من أهم الأهداف التي سعى إليها المشرع العراقي , هي حماية وصيانة حقوق الأفراد وإيصالها إليهم بأوضح شكل قانوني وأيسر سبيل، وتتباين طرق إثبات الحق وتختلف تبعا للمذهب الفقهي والقانوني للمنظومة القانونية التي تعبر عن فلسفة قيادة المجتمع .وفي قانون الإثبات العراقي رقم (107) لسنة 1979 المعدل كان توجه المشرع العراقي واضحا تجاه السبل المتبعة في إثبات الحق المدني دون الإثبات الجزائي ولما يتميز به من خصوصية من خلال التوجه الأوسط مابين وسائل الإثبات المقيدة والمطلقة .إذ حدد الوسائل والطرق وحصرها على وفق ما جاء في أحكام قانون الإثبات , ولا يعتد بأية وسيلة إثبات لم يرد ذكرها في هذا القانون ,إلا انه منح المحكمة السلطة المطلقة في تقدير هذه الوسيلة عند التصدي إلى اصل الحق وذلك على وفق ما جاء بالأسباب الموجبة لإصدار هذا القانون ,وهذا المنهج نراه متوازنا ويكاد يكون الأقرب إلى خط العدالة المنشودة .

ومن هذه الوسائل التي لاحظناها من خلال تطبيقات القضاء الندرة في استخدامها هي وسيلة الاثبات عن طريق (الاستجواب ) , وهذا المفهوم كان قد نظمت أحكامه المواد 71-75 إثبات ولم تجد تعريف محدد لذلك المفهوم في صلب المواد أعلاه ,إلا ان فقهاء وشراح القانون اجتهدوا في تحديد ماهية هذا المفهوم ,ويستدل من هذا المفهوم على ان لكل طرف من طرفي الدعوى الطلب من محكمة الموضوع استقدام الطرف الآخر والسؤال منه شخصيا عن بعض الأمور ومن دون توسط أي شخص ,مع ان للوكيل صلاحية الإجابة نيابية عنه في غير الأمور التي تقرر المحكمة استجواب ذلك الطرف شخصيا عنها , وحرصا من المشرع العراقي على ضمان عدم استغلال هذه الوسيلة في التعسف عند استعمالها من قبل أي طرف وضع لها جملة شروط يجب توفرها حتى تتمكن المحكمة من الاستجابة لطلب الاستجواب ومنها ما يأتي :


1. حينما ترى المحكمة ضرورة معينة ومحدد تستدعي استجواب احد الطرفين فلها ان تقرر ذلك , لان حضور وكيله لا يغني أحيانا عن حضور الشخص ذاته , الذي ترى المحكمة في سماع إجاباته عن أمر معين أكثر ضمانا في تامين قناعة المحكمة تجاه الواقعة محل النزاع .


2. أما اذا كان الاستجواب بناء على طلب احد الطرفين المتخاصمين فلا يجوز للمحكمة ان تستجيب إليه إلا اذا ذكر الطالب الوقائع التي يروم استجواب خصمه عنها ويوضحها توضيحا تاما . والغاية من ذلك هو عدم مفاجأة الخصم بما ليس له به علم وكذلك حتى يتمكن من تهيئة ما يدفع به تجاه ما تقدم به الخصم وذلك على وفق نص الفقرة (أولا) من المادة (72) إثبات , وهذا ما يعد من أهم مستلزمات تحقيق العدالة .


3. فضلا على ما ورد في الفقرة (2) أعلاه على المحكمة عندما تصدر قرارها بطلب الاستجواب ان تذكر الأسباب التي دعتها لقبول الطلب وذلك على وفق أحكام الفقرة (ثانيا ) من المادة 72 إثبات , ونرى ان هذا التسبيب يمكن الخصوم من الاستدلال على آلية توفير قناعة المحكمة عند اتخاذها ذلك القرار , وكذلك في رفض طلب الاستجواب، ان تسبب ذلك الرفض بكون تلك الوقائع التي يروم استجواب الخصم عنها غير منتجة , أي بمعنى إنها لا تزيد من القيمة القانونية للواقعة , وكما لها ان ترفض الطلب في حالة كون تلك الوقائع من التي لا يجوز إثباتها . وذلك على وفق ما ورد في حكم الفقرة (أولا) من المادة (73) إثبات .


4. وفي بعض الأحيان تتغير قناعة المحكمة تجاه وسيلة الإثبات بالاستجواب، فلها ان ترجع عن قرارها بقبول الطلب والموافقة عليه اذا ظهرت لديها أسباب ومسوغات تعزز من انعدام الجدوى القانونية أو المسوغ القانوني للاستجواب , وفي هذا الأمر سلطة تقديرية واسعة للمحكمة . ونرى ان ذلك الإطلاق في التقدير قد يؤثر في الحقوق، لذا أرى من الافضل لو قيدت هذه السلطة وقصرها على تقدير إجابة الخصم بعد الاستجواب لان من الممكن ان تظهر حقائق لم يكن للمحكمة علم أو دراية بها قد تؤثر على قناعتها


5. من النتائج المهمة التي تترتب على قبول طلب الاستجواب، هو الأثر الناشئ عن حالة رفض الخصم الاستجابة لذلك الطلب , اذ عده المشرع مسوغا للمحكمة في اعتبار كون تلك الوقائع التي أوعز بها طالب الاستجواب ثابتة وحقيقية ويمكن إثباتها بأية وسيلة أخرى لم يكن له الحق في استعمالها ابتداء مثل الإثبات بالبينة الشخصية (شهادات الشهود ) والذي يعد تحولا في الاتجاه نحو الإطلاق في الإثبات والخروج من دائرة القيد القانوني الذي جاء به النص , وذلك على وفق أحكام المادة (73) إثبات .


من ذلك نرى ان تلك الوسيلة أو الطريقة في الإثبات من أهم الوسائل لأنها تمتاز بامتياز خاص، كونها تتعامل مع كوامن النفس البشرية واستجلاء الحقائق والوقائع من خلال الجدل والنقاش ضمن الإطار القانوني المحدد بموجب النصوص , وإنها من أهم المعايير التي يمكن اعتمادها لبيان المهارات الفردية للقاضي والمحامي والخصم على حد السواء عند الاستجواب لأنها ضرب من الفن القضائي الذي تعتمده الشريعة الإسلامية السمحاء .