الدرس الثاني والعشرون
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(1).

قال الزمخشري: والسبب في نزول هذه الآية انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما أعرض عنه قومه وشاقّوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به تمنّى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفّرهم، لعلّه يتّخذ ذلك طريقاً الى استمالتهم واستنزالهم عن غيّهم وعنادهم، فاستمرّ به ما تمنّاه حتى نزلت عليه سورة النجم وهو في نادي قومه، وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلمّا بلغ قوله (ومناة الثالثة الأخرى)(2) ألقى الشيطان في أمنيّته التي تمنّاها، أي: وسوس إليه بما شيّعها به، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط الى أن قال (تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهن لترتجى)... إلخ(3).

وقد روى هذه القصّة الطبري والبزّار والطبراني وابن مردويه وغيرهم.

ولكن علماء الشيعة ومجموعة أخرى من علماء الجمهور رفضوا ذلك... قال الفخر الرازي في تفسيره بعد أن أشار إلى هذه الروايات: "هذا رواية عامّة المفسّرين الظاهريين، أمّا أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنّة والمعقول... إلخ"(4).

ونحن عندما ندرس هذه الآيات الكريمة دراسةً موضوعية متأنية نجد مدلولها أجنبياً عن آيات سورة النجم وقضية الغرانيق المزعومة، وذلك أن اسطورة الغرانيق رويت بصيغتين مختلفتين في المضمون..

فمدلول الصيغة الأولى: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تعمّد تغيير الوحي والافتراء بهدف التقرب للمشركين واستمالتهم.

وهو - كما تراه - خلاف ظهور الآيات الكريمة، وقد أوضحنا بطلانه.

ومدلول الصيغة الثانية: انّ الشيطان خدعه أو تحدّث على لسانه.

وقد يتوهم انسجام ذلك مع ظهور الآيات الكريمة، ولكن هذا غير صحيح بعد ملاحظة ما يلي:

أولاً: انّا لا نجد الشيطان مسلّطاً على الإنسان العادي من الناس حتى غير المؤمن بحيث يؤثر على حواسّه، فكيف يفترض سيطرته على الأنبياء والرسل، مع انّهم من الناحية التكوينية العضوية كباقي الناس؟

ثانياً: انّ الآية تفرض الحالة دائمية تلاحق الأنبياء والمرسلين وانّها ليست نادرة، لذلك استخدمت صيغة الحصر، وليس من المعقول فرض هذه السيطرة الدائمة للشيطان على الأنبياء والرّسل. مع ملاحظة مسؤولياتهم الخطيرة ورعاية الله وتسديده لهم.

ثالثاً: انّ التمنّي قد يُراد منه أحد معان.

أ: طلب المستحيل أو شبهه.

ب: التلاوة كما ورد فيه قول الشاعر:

تمنّى كتاب الله آخر ليله *** تمنّي داوود الزّبور على رسل

أي تلا كتاب الله مترسلاً فيه كما تلا داوود الزبور مترسّلاً فيه(5).

ج: إرادة الشيء أو تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه(6).

أمّا المعنى الأول فهو غير معقول هنا، لذلك لم يذكره أحد. وأمّا المعنى الثاني فهو لا ينسجم مع الآية الكريمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى..﴾(7) إذ من المعلوم ندرة الأنبياء والرّسل أصحاب الكتب التي يقرؤونها، بينما الآية تتحدث عنهم كلهم أو نسبة كبيرة منهم على الأقل. ويقوى الإشكال بالنسبة للأنبياء - غير الرسل - بناءً على الرأي القائل: انّ النبي غير الرسول.

فلا يبقى إلاّ المعنى الثالث فيكون معنى الآية - والله العالِم - انّ الأنبياء والرسل حيث يرغبون ويحرصون على هداية الناس فيضع الشيطان العراقيل والمعوقات أمام مساعيهم الاصلاحية، ونتيجة لهذا الصراع بين الخير والشر، يفتتن كثير من الناس، ويزداد المؤمنون إيماناً، كما تحدثت بذلك آيات أخرى ﴿يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾(8).

رابعاً: إنّ هذا كلّه يبتني على فرضية صحة اسطورة الغرانيق إذ لا يحتمل أنّ هناك قضية أخرى أوجبت نزول هذه الآيات، بل الذين يذهبون الى هذا التفسير - المرفوض عندنا - يعتبرونها مشيرة الى قضية الغرانيق، ونحن قد أثبتنا فيما سبق ومن خلال عدة شواهد عدم صحة قضية الغرانيق وعدم انسجامها مع مدلول الآيات المتقدمة. وانّها اسطورة حاكتها أصابع الظالمين(9).

هذا، ونلاحظ انّ مجموعة من علماء الجمهور رفضوا هذه الروايات، قال الرازي في معرض ردّه على هذه الروايات بالسنّة: وأمّا السنّة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة انّه سئل عن هذه القصّة؟ فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنّف فيه كتاباً. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلّم انّ الرواة مطعون فيهم(10).

الأسئلة

1 - اذكر خمسة معان للوحي.
2 - كيف تردّ الاستشهاد بالآية الكريمة ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً﴾ على صحة اسطورة الغرانيق؟
3 - كيف تردّ الاستشهاد بآية التمني على صحة اسطورة الغرانيق؟
4 - كيف تناقش الرأي القائل ان ادعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الارتباط بالله بهدف تهيئة ارضية لدى قومه لقبول افكاره الاصلاحية؟
5 - هل ان سعي الإنسان للانخراط في المجتمع لمجرّد توفير مصالحه الذاتية؟
6 - ما هو سبب احتياج الإنسان للوحي الإلهي؟


1- سورة الحج: 52 - 54.

2- سورة النجم: 20.

3- الكشّاف: 3 164.

4- التفسير الكبير: 23 50.

5- لسان العرب: 15 294.

6- يراجع المصدر.

7- سورة الحج: 52.

8- سورة البقرة: 26.

9- ولا غرابة في ذلك ما دام (خليفة المسلمين) يتطاول على النبي 9 ويزداد غيظاً عندما يسمع اسمه ينادى به في الأذان كلّ يوم خمس مرّات، ويعزم على دفنه والقضاء عليه، كما في المحاورة المعروفة بين المغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان. والخليفة الآخر - الوليد بن يزيد بن عبد الملك - يتطاول على كتاب الله عزّوجلّ ويجعله غرضاً ليرميه بالنشّاب وهو يقول:

تهدّدني بجبار عنيد *** فها أنذاك جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر *** فقل يارب مزّقني الوليد

الى غير ذلك من الممارسات والمواقف المخزية، ولا نستغرب من (علماء) يلتزمون هذا الرأي مطاوعين لرغبات أولئك (الخلفاء) أو حجبتهم الغشاوة عن رؤية الحقيقة.

10- التفسير الكبير: 23 50.




الدرس الثالث والعشرون (القرآن والعلم)



1 - موقف القرآن من العلم.

دعا القرآن في كثير من الآيات الى التزود بالعلم وأثنى على العلماء وذمّ الجهل والجاهلين، وهذا لاشك فيه لمن يلقي نظرةً - ولو سطحية - على الآيات القرآنية.

لكن يبقى هناك تساؤل عن طبيعة العلم أو العلوم التي دعا إليها القرآن ومدح أصحابها وأثنى عليهم، فهل حث القرآن على كل العلوم، المادية وغيرها أو كان نظر القرآن الى خصوص بعض العلوم دون البعض الآخر؟

فبينما نجد بعض المفسرين والباحثين يحاولون اثبات دعوة القرآن إلى تعلّم كل العلوم النافعة، نرى آخرين يصرّون على أن نظر القرآن الى خصوص العلوم الإنسانية وما يرتبط بسعادة الإنسان في الدار الآخرة، مثل العقائد والفقه والتربية ونحوها...

ولأجل أن يتضح الموقف القرآني من العلوم نقول: انّ ملاحظة الآيات التي تتحدث عن العلم والجهل وما يحكي عنهما من المفردات تشهد انّها تصب في اتّجاه استقامة الانسان وهدايته ووعيه لطبيعة الحياة الدنيا، فهي لا تعدو هذه الأمور و نحوها مما يرتبط ارتباطاً مباشراً بالعلوم والمعارف الدينية والتربوية، دون العلوم المادية ونحوها مما يحتاجها الانسان في حياته اليومية. فمن هذه الآيات قوله تعالى:

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(1).

﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(2).

﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا * وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾(3).

وغيرها كثير من الآيات.. حيث نلاحظ ان هذه الآيات القرآنية الكريمة بعيدة عن ارادة العلوم المادية وما يشبهها مما هو ضمن اهتمام الإنسان ومرتبط بجهده واحتياجاته، وأمّا تفسير العلم في هذه الآيات بما يشمل كل العلوم النافعة فهو تفسير متكلّف فيه.

نعم يكمن اهتمام القرآن بمختلف العلوم النافعة من خلال ما يلي:

أ: اهتمام القرآن بعزة الإسلام والمسلمين، فتدخل ضمن هذه الزاوية كل العلوم التي تساهم في تقدم المجتمع واستقراره ورخائه الاقتصادي وكل ما يُنأى بالمسلمين عن الذل والدونية في مقابل الأُمم الاخرى.

ب: دعوة القرآن لإحياء الأرض، او استثمارها - باعتبارها قد جُعلت وابيحت للانسان - والذي قد يفهم منه الكناية عن الحث على استكشاف أسرار وخزائن هذا الكون الذي يتوقف على نموّ العلوم المادية وتطورها. ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾(4).

ج: دعوة القرآن المسلمين للدفاع عن انفسهم وعن دينهم والاستعداد التام لمواجهة خطط الأعداء وكيدهم.. فإنه يستبطن الدعوة للتزود بكل العلوم المساهمة في الوصول الى هذه الحالة بكل جوانبها العسكرية والاقتصادية وغيرهما.. ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾(5).

2 - العلوم التي كان القرآن عاملاً في ظهورها.

هذه العلوم على صنفين.

الصنف الأول: هي العلوم التي تضمنها القرآن الكريم سواء تلك التي كان هو مصدرها الأساس أم التي ساهم القرآن الكريم في تطويرها، مثل مباحث التوحيد والنبوة والمعاد والفقه والتربية الإسلامية والأخلاق ونحوها.

الصنف الثاني: العلوم التي ساهم القرآن في تطوّرها واستمرارها من دون أن يتضمنها، مثل علوم النحو والبلاغة واللغة وفقه اللغة، حيث عكف المسلمون على دراسة اللغة العربية وأسرارها وأحكامها ليحافظوا على القرآن الكريم ويفهموا معانيه، فكان للقرآن الفضل في نشوء هذه العلوم وتطوّرها واهتمام المسلمين بها.

بالإضافة إلى دوره في حفظ اللغة العربية من الذوبان والتهجين.

3 - العلوم الخاصة بالقرآن والباحثة عنه

وهي مجموعة علوم القرآن التي ندرسها تحت عنوان "علوم القرآن" مثل مباحث علم التفسير، ونزول الآيات، والوحي، واعجاز القرآن، وغيرها من العلوم الباحثة عن القرآن الكريم نفسه، وخصائصه.

4 - العلوم الضرورية لفهم القرآن الكريم

يحتاج الدارس للقرآن الكريم - بالإضافة لفهم اللغة العربية والإحاطة بها - الى مجموعة من العلوم التي تساهم في فهم الكتاب العزيز، وهي..

أ) علوم العربية المختلفة، مثل علم اللغة وفقه اللغة، وعلوم النحو والصرف والبلاغة.

ب) العلوم العقلية المختلفة مثل المنطق والعقائد وبعض البحوث الفلسفية وغيرها.

ج) مجموعة علوم القرآن مثل نزول الآيات وتاريخه ليمكنه تفسير آية بأخرى، وتمييز المدني من المكي مثلاً وأسباب النزول وغير ذلك.

د) التزود بالعلوم التي تتحدث عنها بعض الآيات مباشرة مثل الفقه والعقائد وقصص الأنبياء وبعض أحداث التاريخ الإسلامي وغيرها.

هـ) علما الدراية والرجال، لتمييز النصوص التفسيرية الصحيحة عن غيرها، وتقديم المتعارضات ونحو ذلك.

هذا إذا كان هدف المفسّر التفسير المحيط والجامع لكل القرآن، أمّا اذا اقتصر على جوانب معيّنة منه أو آيات أو سور خاصّة منه فقد لا يحتاج الى بعض هذه العلوم المتقدمة. ويختلف ذلك بحسب طبيعة الجانب الذي يتناوله المفسّر ومتطلباته.

ونضيف - إلى جانب التزودّ بالعلوم المتقدمة - شرطين رئيسيين يفترض توفرهما في المفسّر للقرآن الكريم وهما:

الأول: أن يعي المفسّر تعاليم الإسلام من مصادرها الأصلية ولا يبتعد عن الذهنية الاسلامية الأصيلة، اذ لا يمكن التفكيك بين فهم الإسلام وفهم كتابه. ومن هنا نعرف عاملاً رئيسياً في أخطاء المستشرقين وغيرهم البعيدين عن فهم روح الإسلام الأصيل عند دراستهم وتفسيرهم للقرآن الكريم.

الثاني: أن يكون المفسّر مسترشداً بالقرآن الكريم وتابعاً له من دون أن يجعل من نفسه متبوعاً وموجّها للنص القرآني، فيجتنب تفسيره على ضوء قناعته المسبقة وتوجهاته الذاتية البعيدة عن القرآن وباقيَ المصادر الإسلامية التي يفسّر بعضها البعض الآخر، ولذا نلاحظ أخطاء فظيعة وقع فيها أصحاب العقائد والنظريات المنحرفة والباطلة عندما صاروا يحمّلون القرآن أفكارهم الخاطئة محاولةً منهم في تفسير آياته بما ينسجم معها.


1- سورة الجمعة: 2.

2- سورة النحل: 27.

3- سورة طه: 114 - 115.

4- سورة الملك: 15.

5- سورة الأنفال: 60.


يتبع