كتاب "التكوين الفني.. الشعر السياسي في مصر" (2022) للباحث أحمد حافظ
في العقد الماضي ارتوت شوارع العالم العربي وحاراته بقصص الأصوات الهادرة، وسقطت أنظمة حكم وقامت غيرها، وأثمر ذلك تغيرا في الوجدان العربي عامة ولدى الأدباء خاصة.
ومع تغير وسائل التواصل بين منتج الأدب وقارئيه، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تطورت أدوات تشكيل الصورة الفنية، وامتد ذلك إلى الشعر السياسي الذي كان عنوانا لباقي الإنتاجات الشعرية وأيضا لأجناس السرد المتعددة.
وصدر حديثا -عن دار إي كتب للنشر البريطانية- كتاب "التكوين الفني.. الشعر السياسي في مصر" لمؤلفه أحمد حافظ، الباحث في الأدب العربي الحديث، متضمنا تأريخا لمرحلة مهمة من تاريخ الأدب المصري المعاصر، إذ رصد الظواهر التي مر بها التكوين الفني للصورة الشعرية، فقد شهدت تلك الحقبة بروز مدارس أدبية واتجاهات فكرية متعددة، أثرت فيها أحداث سياسية مفصلية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى ما يعرف بعام النكسة.
جاء الكتاب في 3 فصول يسبقها تمهيد اختص بأمرين، أولهما تقديم مفهوم محدد وواضح للشعر السياسي، مع الاهتمام بإبراز علاقة الشعر بالسياسة، وتأثير كل منهما في الآخر، وثانيهما الوقوف على أهم المواضيع التي عالجها الشعراء في قصائدهم، مثل الحث على الثورة، وموقف الشعراء من الخلافة الإسلامية، ووصف الواقع السياسي، والمديح والرثاء.. إلخ.
الشاعر ومجتمعه
يقول المؤلف إن "الشاعر ابن مجتمعه الذي نشأ فيه، وتكونت فيه روحه الشفافة الحساسة تجاه أدق الأمور وتفاصيلها، ومن ثم يتكون لديه انفعال تجاه القضايا المحيطة به أكثر من غيره من أبناء هذا المجتمع، ولذلك تكون استجابة الشعراء لقضايا أمتهم وأوطانهم متأثرة بالأحداث السياسية المختلفة. هذه الأحداث هي التي تشكل التجارب الشعرية لدى هؤلاء الشعراء، وتمثل الدافع الفني الذي تقوم عليه الصور الفنية في بناء القصائد واختيار المعجم الشعري وحتى القالب الفني الذي يصبّون فيه هذه التجربة الإبداعية".
ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن الشعراء في مصر في القرن الـ20 كانوا مثالا واضحا لهذه العلاقة بين الشعر والأحداث السياسية التي مرت بها مصر في تلك الفترة، سواء تعلق الأمر بالثورات التي عصفت بالحياة السياسية، أو الحروب العديدة التي خاضتها مصر، أو قضايا الأمة العربية والإسلامية، وكذلك قضايا المجتمع المختلفة، "وكان الشاعر دوما في قلب هذه الأحداث، حاملا همّ أمته، مدافعا عنها، ومشاركا في أحداثها أحيانا".
ويتابع "سنجد أثر ذلك واضحا في الثراء الفني الذي تميز به الشعر السياسي في مصر، فعندما يشتد طغيان السلطة، ويزداد التضييق على المبدعين من أبناء الأمة، وحين تشعر هذه الأمة بأنها تنسلخ عن ماضيها، وتفقد هويتها، حينها يلجأ الشعراء إلى وسائل وأدوات للتعبير عن ذواتهم وذوات الآخرين، وتكون هذه الأدوات فنية موحية، تعبر عن مشاعرهم وآلامهم، وتتعدى إلى التأثير في الأدوات الفنية التي اختارها الشاعر، سواء كان في بناء الصور، أو الخيال، أو اختيار القالب الفني للتجربة، أو الشكل الموسيقي الذي آثره الشاعر، أو غيرها من الأدوات الفنية".
ويوضح الباحث أن الشاعر في تناوله الأحداث السياسية كان يتحرك في مسارين، يكمّل أحدهما الآخر، أولهما يتمثل في ترجمة الأحداث المختلفة في صورة تجارب شعرية، تزداد قيمتها الفنية كلما كان الخطب شديدا على أبناء المجتمع، وهذا كان واضحا في أحداث ثورة 1919 وعقب نكسة 1967 والعدوان الثلاثي على مصر.
أما المسار الثاني، بحسب المؤلف، فتشكّل من وعي الشعراء أنفسهم بالدور المنوط بهم، فقاموا باستنهاض المجتمع وتوعيته بما يحيط به من أحداث، ومحاولة لملمة الجراح النازفة بعد خيبات كثيرة عصفت بالبلاد في سبيل التحرر من الاستعمار ومقاومته أو مواجهة ألوان الظلم والاستبداد، وهي أمور كانت بمثابة روافد غنية شكلت التجارب الفنية والصور الإبداعية لهؤلاء الشعراء.
الروافد التراثية
ومن أجل تفصيل تلك الروافد، اهتم الفصل الأول من الكتاب بدراسة الروافد التراثية التي استدعاها الشعراء في شعرهم السياسي، وركز الباحث على 4 روافد وهي: الدين، والتاريخ، والموروث الشعري، والأدب الشعبي.
ومن خلال دراسة هذه الروافد الأربعة، اتضح أن للتراث تأثيرا كبيرا على كل من الشعر والشعراء عبر مستويين، أولهما أن خصوصية الشعر السياسي جعلت الشعراء يلجؤون إلى تراث محدد، وفترات زمنية بعينها، وإلى شخصيات أقل ما تتصف به أنها مشعة وموحية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى حاجة الشعراء إلى نماذج تعينهم على خلق واقع جديد، يتشكّل من خلال إعادة إحياء هذه النماذج التراثية حسب الرؤية الفنية للشعراء.
وثانيهما أن التراث مكّن الشعراء من توليد تعابير خاصة وإيحاءات دلالية جديدة، واستطاعوا أن يجعلوها أدوات فنية تبرز تجاربهم الشعرية الخاصة.. وهذا ما اهتم به الفصلان التاليان.
في الفصل الثاني احتفت الدراسة بالصورة الشعرية في 3 مباحث، إذ تناول المبحث الأول أهم المصادر التي أسهمت في تشكيل الصورة الشعرية، وكانت الطبيعة -بجميع عناصرها- على رأس تلك المصادر، ورصد الباحث كيفية تفاعل الشاعر مع الطبيعة، ووصول هذا التفاعل إلى حد الاتحاد أحيانا. ويأتي بعد الطبيعة كل من التاريخ والدين.
وفي المبحث الثاني، وقف الكاتب على أهم الوسائل التي استعان بها الشعراء لتشكيل صورهم، وبيّن أنهم جمعوا إلى جوار الوسائل التقليدية، مثل التشبيه والتشخيص والتجريد، وسائل جديدة لم يكتب لها الشيوع والانتشار في القصيدة العربية القديمة، مثل السرد والحوار والمونتاج، وتراسل الحواس.
ويقول المؤلف إنه حاول الاهتمام بهذه الوسائل أكثر من غيرها من الوسائل التقليدية لأهميتها في رصد التطور الفني في بناء الصورة الشعرية في العصر الحديث، وإبراز مدى تمكّن الشعراء من استخدام هذه الوسائل في نسج تجاربهم الفنية في قصائد الشعر السياسي خاصة.
الشعر السياسي
وقدم المبحث الثالث تصورا لأهم الخصائص التي تميزت بها الصورة في الشعر السياسي خلال فترة الدراسة، منها الاعتماد على الصور المركبة، وتكثيف الصور، والاعتماد على ألفاظ حقيقية خالية من أي استخدام مجازي.. إلخ.
أما الفصل الثالث فاهتم بدراسة أبرز المقومات التي تشكل البناء الموسيقي للقصيدة السياسية، وجاء في 3 مباحث، تناول أولها الأوزان الشعرية التي استخدمها الشعراء، مع رصد ملامح التطور التي طرأت على استخدام الشعراء لتك الأوزان مقارنة بما كانت عليه القصيدة العربية قديما، وكذلك الإشارة إلى قضية ارتباط الغرض بالوزن، واتضح أن الوزن الشعري مثل الآلة الموسيقية يستطيع الشاعر الماهر أن يعزف عليه جميع الألحان.
وفي المبحث الثاني تم تسليط منظار التنقيب على أهم الخصائص التي تميز القافية في الشعر السياسي، وأهمها: استعمال حروف روي لم تكن مستخدمة من قبل بكثرة، وحاول الباحث ربط هذه الخصائص بما كانت عليه القافية في الشعر العربي القديم، وهو ما أثار قضية ارتباط كلمات القافية بعاطفة الشاعر من ناحية، وبغرض القصيدة من ناحية أخرى، واتضح أن ثمة وشائج تربط بين العاطفة والقوافي وتبرز براعة الشاعر في اختيار الكلمات المعبرة عما يمور في صدره.
وفي المبحث الأخير تحدث عن التكرار بوصفه معطى من المعطيات الفنية القادرة على رسم ملامح الرؤية الشعرية الخاصة بكل شاعر، وفصّل صور وأشكال هذه الظاهرة التي تنوعت بين تكرار لحرف أو كلمة أو عبارة أو حتى مقطع بأكمله.
وقد اعتمد الباحث في هذه الدراسة الفنية على الأسلوبية الإحصائية حينا، والأسلوبية اللغوية حينا آخر، استجابة لمقتضيات المادة الشعرية وطبيعتها، كما استعان بالمنهج التاريخي في بعض الأحيان.
ولعل توظيف مقتضيات هذا المنهج، بحسب المؤلف، كان ضرورة من أجل التغلب على عدد من الصعوبات التي يمكن إجمالها في أمرين على الأقل هما: كثرة الأحداث السياسية خلال الفترة الزمنية للدراسة، وتفاعل الشعراء مع هذه الأحداث، فوجد الباحث نفسه أمام كمّ هائل من أسماء الشعراء والقصائص، التي تعبر عن الشعر السياسي أصدق تعبير لكنها تمثل عائقا أمام الاختيار في الوقت نفسه.