الدرس السادس والعشرون (الاتجاهات العامة في التفسير)
اختلفت اتجاهات المفسّرين في تفاسيرهم من عدة اعتبارات، منها..

1 - طبيعة المصدر الذي يعتمدونه في التفسير..

2 - المنهج الذي ينتهجونه في التفسير.

وسوف نتحدث عن كل واحد من هذين الاعتبارين واختلاف التفاسير بحسبها ضمن فصول..

(الفصل الأول)

اختلاف التفاسير بحسب المصدر المعتمد في التفسير

تختلف التفاسير بحسب طبيعة المصدر العام الذي تعتمده في تفسير آيات القرآن الكريم، ويمكن ان نلاحظ فيها هذه الأقسام:

1 - التفسير بالمأثور.

2 - التفسير بالرأي.

3 - التفسير الإشاري.

4 - تفسير القرآن بالقرآن.

1 - التفسير بالمأثور

التفسير بالمأثور يراد منه تفسير القرآن اعتماداً على ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)(1) أو الائمة (عليهم السلام) - عند شيعة أهل البيت(عليهم السلام) - أو الصحابة - لدى الجمهور -، ويعممه بعض مفسّريهم منهم الى المروي عن التابعين.

أ: التفسير بالمأثور لدى الجمهور

وتلاحظ فيه نقاط الضعف التالية:

1 - اعتمادهم على التفسير المروي عن الصحابة والتابعين مع وضوح أن قول الصحابة فضلاً عن التابعين يفقد الحجية والاعتبار، فهم كسائر المسلمين يحتمل قولهم وفهمهم للخطأ، ولذلك اختلفت مواقفهم و آراؤهم، بما في ذلك تفسير القرآن فكيف يمكننا الاعتماد على آرائهم وتفاسيرهم؟

وقد تنبّه لذلك الدكتور صبحي الصالح حيث قال: بيد أن اطلاق بعضهم أن تفسير الصحابة له حكم المرفوع اطلاق غير جيّد، لأن الصحابة اجتهدوا في تفسير القرآن، واختلفوا في بعض المسائل والفروع، كما رأينا بعضهم يروي الإسرائيليات عن أهل الكتاب(2).

ويقوى الاشكال بالنسبة إلى التابعين فإنهم كثيراً مّا كانوا يعتمدون على اجتهادهم وفهمهم من دون الرجوع الى الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم). قال محمد حسين الذهبي: وقد روت لنا كتب التفسير كثيراً من اقوال هؤلاء التابعين في التفسير قالوها بطريق الرأي والاجتهاد، ولم يصل الى علمهم شيء فيها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو عن أحد من الصحابة(3).

وحكي عن أبي حنيفة قوله: ما جاء عن الرسول (ص) فعلى العين والرأس، وما جاء عن الصحابي تخيّرنا منه، وأما ما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال"(4) وعُرف عنه انه يعتبر الحديث المروي عن التابعين - الذي يسمى الحديث المقطوع - ضعيفاً لا يحتجّ به(5).

2 - كثرة الوضع في التفسير بالمأثور

يلاحظ ان التفسير بالمأثور تعرّض لمحنة الوضع والكذب من قبل الرواة على نطاق واسع، سواء في ذلك ما يروى كذباً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولذا نرى كثرة الأساطير والخرافات. وقد اعترف بهذا محمد حسين الذهبي وأحمد امين حيث قال: "ان القصاص والوضّاع زادوا في هذا النوع من التفسير كثيراً، ونسبوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما لم يقله، وليس أدل على هذا مما أخرجه الحاكم عن أنس انه قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن قوله تعالى: ﴿وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ﴾(6) قال القنطار ألف اوقية. وما أخرجه أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): القنطار اثنا عشر ألف اوقية"(7).

ولذا نجد احمد بن حنبل - رغم ما عرف عنه من كثرة الروايات - يقول: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي"، قال أحمد أمين "وظاهر هذه الجملة ان الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر - كما قال بعضهم - انه يريد الأحاديث المرفوعة الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير"(8).

رغم ان البعض حاول أن يحمل كلامه على ان الغالب ليس لها اسانيد صحاح متصلة(9).

ولم يختص الكذب والوضع على الأحاديث المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بل نجده على نطاق واسع بالنسبة لأحاديث التفسير المنسوبة للصحابة، فهذا ابن عباس رغم العدد الهائل المروي عنه في التفسير فإنّ ابن الحكم يقول سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلاّ شبيه بمائة حديث(10).

ومما وضع على لسان ابن عباس روايات فضائل سور القرآن. فقد حكي عن المختصر للاصول: أنه قيل لأبي عصمة نوح بن ابي مريم من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن اسحاق فوضعتُ هذه الأحاديث حُسبةً".

ونظير ذلك ما روي عن اُبيّ بن كعب في فضائل سور القرآن "قال الصاغاني: وضعه رجل من عبادان"(11).


1- جمع السيوطي كل الأحاديث المسندة - من طرق أهل السنة - الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير، راجع الاتقان 4/245 - 298 وسوف تلاحظ قلتها.

2- علوم الحديث ومصطلحه: 209، قد نسب ذلك الى الدكتور أحمد محمد شاكر في كتابه الباعث الحثيث: 50.

3- التفسير والمفسّرون: 1 100.

4- علوم الحديث ومصطلحه: 210.

5- يراجع المصدر نفسه.

6- سورة آل عمران: 14.

7- فجر الإسلام: 425.

8- ضحى الإسلام: 2 141.

9- راجع الاتقان: 2 178، ومقدمة في أصول التفسير: 95.

10- الاتقان: 2 189.

11- يراجع تذكرة الموضوعات: 82.




الدرس السابع والعشرون


3 - الإسرائيليات

وهي الآراء التي تسربت من اليهود والنصارى فاعتمدها بعض المسلمين في تفسير القرآن الكريم، وانّما سمّيت بالاسرائيليات تغليباً لجانب التأثير اليهودي على جانب التأثير النصراني "فان الجانب اليهودي هو الذي اشتهر امره فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة اهله وظهور امرهم وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام الى أن بسط رواقه على كثير من بلاد العالم"(1).

مبدأ ظهور الإسرائيليات

الملاحظ أن دخول الاسرائيليات في التفسير بدأ منذ عهد الصحابة كما اعترف به عدد من المفسرين الباحثين.

قال محمد حسين الذهبي: وسبق لنا القول بأن الرجوع الى أهل الكتاب كان مصدراً من مصادر التفسير عند الصحابة، فكان الصحابي اذا مرّ على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلاً الى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن ولم يتعرض له، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا الى الإسلام وحملوا الى أهله ما معهم من ثقافة دينية فألقوا إليهم من الأخبار والقصص الدينية(2).

وقد أخذ هذا من ابن خلدون حيث اشار إليه في مقدمته(3).

وقد ادعى محمد حسين الذهبي انّهم لم يقبلوا كل شيء منهم، بل حتى ما اخذوه منهم لم يعتمدوا عليه، اعتماداً على ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمنا بالله وما انزل إلينا وما اُنزل إليكم) الآية(4).

لكنه لم يدعم رأيه هذا بشواهد، بل الشواهد على خلافه حيث شحنت كتب التفاسير بكثير من الروايات التفسيرية المنسوبة للصحابة المليئة بالأفكار الإسرائيلية، ولو كان الصحابة قد تحرّجوا من أخذ هذه الأفكار الاسرائيلية لظهر اثر هذا التوقف على مَن بعدهم فلم يعتمدوا على قبول الاسرائيليات على هذا النطاق الواسع، على انّ مكانة كعب الأحبار وعبدالله بن سلام في روايات التفسير ظاهرة لكل من راجعها.

وقد بلغ تغلغل الأفكار الاسرائيلية في روايات الحديث حتى دُعم ذلك بأحاديث نسبوها للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، مثل ما رواه البخاري عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) "بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني اسرائيل ولا حرج، من كذب عليّ فيلتبوّأ مقعده من النار"(5).

ويبدو من بعض النصوص المروية في مصادر الجمهور أن قضية الأخذ من اهل الكتاب بدرت من بعض الصحابة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مما ادى الى غضب الرسول، فقد اخرج احمد وابن ابي شيبة والبزار من حديث جابر بن عبدالله: "ان عمر بن الخطاب اتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب اصابه من بعض اهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب، فقال: "أمتهوّكون - اي أمتحيّرون - فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلاّ أن يتبعني"(6).

ونلاحظ مدى تذمّر النبي وغضبه من مراجعة أهل الكتاب وسؤالهم، كما انّ النص يوحي ان عمر و ربما غيره من الصحابة أيضاً محتارون في الموقف بين ما يسمعونه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وما يسمعونه من أهل الكتاب المناقض لذلك.

ومن ذلك ما روي أنه أُتي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب في كنف فقال: "كفى بقوم حمقاً أو ضلالة أن يرغبوا عمّا جاءهم به نبيّهم الى نبي غير نبيّهم أو كتاب غير كتابهم". فأنزل الله عزوجل ﴿أولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ...﴾(7)(8).

وقد رووا ان عبدالله بن عمرو بن العاص اصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يحدّث منهما(9).

وهذا يكشف عن حالة سائدة ومقبولة بين الصحابة بحيث لم يتحرج عبدالله بن عمرو بن العاص من رواية هذا العدد الكبير من هذه الكتب اليهودية.

وعندما نراجع التابعين في تفاسيرهم نجد أن الطامة اكبر وأن الخرق يتسع كثيراً.

قال محمد حسين الذهبي: امّا التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن اهل الكتاب فكثرت على عهدهم الروايات الاسرائيلية في التفسير... فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض، ومن هؤلاء مقاتل بن سليمان المتوفي سنة (150هـ) الذي نسبه ابو حاتم الى انه استقى علومه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما في كتبهم، بل ونجد بعض المفسرين في هذا العصر - عصر التابعين - يصل بهم الأمر الى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالاسلام في مستقبله، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل والتنبؤ بما يطويه الغيب، فهذا مقاتل بن سليمان...(10).

وقد قدّمنا رأي ابن خلدون حول انتشار الاسرائيليات، وانه قد عدّ كعب الاحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام وامثالهم من التابعين أوائل من سرّب الاسرائيليات الى تفسير القرآن.

ويبدو ان قوله "امثالهم" يشمل مثل عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح التابعي.

وقد طعن بعض الباحثين مثل احمد امين(11) ورشيد رضا في كعب الاحبار ووهب بن منبّه، قال رشيد رضا: - بعد أن اشار إلى طعن ابن تيمية فيهما - فكيف لو تبيّن له - ابن تيمية - ما تبيّن لنا من كذب كعب ووهب وعزوهما الى التوراة وغيرها من كتب الرسل ما ليس فيها شيء منه ولا حوّمت حوله(12).


1- التفسير والمفسّرون: 1 145.

2- التفسير والمفسّرون: 1 169.

3- راجع مناهل العرفان: 2 29.

4- كذا بلفظ البخاري في الجامع الصحيح: 4 374. لكن لا توجد آية قرآنية بهذا اللفظ.

5- الجامع الصحيح: 4 145، طبع دار الفكر، بيروت.

6- التفسير والمفسّرون: 1 172 - 173.

7- سورة العنكبوت: 51.

8- جامع بيان العلم وفضله: 2 50.

9- التفسير والمفسّرون: 1 175.

10- التفسير والمفسّرون: 1 176.

11- راجع فجر الإسلام: 198.

12- تفسير المنار: 1 9.





يتبع