كتاب "أرواح النساء.. الثقافات الدينية للنساء المستعبدات في الجنوب السفلي الأميركي" للمؤرخة الأميركية ألكسيس ويلز أوغوغوميه أصدرته حديثا مطبعة جامعة شمال كارولينا


يعود تاريخ العبودية أو الرق لآلاف السنوات، فقد كان متأصلا في الشعوب القديمة التي عرفت تجارة العبيد -بمختلف ألوانهم وأعراقهم- لاستخدامهم في زمن الحضارات القديمة نتيجة لثقافة أسرى الحرب والعمل القسري، لكن في الأزمنة الحديثة ارتبط تاريخ العبودية المعاصر بلون البشر والأصل العرقي، خاصة بعد اكتشاف المستعمرات الجديدة التي أنشأها الأوروبيون في الأميركيتين حيث جلب البرتغاليون والفرنسيون والهولنديون والبريطانيون والإسبان وغيرهم جحافل من العبيد الأفارقة للعمل في المزارع بالسخرة.
وبدءا من شواطئ غرب أفريقيا في القرن الـ16 وانتهاء بجنوب للولايات المتحدة عشية الحرب الأهلية بالقرن الـ19، تتبع المؤرخة والأكاديمية الأميركية ألكسيس ويلز أوغوغوميه قصص النساء المستعبدات اللاتي صنعن لأنفسهن وعائلاتهن حيوات شقت طريقها وسط أهوال العبودية الأميركية آنذاك، وتولي أستاذة التاريخ الديني الأفريقي-الأميركي بجامعة ستانفورد اهتماما خاصا بالأمومة والحياة الخاصة للنساء.


وتشرح المؤلفة في كتابها "أرواح النساء.. الثقافات الدينية للنساء المستعبدات في الجنوب السفلي الأميركي" (The Souls of Womenfolk: The Religious Cultures of Enslaved Women in the Lower South) الصادر قبل شهور قليلة عن مطبعة جامعة شمال كارولينا استجابات النساء للعبودية في الجنوب الأميركي على عدة مستويات، أخلاقيا وجماعيا، وبالاعتماد على مجموعة واسعة من المصادر توضح المؤلفة كيف تذكر النسوة المستعبدات معتقداتهن وكيف أعدن تشكيل وابتكار الممارسات المتداولة بين أفريقيا والأميركيتين.
وبهذه الطريقة، تعيد المؤلفة صياغة السرد الديني والثقافي الأميركي مع تجنب إقصاء النساء المستعبدات منه، حيث يتحدى هذا الكتاب التاريخ المؤسسي التقليدي، ويفتح نافذة نادرة على المساعي الروحية والوجدانية لواحدة من أبرز المجموعات المهمشة في التجربة الأميركية.
وعرفت تجارة العبيد في أميركا منذ حقبة تأسيس المستعمرات في العالم الجديد، ويشير مقال مطول سابق لصحيفة نيويورك تايمز إلى قانون فرجينيا الصادر عام 1662 الذي ينص على أن وضع الطفل يتبع وضع الأم، مما يعني أن النساء المستعبدات من أصل أفريقي أنجبن أجيالا من الأطفال الذين يُنظر إليهم كسلع؛ ويضيف أنه تم سن قوانين صارمة تحدد الوضع القائم على أساس العرق والطبقة، وأن السود في أميركا كانوا يتعرضون للاستعباد مدى الحياة.
ويرى المقال أن تجارة الرقيق وفرت قوة سياسية ومكانة اجتماعية وثروة للكنيسة وللدول الأوروبية ومستعمرات العالم الجديد والأفراد، وأن رجال الأعمال جنوا المال عن طريق تداول السلع التي تنتجها العبودية على مستوى العالم، مما سمح لهم بتأمين مواقف سياسية وتحديد مصير الأمة الأميركية الجديدة.

العبودية المبكرة في أميركا
وترى الكاتبتان ماريا إيليوت وياسمين هاغيز أن الأفارقة المستعبدين ناضلوا بشكل متواصل لنيل الحرية، وأنهم كثيرا ما تمردوا وقادوا حملات للتخلص من نير العبودية، مشيرتين إلى "ثورة ستونو" التي حدثت في سبعينيات القرن الـ18، وإلى وضع السود على الخطوط الأمامية لجبهات القتال ضد الهجمات البريطانية.




ويشير المقال إلى أنه تم جلب السود إلى الولايات المتحدة من مناطق وجماعات عرقية في جميع أنحاء أفريقيا، ورغم أنهم وصلوا خالي الوفاض فإنهم حملوا معهم ذكريات أحبائهم ومجتمعاتهم والقيم الأخلاقية والبصيرة الفكرية والمواهب الفنية والممارسات الثقافية والمعتقدات الدينية والمهارات المختلفة، واعتمدوا في بيئتهم الجديدة على هذه الذكريات لخلق ممارسات جديدة تتخللها ممارسات قديمة.
قصص الاستعباد
وينقل كتاب المؤلفة ألكسيس ويلز أوغوغوميه قصصا مأساوية للنساء المستعبدات، وتروي جوليا، وهي واحدة من النساء الأفريقيات، رحلة جدتها هانا التي كان لديها 21 طفلا، وكانت تعمل في المزارع في بلد أفريقي وتحفر في الحقل مع طفل رضيع مربوط على ظهرها، وفي أحد الأيام جاء رجلان أبيضان واقتاداها إلى الغابة بعد أن تسببا بالعمى لها وأخذوا معها طفلها الرضيع ووضعوهما مع أطفال ونساء آخرين قاموا بخطفهم وتقييدهم ووضعهم في ما يشبه الأكياس على متن قارب متجه إلى العالم الجديد، حيث لم تر الجدة أقاربها ولا أفريقيا مرة أخرى.

وتقول المؤلفة إنه تم تداول روايات عديدة عن الأسر والنقل عبر المحيط الأطلسي بين المستعبدين المولودين في أفريقيا ونظرائهم المولودين في العالم الجديد، وأصبحت بعد ذلك مكونا أساسيا لذاكرتهم الجماعية؛ إذ مثلت القصص محاولة للتوفيق بين "التنافر المعرفي" الذي بدأه الاستعباد الأميركي، وشرحت القصص المسافة الجغرافية "المشؤومة" بين غرب ووسط أفريقيا وبين المستعمرات الجنوبية لأميركا الشمالية الناطقة بالإنجليزية، وشكلت هذه القصص المتداولة بين المستعبدين وأبنائهم نوعا من الأجوبة على الأسئلة الوجودية الأساسية من قبيل، من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟
ومع ذلك، بدلا من تقديم وصف عام للبدايات البشرية في سرد إنساني عام، فإن روايات مثل قصة هانا أرخت أصول الإنسانية المستعبدة المنحدرة من أصول أفريقية في الأميركيتين بشكل خاص، وروت كيف تآمر أصحاب المصلحة حول المحيط الأطلسي وفرضوا مفاهيم عنصرية على وجود المستعبَدين في غرب أفريقيا.
وردا على هذه المفاهيم العنصرية، اجتمع الأفارقة "الأسرى" وأحفادهم المولودون في أميركا معا وخلقوا هوياتهم من جديد، وهكذا ولدت هوياتهم الجديدة من ذكريات أوطان أجدادهم والتبادلات فيما بينهم، وبينما تتذكر جوليا وصول جدتها إلى الشواطئ الأميركية، عاد الأفارقة وأحفادهم لتذكر إنسانيتهم ​​وثقافاتهم السابقة وسط تجارب الاستعباد، وقام النساء بدور خاص في ذلك السياق عبر تداول الروايات والذكريات.
وتروي تجارب تلك النساء التي تم تداولها في ذكرياتهم وقصصهم الشفهية معاناة "تقطيع الأوصال" بين الأمهات وأبنائهن، وتحكي كيف تم اقتلاع الأفارقة من أوطانهم ونقلهم إلى أرض أجنبية حيث جرى تحويل حياة المنحدرين من أصل أفريقي إلى سلعة في تنمية الاقتصادات عبر المحيط الأطلسي.
وتشرح التجارب أيضا قصص اغتراب الجسد وغياب إمكانية التحكم بناتج عمله وإنتاجه، وتتضمن سيلا مؤلما ومستمرا من الاضطراب العائلي والمجتمعي نتيجة ذلك، وتروي تجارب النساء استغلال أرحامهن "كأصل رأسمالي" لإنتاج المزيد من العبيد، وهي التجارب المؤلمة التي امتدت لأجيال متعددة وراكمت آلام عميقة في الذاكرة.




"دين العبيد"
ويركز الكتاب على تجارب النساء اللاتي تحملن "المسؤولية عن التكاثر البيولوجي والاجتماعي للإنسانية المستعبدة"، ويكشف عن الجوانب الأخلاقية والروحية التي شكلت قراراتهن وأفعالهن، وكيف نظرن للجوانب الروحية والوجدانية، وتعاطيهن مع المسائل الدينية.
وكان الإسلام جزءا من النسيج الديني الأميركي مع استيطان الأوروبيين لأميركا الشمالية، فقد جلب المستوطنون معهم مستعبدين من المسلمين الأفارقة الذين شاركوا لاحقا في بناء أميركا، بدءا من رسم حدودها إلى المشاركة في قتال الحكم البريطاني آنذاك.
وحسب، تقرير سابق، فإن الوجود الإسلامي الذي بدأ مع وصول أول المسلمين السود ضمن الحملات الإسبانية في القرن الـ16، أصبح يشكل جزءا أصيلا من تاريخ الأميركيتين رغم العبودية والتمييز والتهميش لقرون طويلة، وهو إرث يؤثر اليوم على عشرات الآلاف من المسلمين في أنحاء المنطقة وحول العالم.
وتستخدم الكاتبة مصطلح "دين العبيد" الذي وضعه الأكاديمي والمؤلف الأميركي ألبرت رابوتو (مواليد 1943)، وتشرح -عبر التركيز على تجارب النساء ومذكراتهن- التغييرات النفسية والمادية التي أحدثتها العبودية، وتخلص لأن النساء الأفريقيات بذلن جهودا كبيرة للاستمرار الثقافي والعائلي لمجتمعاتهن في الأرض الجديدة اللاتي عانين فيها طويلا.

الروائية توني موريسون أسهمت بأعمالها الأدبية في إعطاء دفعة كبيرة لما يطلق عليه "أدب السود" (الصحافة الأميركية)
ويعد الكتاب من الأحدث عن تاريخ العبودية في أميركا، ويعيد التذكير بجدل تصاعد مؤخرا عن تاريخ العبودية في أميركا وكيفية تدريسه في المدارس والجامعات الوطنية في الولايات المتحدة، وقبل عدة شهور أثير جدل كبير حول رواية "محبوبة" (Beloved) للأميركية من أصل أفريقي توني موريسون في خضم حملة انتخاب الحاكم الجديد لفرجينيا في شرق الولايات المتحدة، حيث يتم تدريس الرواية في بعض المدارس.
وتستند هذه الرواية الشهيرة في الأدب الأميركي -التي صدرت سنة 1987 ونالت جائزة "بوليتزر" العريقة- إلى قصة حقيقية لامرأة كانت مستعبَدة سابقا تقرر قتل طفلها لتجنيبه مصير العبودية.