توصف هذه المهمة بكونها في طور إحداث ثورة حقيقية في معرفتنا للشمس بالنظر إلى حجم الاكتشافات التي قامت بها إلى حد الآن، والظواهر الشمسية غير المعروفة التي تسعى لفك لغزها.
مسبار باركر أول مسبار يلامس الشمس يقود ثورة علمية حول نجمنا (ناسا)
حصلت مؤخرا مهمة "باركر سولار بروب" (Parker Solar Probe) التابعة لناسا على جائزة الأكاديمية الدولية للملاحة الفضائية (IAA) تقديرا لجهود الفريق المشرف على إنشاء وتشغيل أول مسبار "يلامس الشمس".
ويرى المختصون أن هذه المهمة تتجه لإحداث ثورة حقيقية في معرفتنا للشمس، بالنظر إلى حجم الاكتشافات التي قامت بها إلى حد الآن، والظواهر الشمسية غير المعروفة التي تسعى لفك لغزها. فما الذي تحقق من هذه الاكتشافات إلى حد الآن؟
مهمة استثنائية
مع حلول 12 أغسطس/آب الجاري تكون قد مرت على إطلاق مهمة "باركر سولار بروب" 4 سنوات حافلة بالإنجازات والاكتشافات والجوائز أيضا، كان آخرها جائزة (Laurels for Team Achievement) التي تقدمها الأكاديمية الدولية للملاحة الفضائية، والتي تسلمها الدكتور نور الدين الروافي، المسؤول العلمي للمهمة بحسب بيان رسمي نشر على موقع وكالة ناسا في 28 يوليو/تموز الماضي.
وفي حوار خاص مع الجزيرة نت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يقول الدكتور الروافي، أستاذ الفيزياء الفلكية في مختبر جونز هوبكنز للفيزياء التطبيقية (Johns Hopkins Applied Physics Laboratory) في لوريل بولاية ماريلاند، إن أهمية الاكتشافات والإنجازات التي حققها فريق باركر سولار بروب جعلت العديد من المنظمات العالمية تمنح جوائز عالمية للمهمة، ومنها هذه الجائزة المرموقة، مضيفا أن "نتائج عمل المسبار نشرت في أكثر من 600 بحث علمي إلى حد الآن.
وعلى خلاف المهمات السابقة التي خصصت لدراسة الشمس، يعد المسبار باركر أول مسبار يقترب منها لدراستها عن كثب. لذلك علقت عليه الآمال العريضة لكشف العديد من الألغاز التي ظلت دون تفسير منذ عقود طويلة.
الدكتور نور الدين الروافي المسؤول العلمي لمهمة باركر سولار بروب (ناسا)
وتعد المهمة استثنائية من عدة جوانب، فإرسال مسبار ليدور قريبا من الشمس والتحكم فيه يمثل تحديا تقنيا كبيرا. "ولم يكن ذلك ممكنا لولا الاستفادة من جملة من التكنولوجيات المتطورة التي مكنت من حماية المسبار أثناء اقترابه من الشمس وتسييره على الطريقة الأمثل" بحسب الروافي.
وشملت هذه التقنيات المتقدمة نظام حماية حراريا متينا وخفيف الوزن، وألواحا شمسية مبردة بالماء، ونظام تحكم ذاتيا قويا، إضافة إلى تجهيزات عالية الدقة.
رغم قربها منا ما زالت العديد من الظواهر الشمسية غامضة وغير مفهومة إلى حد اليوم. ويسعى مسبار باركر إلى دراسة 3 من أهم هذه الظواهر، أولاها، البحث عن أسباب ارتفاع درجة الحرارة من 6 آلاف درجة على سطح الشمس إلى حوالي مليون درجة على ارتفاع 3 آلاف كيلومتر فقط داخل الهالة الشمسية الواقعة خارج الشمس.
وتتمثل المهمة الثانية في دراسة أسباب تسارع الرياح الشمسية. "فهذه الرياح المتكونة من بروتونات ونيوترونات وأيونات بعض العناصر الخفيفة، تزيد سرعتها بشكل فجائي لتصل إلى ملايين الكيلومترات رغم أنها لا تتجاوز 10 كيلومترات عند نشأتها ولا نعلم من أين تكتسب الجسيمات الطاقة لتزيد من سرعتها بهذا الشكل المذهل"، كما يقول الدكتور الروافي.
التعرجات في الرياح الشمسية توجد في كل مكان حول الشمس بحسب بيانات مسبار باركر (ناسا)
أما المهمة الثالثة التي يعمل باركر على دراستها فهي كيفية إطلاق المتوهجات أو الانفجارات الشمسية التي تحدث على سطح الشمس جسيمات عالية الطاقة بسرعة الضوء وتشكل خطرا على الاتصالات.
"اكتشافات كبرى"
أكمل المسبار إلى حد الآن 12 دورة من جملة 24 دورة مخططا لها بشكل يجعله يقترب تدريجيا من الشمس، ليبلغ أقرب نقطة منها على بعد حوالي 6.1 ملايين كيلومتر فقط من السطح في عام 2024. وقد حققت المهمة بالفعل إنجازات كبيرة نحو تحقيق أهدافها العلمية الرئيسية لدراسة الرياح الشمسية وبيئة الجسيمات النشطة حول الشمس.
وتوصل العلماء إلى عدة اكتشافات هامة بفضل البيانات التي أرسلها المسبار، كان من أهمها الاكتشاف التاريخي حول انتشار التعرجات في الرياح الشمسية التي تتميز بطاقة عالية جدا وتختفي عند الابتعاد عن الشمس، لكنها ليست نادرة كما كان يعتقد سابقا.
وكان العلماء قد اكتشفوا، قبل عقود قليلة وجود بعض الانعطافات الغريبة في خطوط المجال المغناطيسي للرياح الشمسية على شكل حرف "S". واعتقدوا حينها أن هذه التعرجات عرضية ويقتصر وجودها على المناطق القطبية للشمس، "لكن مسبار باركر سولار بروب اكتشف أنها ليست نادرة في الحقيقة، بل هي شائعة في الرياح الشمسية، وحدد مكان نشأتها بالقرب من سطح الشمس" كما يقول الروافي.
ما زال أمام مسبار باركر الشمسي أكثر من 3 سنوات من العمل لفك ألغاز بعض الظواهر الشمسية (غيتي إيميجز)
كما تمكن المسبار من اكتشاف "المناطق الخالية من الغبار الشمسي" (Dust free zone) حول الشمس، وهي مناطق معروفة نظريا منذ عام 1929، وتتشكل أثناء اقتراب جسيمات صغيرة من الشمس نتيجة تأثير جاذبيتها القوية، لكنها تتعرض في المقابل إلى مقاومة الإشعاع الصادر من الشمس، الذي يعمل على صدها وإبقائها بعيدا.
وقد عجزت وسائل الرصد عن بعد التي استخدمت طوال العقود الماضية عن اكتشاف هذه المناطق، لكن مسبار باركر تمكن منذ أول دورة قام بها حول الشمس من التقاط إشارات واضحة لوجود هذه المناطق، وفق الدكتور نور الدين الروافي.
يعيش مسبار باركر حاليا أوج عطائه، ويمكن متابعة موقعه حول الشمس عبر هذا الرابط، وما زال أمامه أكثر من 3 سنوات من العمل لفك ألغاز بعض الظواهر الشمسية التي ظلت دون حل منذ أكثر من قرن، "وهو ما سيمهد إلى اكتشافات كبرى في المستقبل" بحسب المسؤول العلمي للمهمة، ربما نسمع عن أحد هذه الاكتشافات حول الرياح الشمسية في المستقبل القريب.