مصانع الفضاء أصبحت ضرورة لتلبية متطلبات خطط الإنسان لإنشاء مستعمرات فضائية (شترستوك)
ربما تبدو عبارة "مصانع الفضاء" ضربا من الخيال العلمي الجامح الذي يظن البعض أنه لن يتحقق في المستقبل المنظور على الأقل. ولكن يجدر بنا أن نتذكر أن إنزال مركبات فضائية على المريخ وإطلاق مراصد فضائية فائقة الدقة والوضوح مثل "هابل" (Hubble) و"ويب" في مدارات بعيدة حول الأرض، كان حتى عقود قريبة إسرافا في الخيال وطموحا بعيد المنال.
السنوات المقبلة زاخرة بالعديد من المشاريع الفضائية الكبرى المرتقبة مثل رحلة عودة الإنسان إلى سطح القمر التي يجري الإعداد لها من الآن، وهناك خطط لإنشاء محطات فضائية دائمة على سطحه، فضلا عن السعي الحثيث لتقديم رحلات سياحية فضائية، وبناء مستعمرات على المريخ يحلم بها الملياردير الشهير إيلون ماسك.



ما يقرب من 400 شركة ومؤسسة ناشئة تعتزم تقديم منتجات أو خدمات تدور في فلك اقتصاد الفضاء (شركة إيرباص)


مصانع الفضاء ضرورة

كل ذلك يقتضي بالضرورة وجود محطات صيانة وإصلاح وتزويد بالوقود في الفضاء، بدلا من إرسال صواريخ بالمعدات والأجهزة المطلوبة في رحلات باهظة ومحفوفة بالمخاطر حتى وإن كانت تكلفتها قد بدأت في التناقص بعد ابتكار الصواريخ متعددة الاستخدامات.
وحسبما ذكر الباحث إيريك كولو، المتخصص في مستوطنات الفضاء ومصانع الفضاء ومسؤول موقع مصانع الفضاء، في ورقته البحثية المقدمة للمؤتمر الدولي الـ72 للملاحة الفضائية الذي أقيم في دبي بدولة الإمارات العربية في أكتوبر/تشرين الأول 2021، بعنوان "اقتصاد الفضاء في 2021.. نظرة إحصائية وتصنيف الكيانات التجارية"، تتضمن مجالات التصنيع الوليدة في الفضاء صيانة الأقمار الصناعية، ومركبات الشحن بين الأرض والمدارات الفضائية، ومركبات النقل بين المدارات، ومحطات الفضاء التجارية، والتصنيع في الفضاء، ومركبات الإنزال التجارية وغيرها الكثير.
وقد رصد موقع مصانع الفضاء أكبر قاعدة بيانات إلكترونية للكيانات التجارية العاملة في اقتصاد الفضاء الصاعد والتصنيع في الجاذبية شبه المنعدمة، ما يقرب من 400 شركة ومؤسسة ناشئة تعتزم تقديم منتجات أو خدمات تدور في فلك اقتصاد الفضاء.
وكان البيت الأبيض قد أطلق في أبريل/نيسان الماضي إستراتيجية وطنية لتطوير هذه التقنيات بعنوان "الإستراتيجية الوطنية للصيانة والتجميع والتصنيع في الفضاء" تحت إشراف استشاري سياسات الفضاء إيزين أوزو أوكورو، الخبير في تجميع الروبوتات والذي كان يعمل من قبل في وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" (NASA).



القيمة الحقيقية لحجم الاقتصاد الفضائي الخالص أقل بكثير من أغلب التقديرات (مواقع التواصل)


حجم اقتصاد الفضاء

يبدو أن أغلب تقديرات حجم اقتصاد الفضاء مبالغ فيها قليلا. فوفقا لتقرير الفضاء الصادر عن مؤسسة الفضاء، بلغ حجم الاقتصاد العالمي الخاص بالفضاء 447 مليار دولار في 2020، تمثل الإيرادات التجارية منها نحو 80%.
في حين تقدر شركة "يوروكونسالت" (Euroconsult) أن اقتصاد الفضاء العالمي يساوي 385 مليار دولار، منها 315 مليار دولار إيرادات تجارية، وهناك تقديرات أخرى أكثر واقعية لاقتصاد الفضاء بقيمة 292 مليار دولار.
أغلب التقديرات التي تتراوح ما بين 300 و450 مليار دولار، تتضمن الموازنات الحكومية (وهي في الأغلب موازنات الولايات المتحدة والدول الأوروبية واليابان والصين وروسيا)، وتشمل تصنيع الأقمار الصناعية على الأرض وتكاليف إطلاقها، ومعدات البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية، وأجهزة استقبال تحديد المواقع.
ووفقا لتحليلات شركة "برايس تك" (Bryce Tech)، يتضمن اقتصاد الفضاء تصنيع الأقمار الصناعية (12.2 مليار دولار) ومركبات الإطلاق (5.3 مليارات دولار). أما يوروكونسالت فتقدر إيرادات الخدمات التجارية المرتبطة بالفضاء فقط (التي لا تتضمن أي عمليات على الأرض) بـ9 مليارات دولار، تنقسم بين 4 مليارات دولار في تصنيع المعدات، و1.7 مليار دولار لخدمات الإطلاق، و3 مليارات دولار للمعدات الأرضية.
القيمة الحقيقية لحجم الاقتصاد الفضائي الخالص أقل بكثير من أغلب التقديرات، ولم تبدأ معظم تطبيقاته ومجالاته في الظهور سوى مؤخرا بفضل تطور تكنولوجيا الروبوتات، وتناقص تكاليف إطلاق الصواريخ إلى الفضاء.
ومن المتوقع أن تقل بمعدل يتراوح بين 10 و100 ضعف عن التكلفة الحالية في المستقبل، وازدياد التلوث والتغير المناخي على الأرض الذي يؤدي إلى بحث الإنسان عن بيئة تصنيع خالية من التلوث ولا تتعرض لاضطرابات التغير المناخي، وتنامي التوجه نحو المستوطنات الفضائية، وظهور جيل من المستثمرين الراغبين في الإقدام على استثمارات بعيدة المدى في شركات ومشاريع التصنيع في الفضاء.


صيانة وإعادة تأهيل الأقمار الصناعية

في عالم كان إطلاق الصواريخ فيه نادرا، صُممت الأقمار الصناعية لتستمر عدة عقود قبل التخلص منها وتدميرها. ولكن مع تطور تقنيات إطلاق الصواريخ، جعلت شركات إنتاج الصواريخ الجديدة السفر إلى الفضاء أكثر سهولة، وزادت أهمية الأقمار الصناعية التي تدور بالفعل حول الأرض، وأصبح من غير المنطقي التخلي عنها بسهولة.

ماذا لو كان من الممكن إعادة تزويدها بالوقود أو تجديدها أو إعادة تدويرها؟ وماذا لو أتاحت الأدوات اللازمة لتلك الوظائف أيضا مشاريع مدارية أكثر طموحا وربحا؟ وبدلا من إنفاق 200 مليون دولار على قمر صناعي جديد من الممكن إطالة عمر وتشغيل الأقمار الصناعية الحالية في الفضاء من خلال تطوير أوجه الاستفادة منها أو تبديل بعض مكوناتها.
لهذا أصبحت أنشطة وعمليات صيانة وتأهيل الأقمار الصناعية القديمة بدلا من الاستغناء عنها أشهر مجالات التصنيع في الفضاء. لذا تخطط وكالة ناسا لأولى رحلات إعادة تزويد المركبات الفضائية بالوقود في الفضاء. وقد نجحت شركة الطيران الفضائي "نورثروب جرومان" (Northrop Grumman) في وقت سابق في تسيير رحلتين لتمديد العمر الافتراضي لبعض الأقمار الصناعية، وستستخدم قريبا روبوتا فضائيا جديدا للقيام بهذه المهمة على نطاق واسع.
صيانة الأقمار الصناعية هي الهدف الأول لتقنيات التصنيع والتجميع في الفضاء، لأنها تضيف قيمة واضحة، وهناك العديد من الجهات المستعدة لدفع ثمن هذه الخدمة. وقد نجحت شركة "أستروسكيل" (Astroscale) التي يقع مقرها في طوكيو باليابان في إطلاق مهمة تجريبية في العام الماضي، أثبتت من خلالها قدرتها على استخدام مركبتها الفضائية في قنص الأقمار الصناعية المعطلة أو التالفة، والتخلص منها.

لهذا حصلت على استثمارات قيمتها 15.4 مليون دولار لإطلاق نسخة أكبر من مركبتها الفضائية المتخصصة في إزالة مخلفات الفضاء. والتقنيات نفسها التي تستخدم في إصلاح الأقمار الصناعية أو التخلص منها في الفضاء صالحة للاستخدام -على سبيل المثال- في بناء أقمار صناعية أو تلسكوبات أو محطات فضائية أكبر تدور حول الأرض.

تصنيع قطع غيار الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية
إذا تلف أي قمر صناعي بسبب قطعة غيار بسيطة سهلة التصنيع، أو توقفت سلسلة من التجارب بسبب نفاد المعدات المستخدمة، فإن ذلك سيؤدي إلى خسائر كبيرة من الممكن تفاديها بإنشاء ورش تصنيع فضائية حول الأرض، ربما تكون فقط طابعات ثلاثية الأبعاد. توفر هذه الورش الوقت والتكلفة بدلا من الانتظار حتى إرسال المعدات المطلوبة من الأرض على متن صاروخ الشحن القادم.
تبلغ تكلفة إرسال المواد والمستلزمات والمعدات من الأرض إلى الفضاء، سواء كانت قمرا صناعيا أو حاسبا أو مفتاح ربط بسيطا، نحو 5 آلاف دولار للكيلوغرام. ووجود معامل تصنيع أو طابعات ثلاثية الأبعاد حول الأرض سيخفض تكلفة التصنيع والإنتاج إلى تكلفة إرسال التصميمات بالبريد الإلكتروني من الأرض إلى الفضاء.
ومن الممكن أن تتطور قدرات وإمكانيات الطابعات ثلاثية الأبعاد إلى مستوى يجعلها قادرة على تصنيع التلسكوبات أو الأقمار الصناعية من الألف إلى الياء. فمن الأهداف الرئيسية للتجميع والبناء في الفضاء هو القدرة على بناء تلسكوبات وأقمار صناعية أكبر من سعة مقصورة الصواريخ.

فقد اضطر العلماء لطي المرآة الضخمة لتليسكوب جيمس ويب الفضائي الذي أطلق في ديسمبر/كانون الأول الماضي، الأمر الذي زاد من المخاطر والصعوبة. فلك أن تتخيل لو أن جزءا من هذه المرآة لم ينبسط كما ينبغي، أو علق في المنتصف أو حدث عطل في تروس الطي والبسط. وإذا تطورت روبوتات التجميع الفضائية سيصبح بمقدور البشرية بناء مراصد أقوى من مرصد "ويب" وأقل تكلفة دون الحاجة إلى صواريخ إطلاق أو تصميمات معقدة بما يتناسب مع سعة مقصورة التحميل في الصواريخ.


إيرباص في الفضاء

في العام القادم 2023، تستقبل محطة الفضاء الدولية ضيفا جديدا هو طابعة المعادن ثلاثية الأبعاد "ميتال ثري دي" (Metal3D)، التي تعكف شركة "إيرباص" (Airbus) على تصنيعها بتكليف من وكالة الفضاء الأوروبية، والتي تمثل أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا التصنيع واللحام. فهي تستخدم المعادن وليس البلاستيك كمادة خام، وتصهر المعادن وتذيبها في درجة حرارة 1200 درجة مئوية لإنتاج دروع ضد الإشعاع أو أدوات ناقصة أو معدات مرتبطة بالدوران حول الأرض.
وستكون النسخ المستقبلية من هذه الطابعة قادرة على استخدام مواد أو قطع معاد تدويرها من الأقمار الصناعية المحالة للتقاعد. وفي نهاية العقد الثالث الحالي من القرن الـ21، ستكون الطابعات ثلاثية الأبعاد إحدى ركائز إنشاء مستوطنات بشرية على القمر، إذ ستساعد في طباعة هياكل المركبات القمرية أو المساكن البشرية على القمر ثم المريخ.
تقلل تقنيات التصنيع في الفضاء تكلفة تصنيع بعض السلع الباهظة، فالاعتماد على رواد الفضاء والمرافق المكلفة وصواريخ الإطلاق يجعل هذه السلع باهظة التكلفة. ومن ثم، فوجود مصانع أو روبوتات تصنيع مستقلة أرخص سيغيّر قواعد وآليات المنافسة في هذا المجال بالنسبة للشركات التي تسعى لتصنيع منتجات وسلع فريدة فائقة الكفاءة والجودة، في جاذبية شبه منعدمة كتصنيع كابلات الألياف الضوئية أو الأدوية الجديدة.