إحدى مفاجئات الدراسة الفريدة التي قام بها فريق دولي؛ هي أننا نحن البشر لسنا فقط مصدرا للمواد الكيميائية التفاعلية، ولكننا قادرون أيضا على تحويل هذه المواد الكيميائية بأنفسنا.
مستويات عالية من جذور الهيدروكسيل يمكن أن تتولد في الأماكن المغلقة بسبب وجود البشر والأوزون (مواقع إلكترونية)
هل خطر ببالك يوما كمّ الكيميائيات التي تتعرض لها، سواء في داخل المنزل أو في العمل أو في وسائل النقل، وعن مصادر هذه الكيميائيات وكيف يمكنك حماية صحتك من أخطارها؟
إن الملوثات الخارجية التي تأخذ طريقها إلى داخل المباني، والانبعاثات الغازية من مواد البناء والمفروشات، ومنتجات الأنشطة الخاصة بنا مثل الطهي والتنظيف، وحتى أجسامنا؛ كل هذه وغيرها هي مصادر للمواد الكيميائية التي تدخل الهواء الداخلي لمحيطنا في الأماكن المغلقة.
منظفات في الغلاف الجوي وداخل الجدران
تلعب مكونات الطبيعة دورا في تنظيف هذه المواد الكيميائية، ففي الهواء الطلق مثلا، يقوم المطر من خلال الأكسدة الكيميائية بتطهير الهواء، حيث تقوم "جذور الهيدروكسيل" (hydroxyl radical) إلى حد كبير بهذا التنظيف الكيميائي، ولذا سميت هذه الجزيئات شديدة التفاعل "بمنظفات الغلاف الجوي"، وهي تتشكل بشكل أساسي عندما تتفاعل الأشعة فوق البنفسجية المنبعثة من الشمس مع الأوزون وبخار الماء.
وفي الأماكن المغلقة، حيث يكون الهواء أقل تأثرا بأشعة الشمس المباشرة والمطر، ونظرا لأن الأشعة فوق البنفسجية يتم ترشيحها إلى حد كبير بواسطة النوافذ الزجاجية، فقد افترض العلماء لوقت طويل أن تركيز جذور الهيدروكسيل أقل بكثير في داخل الجدران منها في الخارج، وأن الأوزون الذي يتسرب من الخارج إلى الأماكن المغلقة هو المؤكسد الرئيسي للملوثات الكيميائية المحمولة في الهواء.
وفي دراسة جديدة نشرت في دورية "ساينس" (Science) اكتشف فريق من العلماء بقيادة "معهد ماكس بلانك للكيمياء" (Max Planck Institute for Chemistry) بالتعاون مع باحثين من الولايات المتحدة والدانمارك أن مستويات عالية من جذور الهيدروكسيل يمكن أن تتولد في الأماكن المغلقة، وذلك ببساطة بسبب وجود البشر والأوزون.
تقول نورا زانوني، التي تعمل في معهد علوم الغلاف الجوي والمناخ في بولونيا بإيطاليا -وهي الكاتبة الأولى للدراسة- في البيان الصحفي المنشور على موقع "يوريك ألرت" (Eurek Alert) في الأول من سبتمبر/أيلول الجاري "اكتشاف أننا نحن البشر لسنا فقط مصدرا للمواد الكيميائية التفاعلية، ولكننا قادرون أيضا على تحويل هذه المواد الكيميائية بأنفسنا، كان مفاجئا للغاية بالنسبة لنا".
وتضيف "يتم تحديد قوة وشكل مجال الأكسدة من خلال كمية الأوزون الموجودة، وأين تتسرب، وكيف يتم تكوين تهوية الفضاء الداخلي".
تطهّر "جذور الهيدروكسيل" (OH) الهواء (مواقع إلكترونية)
مستويات عالية من الهيدروكسيل
ويذكر البيان الصحفي أن مستويات الهيدروكسيل التي وجدها العلماء كانت قابلة للمقارنة مع مستويات تركيزات الهيدروكسيل في النهار، وأن مجال الأكسدة يتكون من خلال تفاعل الأوزون مع الزيوت والدهون على بشرتنا، وخاصة الترايتيربين سكوالين غير المشبع، والذي يشكل حوالي 10% من دهون الجلد التي تحمي بشرتنا وتحافظ على نضارتها، حيث يطلق هذا التفاعل مجموعة من المواد الكيميائية في الطور الغازي التي تحتوي على روابط مزدوجة تتفاعل بشكل أكبر في الهواء مع الأوزون لتوليد مستويات كبيرة من جذور الهيدروكسيل.
وأجريت تجارب الدراسة في جامعة الدانمارك التقنية في كوبنهاغن، حيث بقي 4 أشخاص -خضعوا للاختبار- في غرفة خاصة يتم التحكم فيها بالمناخ في ظل ظروف قياسية، ثم تمت إضافة الأوزون إلى تدفق هواء الغرفة بكمية لم تكن ضارة للإنسان لكنها تمثل مستويات أعلى في الأماكن المغلقة، وقام الفريق بتحديد قيم الهيدروكسيل قبل وأثناء إقامة المتطوعين، سواء مع وجود الأوزون أو بدونه.
ومن أجل فهم كيف يبدو مجال الهيدروكسيل الذي يولده الإنسان أثناء التجارب، تم دمج نتائج نموذج حركي كيميائي مفصل متعدد الأطوار من جامعة كاليفورنيا في إيرفين مع نموذج ديناميكيات السوائل الحسابية من جامعة ولاية بنسلفانيا، وبعد التحقق من صحة النماذج مقابل النتائج التجريبية، فحص فريق النمذجة كيفية تباين مجال الهيدروكسيل الناتج عن الإنسان في ظل ظروف مختلفة من التهوية والأوزون، وكانت النتائج توضح أن جذور الهيدروكسيل كانت موجودة بوفرة وتشكل تدرجات مكانية قوية.
وقال مانابو شيرايوا، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا في إيرفين -الذي قاد قسم النمذجة- في البيان الصحفي "فريق النمذجة لدينا هو المجموعة الأولى والوحيدة حاليا التي يمكنها دمج العمليات الكيميائية بين الجلد والهواء الداخلي، من المقاييس الجزيئية إلى مقاييس الغرفة. ويعطي النموذج معنى للقياسات؛ ويجيب عن سؤال لماذا يتولد الهيدروكسيل من التفاعل مع الجلد".
وأضاف شيرايوا أنه لا تزال هناك أسئلة لم تتم الإجابة عنها، مثل الطريقة التي تؤثر بها مستويات الرطوبة على ردود الفعل التي تتبعها الفريق، وتابع "أعتقد أن هذه الدراسة تفتح طريقا جديدا لأبحاث الهواء الداخلي".
نمذجة تفاعل الهيدروكسيل (يسار) وتركيز الهيدروكسيل (يمين) حول أجسادنا داخل الجدران (جامعة كاليفورنيا، إيرفين)
تطوير طرق لاختبار الأثاث ومواد البناء
يقول قائد المشروع جوناثان وليامز في البيان أيضا "نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في الكيمياء الداخلية في الأماكن المشغولة لأن مجال الأكسدة الذي نخلقه سيحول العديد من المواد الكيميائية في جوارنا المباشر. يمكن للهيدروكسيل أكسدة العديد من الأنواع أكثر من الأوزون، مما ينتج عنه العديد من المنتجات مباشرة في منطقة التنفس الخاصة بنا والتي لا تزال تأثيراتها الصحية غير معروفة حتى الآن".
ويضيف وليامز "سيؤثر مجال الأكسدة هذا أيضا على الإشارات الكيميائية التي نبعثها ونستقبلها، وربما يساعد في تفسير الاكتشاف الأخير أن حاسة الشم لدينا أكثر حساسية بشكل عام للجزيئات التي تتفاعل بشكل أسرع مع الهيدروكسيل".
هذه النتائج تؤثر بشكل مباشر على صحتنا، فمن المهم اختبار الانبعاثات الكيميائية للعديد من المواد والمفروشات بشكل منفصل قبل الموافقة على بيعها، كما يستحسن إجراء الاختبارات أيضا في وجود الأشخاص والأوزون، كما يقول وليامز، وذلك لأن عمليات الأكسدة يمكن أن تؤدي إلى توليد مهيجات تنفسية مثل "أوكسوبينتانال-4" (4-oxopentanal) وأنواع أكسجينية أخرى ناتجة عن جذور الهيدروكسيل، وجزيئات صغيرة في المنطقة المجاورة مباشرة للجهاز التنفسي، والتي يمكن أن يكون لها آثار ضارة، خاصة عند الأطفال والعجزة.