : ما كنتُ أحسبُ أن يأتي يوماً يفعجنا فيه الدهر حتّى أتى ذلك اليوم فجرى البينُ بيدٍ تمنعني عنهُ وتمنعهُ عنّي
29_قد كنتُ من ريبِ دهري جازعاً فرِقاً
فلَم أُوَقَّ الذي قد كنتُ أجزَعُهُ
*فرِق : شديدُ الفزَع والخَوف ، أُوَّقَ : أتقّيه
يقول : قد كنتُ خائفاً من دهري ومن مصائبه فلَم يتحاشاني الّذي قد كنتُ خائفاً منهُ(أي قد نالتني نوائب الدهر وهمومه وقد كنتُ خائفاً منها)
30_باللهِ يا منزلَ العيشِ الَّذي درَسَت
آثارهُ وعفَت مُذ غِبتُ أربُعهُ
*درست وعفَت بمعنى : انمحَت ، والأربع جمع رَبع : وهو الموضع او المكان الذي تقيم فيه ويكمل في البيت التالي فيقول
31_هلِ الزمانُ معيدٌ فيكَ لذَّتَنا
أم اللّيالي الّذي أمضتهُ تُرجِعُهُ
يتحسّر ويتأسَّف على الربع الّذي عفت آثارهُ ثمّ يسألهُ أفهل يعود الزمانُ وهل تعودُ اللّيالي الَّتي أمضت علينا وهذي من المستحيلات أن يعود الزمان او أن ترجع اللّيالي .
32_في ذمّةِ اللهِ من أصبَحتَ منزلهُ
وجادَ غيثٌ على مغناكَ يُمرعهُ
الغيث : المطر : والمغنى : المنزل ، يمرِعهُ من أمرعَ المكان إذا خصبَ
33_ومن عندهُ ليَ عهدٌ لا يضيَّعهُ
كما لهُ عهدُ صدقٍ لا أضيّعهُ
*يعود مرّة أخرى إلى وصف ما ألَمّ بهِ من فراقه لزوجته
34_ومَن يصدّعُ قلبي ذكرهُ وإذا
جرى على قلبهِ ذكري يُصدَّعهُ
يصف شدّة الحُب المتبادل بينه وبين زوجته فيقول إنّ ذكرها يصدّع قلبي كما يصدّع ذكري قلبها
35_لأصبِرَنَّ لدهرٍ لا يمتُّعُني
بهِ ولا بيَ في حالٍ يمتّعهُ
يقول : أنا صابرٌ على دهرٍ لا يمتّعني بهِ (أي معها) ولا يمتّعه بي(أي معي)
36_علماً بأنَّ إصطباري معقبٌ فرَجاً
فأضيقُ الأمرِ إن فكّرتَ أوسَعهُ
يقول : مع العلم بأنّ صبري على الشدّة والفراق سيعقبُ لي فرجاً(أي سيفرّج عن همومي) فما تظنّهُ ضيّقاً هو في الواقع واسعاً(أي ما تراهُ شديداً في الواقع ليس كذلك) وهذهِ محاولة من الشاعر لتهدئة نفسه والتصبُّر على الشدّة
37_علَّ اللّيالي الّتي أضنَت بفُرقَتِنا
جسمي ستجمعُني يوماً وتجمعه
*يقول الشاعر : لعلّ اللّيالي التي أرهقت جسمي وأتعبتني من كثرة الشوق والألم أن تجمعني فيه مرّةً أخرى(ولكن للأسف لم يعود ابن زريق لبغداد ومات قبل أن يرى زوجته الّتي في الكرخة)
38_وإن تنَل منّا أحداً منيّتهُ
فما الّذي بقضاءِ الله يصنعهُ
*يستسلم الشاعر اخيراً ويسلّم نفسه لقضاء الله وقدره بقولهِ ؛ وإن تنَل أحداً منّيتهُ ، فما عسانا فاعلين إذا قضى الله شيئاً وصاغ القدَر
العيلامي