التديُّن بمنظور مسلم بن عقيل
بواسطة : السيد فاضل آل درويش



ورد عن مسلم بن عقيل في علة امتناعه عن قتل ابن زياد غدرًا: “فحديثٌ حدثنيه الناسُ عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنَّ الإيمانَ قيدَ الفتك، فلا يفتكُ مؤمنٌ، فقالَ له هانئ: أما والله لو قتلتَه لقتلتَ فاسقًا فاجرًا كافرًا” (بحار الأنوار ج ٤٤ ص ٣٤٤).
هناك الكثير من الكلمات والمواقف في النهضة الحسينية تستحق التأمل والتدقيق وإبرازها بحلة التوضيح والتبيين، بأسلوب يفهمه جميع الناس ويرتبط بواقعهم المعاصر بما يعزز مواقفهم وعلاقاتهم، ومن تلك المرويات الرائعة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتنظيم العلاقات الاجتماعية وفق أسس تحقق الأمان والاحترام والثقة المتبادلة وترسية السلم المجتمعي، ألا وهي حقيقة التدين التي تتشكل في كل مفاصل حياة الإنسان وتظبط إيقاع علاقاته بعيدًا عن الخداع، وهي مما يدل على توافق القيم الدينية والتعاليم الحضارية وانسجامهما وجريانهما في اتحاه بناء شخصية الفرد التكاملية والمتحلية بالفضائل، فمولانا مسلم بن عقيل يؤكد على أن التدين لا يقتصر على الجانب العبادي بالمفهوم الخاص كالصلاة والصوم وغيرها، بل التدين امتثال الأوامر الإلهية في الطاعات والعبادات والمعاملات والعلاقات مع الآخرين بعيدًا عن تحكم الشهوات والأهواء المضلة، فالتعامل مع مفاتيح الحياة والعمل المثمر والعلاقات الناجحة تتكئ على العقل الواعي المنتظم، حينما تنتقل بين خطوة وأخرى بتقييمها ومعالجة الأخطاء وأوجه القصور والنظر في العواقب والنتائج قبل الإقدام على أي خطوة، والتدين في قيمه ومضامينه وعباداته يركز على مبدأ العقلانية في الحديث والتصرفات والعلاقات، والمبدأ الأخلاقي القائم على تهذيب النفس وتزكيتها يعني ضبطها ومنعها من الاسترسال في الاستجابة للشهوات والأهواء المضلة.
ومن تلك القيم الدينية التي يشير لها مولانا مسلم بن عقيل (ع) هي الالتزام الأخلاقي في كل الأحوال وحتى مع ألد الناس لك عداوة، فالإيمان يقيد المرء ويمنعه من خداع الآخرين والفتك بهم والانقضاض على الضعفاء، فالفتك يختص بحياة الغابات عندما تخطط الحيوانات المفترسة للإمساك بالفريسة، فإنها تتخفى بين الحشائش والأعشاب دون أن يصدر منها صوت يلفت نظر الفريسة فيؤدي إلى إفلاتها وهروبها، وهذا المبدأ لو ساد بين البشر وهو الفتك بالآخرين والانقضاض على شخصياتهم ماديًا أو معنويًا على حين غفلة، فبلا شك ستسود الفوضى ويفقد المرء أهم الحاجات وهي الأمان المجتمعي، فمتى ما ساد الفتك أي الغدر بالآخرين ومخادعتهم من أجل الوصول لغاياته، فلن يكون هناك حياة هانئة ينعم بها أحد ولا ثقة معتمدة بين أفراد المجتمع.
ويبقى السؤال قائمًا ومتعلقًا بموقف مسلم: فلماذا لم ينتهز مسلم فرصة وجود ابن زياد وحده دون إحاطته بالجنود في بيت هانئ لعيادة شريك بن الأعور، فيجهز عليه وبذلك يحقق خطوة مهمة في طريق الانتصار على الأعداء؟
الجواب يتعلق بما ذكرناه من صفات المؤمن وهي الحفاظ على العهد وحقوق الضيافة، فابن زياد جاء إلى دار هانئ بن عروة زائرًا لشريك بن الأعور ويرافقه عهد الأمان، ولا يمكن لمسلم بن عقيل أن يتجاوز حدود وقيم التدين فيغدر ويفتك به، ومقولة “الغاية تبرر الوسيلة” أو النظرية الميكافيلية والتي تفتح باب التوحش والفتك ستؤدي إلى الخراب والدمار في العلاقات الاجتماعية، ومجرد القول بأن ابن زياد يخون ويغدر لا يبرر مطلقًا التعامل معه بنفس الأسلوب، فحينها ستكون كل الأطراف – ومنها مسلم – مخترقة للقيم الدينية وهذا بالتأكيد سيؤثر على نظرة الناس لحركة الإمام الحسين (ع)، والتي جوهرها ولُبّها الدعوة إلى الالتزام بالقيم الإسلامية وتحويلها إلى سلوكيات متجسدة على أرض الواقع في العلاقات والتعاملات، ومسلم بن عقيل (ع) رسول الإمام الحسين والممثل لتلك النهضة وواجهتها التي تعبر عن قيمها وأهدافها، فآثر مسلم الصبر على البلاء والتمسك بقيم الدين ومضامينه على التحرك وفق أسلوب الغدر والفتك والتبرير لكل خطوة خاطئة كما كان يصنع أعداؤه، وهكذا بقيت النهضة الحسينية المتشخصة برجالها نقية من شوائب التشكيك أو التخطئة لخطواتهم ومواقفهم.
ومن خلال هذا الموقف الأخلاقي العظيم لمسلم بن عقيل صاحب الشيمة والنبل، فهل نجعل منه قدوة نتأسى بها وذلك من خلال التمسك بقيمنا الأخلاقية مهما كانت جهة علاقتنا بالآخرين (سلبية أو إيجابية)، فلا نلجأ إلى الغدر والخداع والتوسل بالسبل الشيطانية للبلوغ إلى مآربنا ومنافعنا الخاصة وإن كان على حساب ضرر وأذى الغير؟!
نحاول بكل الوسائل أن نتجنب الدخول في الخلافات والمهاترات والمشاحنات، ولكن لو واجهنا موقفًا فلنتذكر مسلمًا الذي يأبى الخروج عن القيم الدينية في أي خلاف أو مواجهة مع الغير مهما كان انحداره الأخلاقي، وتجنب لغة الانتقام والتشفي ممن لا يكن لنا إلا البغضاء والحقد، فالمؤمن يتأطر بلغة التسامح والرحمة في كل أحواله