الترجمة والنص والسياق
بقلم عوني الخطيب
يجمع معظم فلاسفة اللغة بأن اللغة هي أداة لتصوير الحقائق ( Facts ) غير المحسوسة، Intangible ) ) وتجسيدها، وتمثيلها، والإنابة عنها. كما لو أنها مرئية على هيئة صورة ذهنية ( Picture)، كذلك فهي أداة لوصف المشاهد، (Scenes ) والأفعال، (Actions ) والأشياء الملموسة، ( Tangible ) وتجسيدها، على هيئة صورة ذهنية أيضاً. وهذا الدور لأية لغة كانت هو الذي يجعل الكلمات ذات معنى( Meaningful) بتصويرها للوقائع، ويجعلنا نرتكز - في استيعابنا لجوهر أية لغة وفهم معاني ملفوظاتها- على تلك الصور التي نحتفظ بها في أذهانها، ولعل هذا هو القاسم المشترك بين جميع اللغات في تصويرها للأشياء وجوهرها. وتدخل هذه الخاصية في أي غرض من أغراض اللغة سواء أكان ذلك الغرض وصفاً أم مدحاً أم دعاءً أم هجاءً أم توسلاً. وهذه الصور - وفقاً لما نادى به معظم فلاسفة اللغة وبالأخص الذريون والبنيويون - هي صور نمطية يستخدمها البشر في تصور المعنى في أية لغة كانت. كما أن هنالك قاسماً مشتركا آخر بين اللغات، وهو أنّ لكل لغة بُنية ( Structure ) تظهر على هيئة قواعد تستند على المنطق الرياضي. لذا فإن المعتقد السائد هو أن الترجمة تستند في عملياتها على تلك الصور، وهذه البُنى المتعارف عليها؛ لنقل صورة المعنى من لغة إلى أخرى. وهذا الأمر يجعل المترجم - الذي تعوزه الخبرة - أسيراً للنص في غمرة أملاً بأن تتلاقى أو تنسجم التوصيفات في النص مع الصور الدلالية المألوفة له، فيصبح عاجزاً عن أن يظهر حصون المعاني، وغير مقدام لتسوّر المحراب الدلالي للكلمة. وأرى إستناداً إلى النظرية البنيوية في هذه المسألة تحديداً أنّ المنتجات اللغوية التي ينتجها متكلم ما بلغة ما هي منتجات لا نهائية ولا حصر لها، وليس هنالك قاسم مشترك بينها سوى التركيب البنيوي الذي يستند إلى قواعد لغوية متعارف عليها. أما الصورة التي يرسمها أي تركيب بنيوي بشكله النهائي كملفوظ فستختلف حتماً فور محاولة المتكلم إقحام مفردة أو حرف أو حذف أي منهما. ولعل هذه هي إحدى الأزمات السياقية للنص التي يواجهها المترجم، لأن المتكلم يسمي الأشياء وفقاً لعمليات مختلفة لإنتاج توصيفات متباينة شكلاً ومضموناً تبعاً لتعداد الكلمات المستخدمة ونوعها في المنتج اللغوي، كما أنّ مستوى فصاحة النص (Eloquence) - وأقصد مستوى المجال الدلالي والتعبيري للنص وقدرته على إيصال المعنى بوضوح - وبلاغته (Rhetoric ) - وأقصد المستوى التبليغي والبياني والحُجّي للنص - أمران لا مفر من تحليلهما جنباً إلى جنب مع مستوى المجال التداولي الغربي والعربي والمجال التأويلي المتاح لكل كلمة من كلمات النص. ولا أقصد بمحاولتي للتطرق إلى مستوى الكفاءة التواصلية التبليغية للنص (Communicative Intention ) أن أُغلِّب أياً من النظريات الفلسفية اللغوية - كالنظرية التداولية مثلاً - على غيرها من النظريات التي تختص في البحث اللساني. فالتيار البنيوي مثلاً له مثالبه لأسباب معرفية (Epistemology) ، إلا أنني أميل الى الأخذ بالركام النظري للتداولية الذي يؤكد على أن المنتج اللغوي لأي نص هو منتج كلامي (Speech)، ومنتج فعلي (Action)، حيث أننا ما أن ننتجها إلى حيز الوجود نكون بذلك قد أنتجنا فعلاً اجتماعياً يُطلق عليه "الفعل الكلامي( Speech Act) له فحوى ومقصد وأثر، وبما أن السياقات لانهائية ومفاهيمها الدلالية والتعبيرية أيضاً غير محصورة ويصعب الإحاطة بها؛ فإن ذلك سيودي بالمترجم بأن يقع بين مطرقة الصورة النمطية للكلمة الأصل ومستواها التداولي في لغتها الأم وبين سندان المكافئ اللغوي لها ومستواه التداولي في اللغة المنقول إليها. لذا يجد المترجم نفسه مضطراً إلى اللجوء إلى الطريقة القصدية( Intention) لتأويل النص وتسليط الضوء على كل مفردة فيه، ونقب سور حصنها الدلالي بحثاً عن المقاصد الظاهرة والمتوارية تحقيقاً لانسجام الخطاب. وفي هذا الصدد يقول الجاحظ وصفاً لهذه الحالة "المعاني القائمة في صدور العباد، المتصوَّرة في أذهانهم، والمتَخَلِّجَةُ في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثةُ في فِكْرِهِمْ، مستورةٌ خفية، وبعيدةٌ وحشية، ومحجوبةٌ مكنونةٌ، وموجودةٌ في معان معدومةٍ، لا يعرف إنسانٌ ضميرَ صاحبِهِ، ولا حاجة أخيه وخليطِهِ، ولا معنى شريكِهِ، والمعاوِنِ له على أمورِهِ.. وإنما يُحْيي تلك المعاني ذكرهُم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها" . ويقول ايضا" المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها الأعجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتحبير اللفظ وسهولته وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير".هنالك مهمة أخرى ينفذها المترجم، ويوظف خبراته اللغوية لها ألا وهي تبيان نوع البيان ومستواه في السياق، والكشف عن وظائفه فيما إذا كان بياناً إخبارياً (حيادية النص لإظهار أمر على وجه الإخبار والإفهام) أو تأثيرياً (تقديم الأمر على وجه الاستمالة ) أو حُجّيّا ( تقديم الأمر للدفع والمحاجّة به) .أما ما لا يستحيل إغفاله أثناء تحليل النص فهو البون الشاسع في المعنى الدلالي لكل صفة متى إقترنت باسم، فمن المعلوم أن الصفة الواحدة يتغير حقلها الدلالي وفقاً للاسم الذي جاء معها في أية لغة كانت. وفي هذا السياق أورد مثلاً للتوضيح وهو كلمة( Real ) والتي يكافئها في العربية كلمة (حقيقي)، فعندما نقول هذه زهور حقيقية" اي طبيعية نقيضة الاصطناعية ، ونقول "هذه مذاق حقيقي " أي لذيذ نقيض السيء ،ونقول "هذا ذهب حقيقي" أي ذهب خالص نقيض الزائف، وهنا ما هي الخاصية المشتركة التي نقصد الإشارة إليها في كل الأشياء التي نصفها بأنها " حقيقية "؟ . لذلك وحتى لا نستسلم للحصون الدلالية العصيّة في الخطاب، وحتى لا نكون أسرى الصورة الدلالية القياسية للكلمة يجب إعتبار الالفاظ على أنها أرحام المعاني ،وأن نتعامل مع كل مفردة من مفرداتها ليس على أساس أقسام الكلام أو الصورة الذهنية التي ستوصلنا بلا منازع إلى طريق مسدود، بل علينا أن نراجع اسلوب إبن رشد في الترجمة وان نسبر غور المعنى لتبيان مستوى الانسجام والتناسق والمقاييس القصدية والقبول والإخبار والمقاييس المقامية والتناصيّة له رفعاً للقلق التعبيري والدلالي قبيل الشروع بالنقل .