رصد العلماء منذ 30 عاما انبعاثات الأشعة تحت الحمراء مجهولة المصدر في الفضاء. ويعكف العلماء منذ ذلك الحين على فهم مصدر هذه الأشعة المجهولة.


كرات بوكي هي تركيب مجوف يشبه كرة القدم ويتكون من 60 ذرة كربون (ناسا)

حيرت بعض حزم الأشعة الكونية علماء الفلك لعقود. وتُعدّ "الأشعة تحت الحمراء مجهولة المصدر" (Unidentified Infrared Emission) من بين تلك الانبعاثات الكونية التي لا يُعرف مصدرها. وقد عمل العلماء لعقود على وضع أسس نظرية رصينة لتفسير مصدر ونواقل انبعاثات الأشعة تحت الحمراء المجهولة تلك.
والأشعة تحت الحمراء الكونية هي إحدى البصمات الكهرومغناطيسية المميزة القادمة من الأجسام الموجودة في الفضاء السحيق. ومن ثم فإن دراسة هذه البصمات توفر لنا صورة حية تساعد على تحديد هوية الكون وكيفية عمله.



كرات بوكي الكونية قد تكون مصدر الأشعة تحت الحمراء الغامضة (مواقع إلكترونية)


لغز محير لعقود

وقد حيرت الأشعة تحت الحمراء المجهولة العلماءَ منذ اكتشافها منذ 30 عاما. وحديثا، وضع علماء الفيزياء الفلكية النظرية وعلماء الكيمياء الفلكية في "جامعة هونغ كونغ" (The University of Hong Kong)؛ إطارا نظريا يفسر المصدر والكيفية التي تُنقل بها الأشعة تحت الحمراء المجهولة تلك. وقد نشرت نتائج الدراسة في دورية "ذا أستروفيزيكال جورنال" (The Astrophysical Journal) في 27 يوليو/تموز الماضي.
وقد أفادت الدراسة -التي قادها سيد عبد الرضا ساجادي وكوينتين باركر وأصدرت بشأنها الجامعة بيانا رسميا – أن الأنواع المتأينة الناتجة عن جزيء فوليرين "سي 60" (C60) -والذي يعرف أيضا باسم "كرات بوكي" (Buckyballs)- هي المصدر والناقلات المنطقية لبعض نطاقات انبعاثات الأشعة تحت الحمراء المجهولة تلك.
وكرات بوكي هي إحدى متآصلات الكربون. والتآصل هو ظاهرة كيميائية تأخذ فيها المادة أشكالا بنيوية مختلفة على الرغم من تشابه تركيبها الكيميائي. فعلى سبيل المثال، يدخل الكربون النقي في تكوين الألماس والغرافيت وكرات بوكي؛ وعلى الرغم من تشابه المادة الكيميائية (وهي الكربون) المكونة لكل من تلك المواد الثلاث، فإن تركيبها البلوري مختلف؛ ولذلك يُطلَق عليها متآصلات الكربون.
وكرات بوكي هي تركيب مجوف يشبه كرة القدم ويتكون من 60 ذرة كربون. وتدخل ذرات الكربون تلك في تكوين 20 حلقة سداسية الشكل و12 حلقة خماسية الشكل. ويمكن العثور على كميات ضئيلة جدا من كرات بوكي في السِناج (دقائق الكربون المتخلفة في العوادم والأدخنة).



كرات بوكي يمكنها البقاء حتى مستويات عالية جدا من التأين (ساجادي وباركر – جامعة هونغ كونغ)


كرات بوكي تفسر السر

غير أنه قد لوحظ أيضا وجود كرات بوكي في السدم الكوكبية وأنواع عديدة من النجوم. كما رُصِد الشكل المتأين (الشكل الذي تكتسب أو تفقد فيه كرات بوكي بعض الإلكترونات) من كرات بوكي في الوسط بين النجمي.
وقد أفاد ساجادي وباركر في ورقة بحثية سابقة نشرت عام 2021 أن كرات بوكي يمكنها أن تبقى في حالات مستقرة من التأين تصل إلى فَقد 26 من 60 إلكترونا، وذلك قبل أن يتفكك الشكل المميز لكرات بوكي.
وبتطبيق المبادئ الأولى للحسابات الكيميائية الكمومية، أفاد العلماء في الدراسة الحديثة أنه من الممكن نظريا توقّع بصمات لمجموعة من الأشعة تحت الحمراء متوسطة ناتجة عن هذه الأشكال المتأينة من كرات بوكي. مما قد يفسر لغز الأشعة تحت الحمراء المجهولة التي حيرت العلماء.
ويذكر باركر في البيان الصحفي الذي نشرته الجامعة أن "هذه النتائج مثيرة للغاية؛ إذ تكشف بالدليل النظري أن كرات بوكي يمكنها البقاء حتى مستويات عالية جدا من التأين. واليوم تظهر الدراسة الجديدة أن بصمات الأشعة تحت الحمراء الناتجة عن هذه الأنواع المتأينة تطابق تماما السمات المعروفة للأشعة تحت الحمراء المجهولة".



بصمات الأشعة تحت الحمراء الخاصة بكرات بوكي توجد في نطاق مميز عن المركبات الهيدروكربونية الأخرى (ناسا)


بصمات مميزة لكرات بوكي

وقد وجد الفريق أن بعض الأشكال المتأينة موجبة الشحنة لكرات بوكي تُظهِر نطاقات انبعاثات قوية تتطابق جدا مع النطاق الموجي المرصود للأشعة تحت الحمراء المجهولة (والذي يرصد عند 11.21 و16.40 و20-21 ميكروميترا). مما يشير إلى أن الأنواع المتأينة من كرات بوكي قد تصبح الهدف الرئيس للأبحاث الفلكية المستقبلية التي تتحرى نطاقات الأشعة تحت الحمراء، أملا في التأكد من هذه النتائج النظرية.
كما وجد الفريق أن بصمات الأشعة تحت الحمراء الخاصة بكرات بوكي توجد في نطاق مميز وبعيد عن نطاق المركبات الهيدروكربونية الأخرى (إحدى النواقل المحتملة للأشعة تحت الحمراء مجهولة المصدر)، مما يساعد على تحديد بصمات الأشعة تحت الحمراء الخاصة بكرات بوكي. كما يشير هذا الاكتشاف إلى إمكانية تواجد المركبات الهيدروكربونية العضوية جنبا إلى جنب مع الفلورينات في الفضاء.
ويشير ساجادي إلى أن نتائج الورقة البحثية التي نشرت العام الماضي تظهر "نظريا أن الفلورينات شديدة التأين يمكنها البقاء والعيش في بيئة الفضاء القاسية والفوضوية. وأن الأمر أقرب بتشبيهه بمقدار الهواء الذي يمكنك أن تنفثه خارج الكرة مع بقاء الكرة محتفظة بشكلها".
ويضيف ساجادي "استطعنا في الدراسة الحديثة تحديد السمات الطيفية التي تنتج عن هذه الكرات المتأينة. ومن ثم بحثنا عن وجود هذه السمات الطيفية في الفضاء وأشرنا إلى سهولة تمييز بصمتها الطيفية عن غيرها من المركبات الهيدروكربونية".