قراءة في رواية العطر
خالد ايما
للكاتب : باترك زوزكند
عالم مخيف بكل تجلياته المعطرة على مدار فصوله (أجزائه) الأربعة المتخمة بالخوف والقلق إزاء ما تنفثه الأوراق من روائح نتنه (عفنه) وجرائم قتل هيمنت منذ البداية بالبحث عن الذات ونحن لا نعرف أنفسنا ولم نبحث عن ذواتنا فكيف لنا أذن ان نكتشف أنفسنا بأنفسنا إزاء قراءتنا المعطرة بفوضى لا توصف من الروائح...القراءة التي تشربت بعطر وخرافة المجنون(زوسكيند ــ غرينوي) الذي يرى بأنفه أكثر مما يرى بعينيه...انفٌ لا يمكن ان نشك في حدته وهو يشم ألغاز الروائح المعقدة بحسب النوعية والكمية... انها الرواية(اللعنة) التي مضى عليها أكثر من 22 عاماً دون ان تفقد من رونقها شيئاً ...لعنة لطالما أبتعد الكثير من مبدعي السينما عن الوقوع في أسرها ...الرواية التي شلت وعينا بخطاب سردي معطر بلغة الكيمياء(الخيميائية) او ما يسمى بـ (كتاب الروائح) التي أعطت للرواية بعداً ميتا فيزيقياً يؤثر ويتأثر بجو النص المكهرب برائحة العطر القاتل ...العطر الذي تناثر على بياضات الورق بطريقة مخيفة تدنينا من الموت يوماً أثر يوم ، وأنا أحسد "زوسكيند" على فلتته هذه او "لعنته" التي تأثرتُ بشخصياتها وعوالمها السحرية ...العوالم الغريبة المذهلة التي تحتاج إلى ان نسترخي قليلاً ونتأمل الكثير لما يحدثه "زوسكيند" لنا من أفكار وأحداث لم يستطع أي كاتب ان يتناولها بهذه الجرأة التي اتخذت من العطر عنصر اً للتشويق والشد والمتعة أساسا لقراءتها ،وهذا في حد ذاته يشكل خرقاً في السرد الروائي الذي لم ولن يأتي بمثل هذه المعجزة(النص السيميائي) هذا النص لن ياتي من فراغ بقدر ما يأتي بنظرية التأثر والتأثير ...هذه النظرية التي أراد منها "زوسكيند"ان يستحوذ علينا كقراء حالنا حال شخصياته المعطرة برائحة الموت ، وهذا ما حدث لنا فعلاً أثناء القراءة وما بعد القراءة ونحن نشم الرواية(العطر)بشخصياتها الغريبة وثيابها الرثة ونتانتها القذرة وقلقها الدائم إزاء هذا الوجود الذي لا يمكن لأي كاتب ان يأتي بهكذا رائحة(لعنة) ويُنظر بغرائبية زوسكيندية عن مفهوم الرائحة حاله حال (كونديرا) الروائي الأخر الذي راح ينظر بطريقة فلسفية عن الخفة والثقل والسرعة والبطء ولكن بطريقة فلسفية بعيدة عن معجزات "زوسكيند"الإلوهية ...التي أشعلت حاستي السادسة وجعلتني اقرأ الرواية بطريقة بورخسية تعمي البصر معتمداً في ذلك على حاسة الشم ، التي أثلجت كل توقعاتي وأنا أغمض عيني وأتنفس عميقاً أشم رائحة كل فصل ،فأنا أجزم ان كل فصل من فصولها بل كل ورقة منها لها رائحة تميزها عن غيرها ... وما زالت هذه الطاقة الشمية ترافقني منذ ان أنهيت الرواية
صانع العطر
بعد مشاهدتي الفيلم الروائي)العطر) الذي تأثر بالنص (النسخة الورقية ) أعود لأقول وهذا رأي الشخصي ان "باتريك زوسكند" هو الصانع الأول الذي زج النص بتراكيب لغوية شعرية معطرة بتعويذة سحرية خارقة رغم .النتانة والسفلة التي انماز بها النص ... نتانة لا يمكن ان نتخيلها إلا بشق الأنفس ...رائحة نتنه تنبعث من جسد النص الذي ضج بروائح جهنمية لا تطاق ...روائح نتنه لا يمكن ان تغادر وعينا بهذه السهولة ....وكل ما نحتاجه في قراءتنا لذلك النص ان نكون محصنين تحصيناً منيعاً ضد الروائح التي ينفثها النص والتي تفقد شهيتنا للقراءة ، او ربما تزيدها متعتاً ولذةً حسب وعينا القرائي الذي يخضع لتقلبات وأمزجة الحراك الثقا ــ معرفي المبتلى عليه .ما قرأته في النص هو من جعلني ان أرى الأشياء بوضوح ولكن بشيء من الفوضى (المنظمة) التي دائماً ما تخترق وعينا ، وأخشى الكلمات حيث اللغة التي تلتصق على جسد الورق الأبيض الضاج بروائح كثيرة نتنه(عفنه) لا يمكن ان تغادر ذاكرتنا ووعينا وقراءتنا لهذا النص الذي يصطاد الروائح على طريقة(غرينوي) والذي يمتاز بهيمنة الفباء الروائح التي تقف عائقاً إزاء لغة النص ، واقصد باللغة (اللغة المتداولة)الخاصة بـشخصية(غرينوي) التي لم تعد تكفي للتعبير عن الأشياء التي استوعبها في ذاته كمصطلحات للحس الشمي ، وهذا بطبيعة الحال دعا "زوسكند" مؤلف النص إلى ان يحفر في "حاسة الشم" ويتعمد اللغة الشعرية الكيميائية (المختبرية) ، أكثر مما يتعمد الرؤية بالعين ودليل ذلك واضح عندما يمنح "زوسكند" بطله (غرينوي) الشك في اللغة ، ولم يعمد إلى استخدامها إلا اضطراراً ، وأكثر دلالة في ذلك هي طفولة "غرينوي" المشوه التي استيقظ فيها انفه قبل كل شيء وكأنني اكتشف بأن مؤلف النص كان يرى الأشياء بأنفه أكثر مما يراها بعينييه بدليل العطر وما بعد العطر الذي يضج به النص ، وما يتركه من اثر جذاب ومثير ينفرد على طول المتن الروائي المعطر بـ (263) صفحة ، وهذا ما حدث فعلاً من هيمنة وسلطنة سحرية لذلك العطر على القارئ الاستدلالي ...القارئ الذي يزداد حرصاً وإيماناً مطلقاً بما يقرأ ويشم من رائحة اثارث جدلاً كبيراً وواسعاً حيث الجسد(الأنثى) هو من يمنحنا لذة القراءة والجمال بكل نقائه ورونقه ، وهو من يمنحنا الحياة التي يفتقر إليها النص بكل تجلياته ،ولكن هذه المرة بحاسة الشم التي تسطو على الرؤية (العين )المجردة ، وتسطو على مفاتن الجسد (النص) الذي يفوح برائحة العطر أينما نكون من قراءتنا يكون(الجسد)صاحب الامتياز الأول الذي لا يفارقنا ما دام (جان بابيست) ذلك المجنون يعصر العطر الإلهي في فوضى روحه السوداء التي ستصيره إلى قاتلاً للنساء وخالقاً للعطور ...بل أعظم صانعاً للعطور ، وما يهمه من جريمته (قتل النساء) هو ان لا يخسر ذرة واحدة من عطرها الذي ينتزعه شماً وهي ميته ، وبعد هذه التعويذة السحرية (الشم) يحاول "زوسكيند" ان يكشف لنا عن خطورة النص (الجسد) بقتل الجسد وتعريته وفك ازرارة بفوضى او بثورة عارمة تخترق وجودنا بجمالية الشعر والرقبة والصدر والخصر وما تبقى .... انه"العطر" الذي يبحث عنه "زوسكند" في جسد الرواية وفي أجسادنا التي تخشى ان يكون لها عطراً يفوح برائحة الصبايا البضات .