ساحة وكاتدرائية القديس مرقس وسط مدينة البندقية البحرية الإيطالية (غيتي)
توصف مدينة البندقية الإيطالية المبنية على الماء بكونها واحدة من أجمل مدن العالم، وتعد قنواتها المائية الفريدة وبيوتها التاريخية وجسورها التي تربط جزرها المتصلة على البحر الأدرياتيكي (بحر البنادقة) قبلة للسياح في العصر الحديث، بعد أن شكلت لأكثر من ألف عام عاصمة "جمهورية فينيسيا".
ورغم تاريخها وجغرافيتها الغربيين، لطالما شكلت البندقية جسرا بين الشرق والغرب، ونقلت جوا شرقيًّا مميزا إلى زواها بأروقتها الضيقة ومتاهاتها الملتوية والمسدودة في كثير من الأحيان، وزواياها كثيفة البناء والحدائق المخبأة خلف الجدران المرتفعة التي تنضح بروائح التوابل، فضلا عن الأسواق المزدحمة والصاخبة التي تبدو وكأنها من حكايات الليالي العربية في بغداد القديمة أو دمشق أو القاهرة.
ولطالما جذب معمار البندقية الفريد الباحثين في العمارة والتاريخ، وبينهم الأكاديمية البريطانية والمؤرخة الفنية ديبورا جانيت هوارد (ولدت 1946) التي كرست أعمالها لدراسة الفن والهندسة المعمارية لمدينة البندقية، بما في ذلك العلاقة بين إيطاليا وشرق البحر الأبيض المتوسط، ​​وكذلك الموسيقى والعمارة في عصر النهضة.
وترى جانيت هوارد، أستاذة التاريخ المعماري في كلية العمارة وتاريخ الفن بجامعة كامبريدج، أن هناك تأثيرا إسلاميا كبيرا على عمارة البندقية وتخطيطها الحضري، ويمكن ملاحظته في القباب والأقواس المدببة والفسيفساء المذهبة مثل تلك التي تميز كاتدرائية القديس مرقس، ومتاهة الشوارع المتعرجة.
سافر تجار البندقية ورحالتها شرقا، وتأثروا بالمدن العربية لا سيما الإسكندرية وحلب وعكا ودمشق، ونقلوا بعد عودتهم إلى البندقية خبرات الطرق وانطباعات العمارة التي شاهدوها ورسموها ودوّنوها في مذكراتهم بدقة بالغة، واقتبسوا عناصر شرقية أصيلة في التصميم التقليدي لمباني البندقية، وبشكل خاص القصور ومنازل الأغنياء التي اقتبست أيضا تأثيرا معماريا قوطيا شماليا، ورومانسكيا إيطاليا مستلهما من العصور الوسطى، وبيزنطيا قديما.

البندقية شمالي شرقي إيطاليا وعاصمة منطقة فينيتو، تقع في مجموعة من 118 جزيرة صغيرة تفصل بينها قنوات (غيتي)
البندقية بين عالمين
وبخلاف التجار، هناك الحجاج المسيحيون الأوروبيون، إذ كانت البندقية نقطة انطلاق لرحلات الحج إلى بلاد الشام، وكذلك الدبلوماسيون والقناصل، والمثقفون والوسطاء، وتقول المؤرخة إن المواجهة بين ثقافات الشرق والغرب شكلت ملامح مدينة البندقية.
فعلى الرغم من موقفها المتشكك تقليديا من السلطة البابوية، فإن البندقية كانت أيضا فخورة بدورها مدافعة عن الإيمان المسيحي، لكنها كانت منفتحة على التأثيرات الشرقية والغربية الإسلامية، بما في ذلك تأثرها بسمات ومعمار إشبيلية وغرناطة الأندلسيتين وباليرمو الصقلية.




وترى المؤرخة البريطانية أن العمارة الإسلامية التي تأثرت بها البندقية، كانت بدورها مشبعة بالتأثيرات الفنية البيزنطية، فالإرث اليوناني الروماني منح عالم شرق البحر الأبيض المتوسط ​​بأكمله الزخارف المميزة وأنواع المباني، لكن عملها البحثي الطويل لا سيما كتابها "البندقية والشرق.. تأثير العالم الإسلامي على العمارة الفينيسية 1100-1500" الصادر عن مطبعة جامعة ييل (2000)، يحاول عزل وتحديد العناصر الإسلامية عن التأثيرات المتنوعة لعمارة البندقية عبر تتبع مذكرات المسافرين والمباني والوثائق والمخطوطات.
وتقول المؤرخة إن أول مؤلف "يعترف بديون البندقية للإسلام" كان الناقد الفني الإنجليزي جون روسكين (1819-1900) في كتابه "حجارة البندقية"، الذي نُشر في منتصف القرن الـ19، وعلى الرغم من أن روسكين معروف الآن عمومًا بأنه الكاتب الذي أعاد فتح عيون الأوروبيين على جمال البندقية القوطية، فإن اهتمامه بما أسماها "المساهمة العربية" نال تجاهلا كبيرا.

واعتبر روسكين أن "كل العمارة الأوروبية، السيئة والجيدة، القديمة والجديدة، مقتبسة من اليونان عبر روما، وملونة ومتكاملة من الشرق". وتحدث عن التأثير "العربي" على العمارة الفينيسية قائلا إن الأسلوب البيزنطي الروماني تلاه "نمط انتقالي ذو طابع عربي أكثر تميزا، إذ تصبح الأعمدة أكثر رشاقة، والأقواس مدببة بشكل أكثر ثباتا".
وتقول المؤرخة إن وجهة النظر المسيحية لم تعمه عن الصفات الإيجابية للعمارة الشرقية، بل على العكس من ذلك، فقد أعجب بالإخلاص الروحي للتقليد الإسلامي، لا سيما في اختيار الألوان وعمق واتساع الخيال.
البندقية والشرق
وتشرح المؤرخة طبيعة الروابط الشرقية لمدينة البندقية، والتي شملت التجارة على نطاق واسع مع العالم الإسلامي منذ أوائل القرن الـ19، وتشير إلى أن تهريب اثنين من التجار البنادقة بقايا رفات القديس مار مرقس خارج الإسكندرية قرابة 828م أو 829م، يوضح أن وجودهم في الميناء المصري كان حدثًا روتينيا إلى حد ما، حيث كان يتم شحن الصوف والخشب والمعادن والأسلحة من شمال أوروبا بواسطة تجار البندقية مقابل التوابل والحرير والقطن والفراء الروسي.
ومن الواضح أن الحروب الصليبية كانت فترة حاسمة في العلاقات بين الشرق والغرب، وعلى الرغم من أن البندقية كانت نقطة انطلاق رئيسية، فإن مشاركة الجمهورية كانت مترددة ولم تتحقق إلا مقابل امتيازات تجارية استثنائية في مملكة القدس الصليبية.
وبعد الحملة الصليبية الرابعة، بداية القرن الـ13 الميلادي، حوّلت البندقية وجهتها للاستيلاء على القسطنطينية البيزنطية التي احتلها البنادقة لأكثر من نصف قرن، وأصبحت الإمبراطورية البيزنطية آنذاك مستعمرة لمدينة البندقية وقاعدة مهمة للتجارة الشرقية.




وخلال هذه الفترة، وقع البنادقة 5 معاهدات تجارية مع المماليك المصريين، وحافظوا على مراكز تجارية مزدهرة في كل من القاهرة والإسكندرية، وفي القرن الـ13 أيضا فتح توحيد الإمبراطورية المغولية طريق الحرير أمام التجار الغربيين.
ورغم أن التاجر والرحالة ماركو بولو (1254-1324) ظل أشهر مسافر فينيسي وصل إلى الصين، فإن دليل تاجر إيطالي أفاد بأن الطريق كان "آمنا تمامًا في النهار أو الليل"، وكان من الممكن حتى للنساء الغربيات السفر إلى الصين عبر العالم الإسلامي، وإضافة لذلك أكدت البندقية -بحسب المؤرخة- على حق الجمهورية في التجارة مع "الكفار"، وقاومت الضغط البابوي القوي لفرض ما نسميه الآن "عقوبات اقتصادية".
سان ماركو
ربما تكون كنيسة سان ماركو العظيمة في البندقية أبرز المباني التي تحمل تأثيرات شرقية بفسيفسائها ورخامها المتلألئ وأفقها الغريب، إذ كانت روابط القديس مرقس نفسه مع الإسكندرية (المولود في برقة الليبية عام 12م والمدفون بالإسكندرية) تبرر محاولة محاكاة النماذج الإسلامية في الكنيسة المسيحية، كما يقول مؤرخ الفن والعمارة النمساوي أوتو ديموس (توفي 1990).

سيراميك محراب فارسي من القرن الـ13 م (يمين) ومدخل تيسورو سان ماركو (جانيت هوارد في كتابها "البندقية والشرق")
وجرى توسيع وإعادة تشكيل سان ماركو عدة مرات في القرون الأربعة التي تلت تأسيسها في القرن التاسع، ويمكن العثور على العناصر والتأثيرات الإسلامية الأكثر وضوحا في نهاية هذه الفترة، على سبيل المثال، أشار ديموس إلى أوجه التشابه بين شبكات النوافذ الحجرية والنوافذ المماثلة في الجامع الأموي في دمشق.

نافذة للجامع الأموي بدمشق (يمين) ونافذة بورتال دي سانت أليبيو بسان ماركو يسار (جانيت هوارد بكتابها "البندقية والشرق")
وأشار ديموس أيضًا إلى التشابه بين لوحات سان ماركو، مثل نقش الطاووس على الواجهة الغربية، والمنحوتات الخشبية المصرية في الفترة الفاطمية، والأهم من ذلك هو التأثير المباشر على القباب الخارجية البارزة لسان ماركو، التي هيمنت على الميدان منذ إضافتها في القرن الـ13.
وإذ تبدو فكرة القبة المزدوجة ذات أصول فارسية، كانت القبة المنتفخة الكبيرة بالتأكيد عنصرًا مؤثرًا في مشهد المدينة المصرية بحلول القرن الـ13، كما هي الحال في مسجد ابن طولون، حيث كانت القباب الفاطمية والمملوكية المنتفخة تقام دائمًا فوق قبور مهمة، بحسب المؤرخة التي تلفت النظر لوجود ما لا يقل عن 21 قطعة إسلامية في خزانة سان ماركو بالبندقية.

قبة جامع ابن طولون القديمة بالقاهرة (يمين) مقطع تخطيطي لقباب ساكن ماركو (مقارنة جانيت هوارد في كتابها "البندقية والشرق")
كنيسة سانتا فوسكا بجزيرة تورسيلو
يمكن العثور على مثال مثير للاهتمام للتأثير الإسلامي على العمارة الدينية لمدينة البندقية في كنيسة سانتا فوسكا الصغيرة في جزيرة تورسيلو، ومثل سان ماركو، تم بناء الكنيسة لإيواء رفات قديس تم إحضاره من شرق البحر الأبيض المتوسط، إذ تم جلب جثة القديسة فوسكا مع ممرضتها سانتا مورا من صبراتة بالقرب من طرابلس في القرن العاشر.

جانب من كنيسة سانتا فوسكا (يسار) يشبه جانبا من العمارة السلجوقية من القرن الـ12 في أرضروم بتركيا (هوارد في كتابها "البندقية والشرق")
والمثير للدهشة هو وجود زخارف إسلامية على السطح الخارجي ذات أسنان مثلثة وقوالب مسننة تشبه بشكل ملحوظ زخرفة أبراج القبور السلجوقية مثل ضريح أواخر القرن الـ12 في أرضروم في تركيا.
وعلى الرغم من أنه يمكن للباحث أن يقترح أصلًا رومانيا مشتركًا، فإن الرحلات المتكررة لأبناء البندقية إلى المجالات السلجوقية في هذه الفترة لا تمنع التأثير المباشر.
ومرة أخرى، كما في حالة سان ماركو، فإن هذا يعني فهمًا لمدينة البندقية للسمات الجنائزية لهذه الأبراج وملاءمتها لضريح سانتا فوسكا.

مبنى كنيسة سانتا فوسكا (يسار) يشبه مبنى قبة الصخرة المثمن الذي بُني بنهاية القرن السابع الميلادي (هوارد في كتابها "البندقية والشرق")
وفي المشاهد الخارجية، التي من المفترض أن تكون إضافة لاحقة، لم يُلاحظ كثيرون حتى الآن -بحسب الباحثة- أن الطراز ثماني الأضلاع ذا الأقواس المتينة المحيطة بغرفة داخلية مقببة يمكن على الفور التعرف عليه بالإشارة إلى قبة الصخرة في القدس.
وكان مسجد قبة الصخرة تحت سيطرة فرسان الهيكل، وتتزامن فترة احتلالهم مع الوقت الذي يُفترض أنه أضيف فيه إلى سانتا فوسكا.
وتتعرض المؤرخة أيضا لتأثيرات العمارة الإسلامية في قصر دوجي المتأثر بالعمارة المملوكية لا سيما الأقواس المدببة، وشرفات المباني الفينيسية التي تشبه المشربيات الشامية القديمة، والنوافذ الخارجية التي تشبه محاريب الصلاة المشرقية.




وتشير الباحثة إلى أن التأثيرات الإسلامية لا تقتصر على العمارة التجريدية التي تغيب عنها التصاوير والرسومات البشرية، وإنما تمتد كذلك للملابس والأزياء الشرقية والآداب والفنون.