هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، كنيته أبو المطرف و لقبه صقر قريش، ولد سنة 113 هــ، ومات أبوه باكراً فكلفه جده و أجرى عليه و على أخوته الأرزاق.
وبعد المذبحة التى أوقعها العباسيون بالأمويين أستخفى عبد الرحمن عن عيون العباسيين فى قرية صغيرة على نهر الفرات، ثم كلف شخصاً من معارفه أن يبتاع له دابة. غير أن عيون العباسيين لحقته فطاردته خيولهم، فلم يجد، هو و أخوه، ملجأ إلا النزول إلى الفرات و عبوره سابحاً. ولم يقو أخوه على العبور، فتلقفته جند العباسيين و ضربوا عنقه على مشهد من عبد الرحمن، الأمر الذى جعله يهم على وجهه هارباً يروم المغرب. وخرج عبد الرحمن من العراق متخفياً من موضع إلى موضع وهمه الوصول إلى أخواله من بنى نغزه فى ضواحى مدينة سبته، فإن أمهم كانت فى سبيهم. ثم أرسل مولاه بدراً إلى جماعة من موالى المروانيين فى الأندلس لبث دعوته. وقد ساعد البربر على دخول الأندلس، فأنضم إليه الأمويون و عظم أمره و اقبل الناس من كل مكان غليه و نفروا من " الصميل " و مكره، وكان الصميل أحد زعماء الأندلس، إلى جانب يوسف الفهرى والى رطبة.
ولما ضم اليمنيون إلى عبد الرحمن حاول الفهرى مراوغته بنصيحة الصميل فلم يفلح، وخرج عبد الرحمن إلى قرطبة فدخلها بعد معركة قوية، وهرب الفهرى و قائده الصميل. ولما قبض عبد الرحمن عليهما عفا عن الفهرى و سجن الصميل، وقد قام الفهرى بثورة فخذله أتباعه و قتلوه، أما الصميل فقد خنق فى سجنه.
لم يهدأ أبو جعفر المنصور بالاً من ناحية عبد الرحمن الداخل وعمل على القاء عليه. ففى سنة 146 هـ سار " العلاء بن مغيث اليحصبى " من أفريقيا إلى إحدى مدن الأندلس فأجتمع إليه خلق كثير. فخرج إليه عبد الرحمن الداخل، فالتقيا بنواحى أشبيلية، و أنهزم العلاء و أصحابه وقتل. و بعد تلك الهزيمة عمد المنصور إلى مصانعة عبد الرحمن، فأوفد إليه الرسل، وكثيراً ما كان يظهر إعجابه به.
يذكر المؤرخون أن أبا جعفر المنصور قال يوماً لأصحابه : أخبرونى عن صقر قريش من هو ؟؟؟ قالوا : أمير المؤمنين الذى راضى الملك، و سكن الزلازل، وحسم الأدواء، و أباد الأعداء. قال : ما صنعتم شيئاً. قالوا : فمعاوية. قال : ولا هذا. قالوا : فمن يا أمير المؤمنين ؟؟؟ قال : عبد الرحمن بن معاوية الذى عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلداً أعجمياً مفرداً، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكاً بعد أنقطاعه، بحسن تدبيره و شدة شكيمته.
دخل عبد الرحمن الأندلس وهو أبن خمس و عشرين فأسس دولة أموية جديدة مستقلة عن سلطان العباسيين و أستمر فى الحكم ثلاثاً و ثلاثين سنة. وكان عبد الرحمن طويل القامة أسمر اللون، فيه عور و بوجهه خال، ويرتدى غالباً الثياب البيضاء. وقد أجمع المؤرخون على إنه كان فصيحاً بليغاً و شاعراً مجيداً. وكان لطيفاً حازماً مستعداً لملاحقة الخارجين عن طاعته، ولم تسمح له الظروف بالإنصراف إلى الراحة طويلاً. وكان عبد الرحمن يدير الأعمال بنفسه ولا يثق إلا برأيه، وخلال فترة قصيرة أمتدت سلطته فشملت بلاد الأندلس كلها. ولكن تلك السلطة معرضة لخطر الزوال، بسبب الدسائس و المؤامرات و الفتن، فكان عليه ان السلاح طوال حياته لصون العرش من الفرق و الأحزاب التى ألتقت أعلامها ضده رغم أختلاف ألوانها. كان عليه أن يحذر أصدقائه و حتى أهله و سائر بنى أمية الذين قدموا من الشرق للإفادة من سلطته، فراحوا يتآمرون عليه. أضطر إلى نفى أخيه الوليد إلى أفريقيا ليرتاح من مكايده، فحل أبن اخيه مكان أبيه فى حوك المؤامرات، فأعدمه.
وهكذا أنقلب الحاكم الجديد فى نظر الناس من عادل إلى ظالم، والذى كان صاحب شعبه كبيرة لم يعد يجرؤ على أجتياز الطرقات وحيداً فى قرطبة عاصمة ملكه. وقد دفعه شكه فى إخلاص أتباعه إلى أستقدام عدد من برابرة المغرب و جعلهم حراساً له، فكان عدد من المحاربين تحت قيادته المباشرة أربعين ألفاً. وقد سار بعض خلفائه على خطاه فأضطروا من أجل الحفاظ على حكمهم أن يحولوا الخلافة إلى نوع من الحكم العسكرى الأستبدادى.
بالرغم مما أوردنا بصعب علينا الحكم على أخلاقية أعماله التى فرضتها عليه الظروف القاسية تزكيها تصرفات و مواقف أصدقائه و أعدائه على حد سواء. فهو لم يكن يدافع عن نفسه فحسب، بل حمل عاتقه مسئولية الحفاظ على كيان مملكة رفع مداميكها بيده. كل هذا جعله يلجأ إلى سلاح الخصوم. فبدا مرواغاً غداراً أحياناً و قاسياً فى مناسبات كثيرة، حتى ليقال بأنه كان ينفذ بيده بعض أحكام الأعداء.
كان عبد الرحمن ذا ثقة قوية بالنفس، قلما نجدها عند غيره من العظماء، وقد داعبه حلم إنشاء إمبراطورية ثابتة هادئة فى الغرب. لكن الحروب المستمرة و الأنتفاات الكثيرة التى جابته حالت دون بروزه مجدداً و منشئاً، فأكتفى بصفة الرجل المؤسس.
أما الذين ثاروا بوجه عبد الرحمن و قضى عليهم فكثيرونن تذكر منهم يوسف الفهرى و قائده الصميل، وعبد الغافر اليمانى الذى عصى بأشبيلية، وهشام بن عروة فى طليطلة، و الحسين بن عبادة الأنصارى بسرقسطة، وسواهم.
و الجدير بالذكر أن عبد الرحمن بنى على سفح جبل قريب من قرطبة قصراً أطلق عليه أسم " الرصافة " تيمناً برصافة جده هشام. كما بدأ بتشييد مسجد قرطبة الجديد، ولكنه لم ينجز إلا قسماً من المسجد الجامع. وقد توفى عبد الرحمن الداخل أو صقر قريش فى سنة 172 هــ ( 788 م ).