«أعوذُ باللهِ من العَقر»
بواسطة : محمد الحميدي
تُنسب الكلمة للحسين بن علي (ع)، حين وصوله إلى كربلاء، وتوقف جواده عن المشي، حيث سأل عن اسم الأرض، فقيل: لها أسماء متعددة؛ كنينوى، والطَّف، والغاضريات، والعَقر؛ التي بمجرد نطقها تعوَّذ منها، وكأنها ذاتُ دلالة سيئَّة توازي التلفُّظ بـ”إبليس”، الذي يُتعوَّذ منه باستمرار “أعوذ بالله من الشيطان”، فما المقصود بالعَقر؟
العَقر في اللغة تأتي بمعان عدَّة، أبرزها اثنان؛ الأول: بمعنى الذَّبح والقَتل والهَلاك، كما ورد في القرآن الكريم “فعقروها” المرتبطة بقصة ناقة النبي صالح (ع)، ويشبهه قول الشاعر الجاهلي امرئ القيس في موضعين من معلقته؛ أولهما في باب الكرم “ويوم عقرتُ للعذارى مطِيَّتي..”، فلمَّا بات بلا مطيَّة يركبها في طريق العودة؛ اضطُر للركوب مع ابنة عمه “عُنيزة”، التي استاءت من سلوكه، وطلبت منه النزول:
تقول وقد مال الغبيط بنا معًا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
المعنى الثاني لكلمة العَقر: يُقصد به عدمُ الإنجاب، كما ورد في قول الله تعالى: {وكانت امرأتي عاقرًا}؛ والعاقر هي المرأة التي لا تنجب أبناء لوجود مشكلة، مثلما هي زوجة النبي زكريا (ع)، التي أنجبت في سنٍّ متأخرة، بعد زوال المانع، وقريب من هذا المعنى ما ورد في كلام العرب، حين وُصف الكلب المتوحِّش بأنه “عقُور”؛ لمبالغته في النباح والعضّ، لأنه لا يُنتجُ شيئًا، وإذا أنتجَ؛ كان النّتاجُ وبالاً وشرًّا.
تعوُّذ الإمام الحسين (ع) من “العَقر” يحتمل معنيين؛ الأول: الهلاك والذّبح، وهو ما انتهت إليه معركة الطَّف، والثاني: عدم الإنتاج، فكانت رحلته من مكة إلى كربلاء لا فائدة منها، وهذا المعنى الثاني أرجح؛ لأن الروايات الواردة تحكي عن إخبار الإمام بمصيره، فلا مبرر للتعوُّذ من شيء معلوم مسبقًا، أمَّا ما سيأتي، وفي حكم الغيب، فهو ما يأمل أن يحقِّق هدفه، لذا تعوَّذ منه، مثلما يُتعوَّذ من الشيطان، ومن مِيتة السوء، ومن شرور الأعمال، إذ جميعها تستحق أن يتعوَّذ منها المرء؛ لاتصالها بالمستقبل والغيبيات.
ثمَّة درس حياتي بليغ الدلالة قدَّمه الحسين (ع)، في أحلك أوقات حياته، بعد أن سُدَّت أمامه السُّبل، وبات وحيدًا مع جمعٍ قليلٍ من أصحابه وأهل بيته، فلم يلجأ لشتم من خذلَه، أو سبِّ من تخلَّى عنه، أو الإغراق في البكاء، والحزن، أو حتَّى الهرب، والتفكير في الاستسلام، بل ثبتَ، وصبرَ، إذ أدرك مصيرَه، ورضيَ بقضاء ربِّه، فما يأملُه؛ ألا تنحرِف رسالتُه، ولا يضيع جهدُه، ولا تذهبَ تضحيتُه هباء.
الدرس يتمثَّل في الابتعاد عن الأمور التي لا تنتجُ فائدة؛ لأنها تجعل حياة المرء بدون قيمة فعليَّة، إذ حينما يُسلب منها الهدف؛ يدخل في صراعات، ومشكلات، ونزاعات؛ “لا تسمن ولا تغني”، ولا تقدم فائدة له، أو لمن حوله.
من أحب الأمور إلى الله؛ أن تكون إنسانًا منتجًا، فكما ورد عن النبي ﷺ؛ أنَّه قبَّل يدًا اِخشَوشَنَت من كثرة العمل وشدَّته، مبررًا صنيعَه بأنها: {يدٌ يحبها الله ورسوله}، فالله يحب اليدَ العاملة المنتجة، التي تقدم الفائدة، وتسهم في بناء الحياة، وتطورها.
الإنتاج لا يقتصر على جانب العمل، إذ يتجاوز إلى الكلمات والألفاظ؛ وكما تنتجُ اليدُ الخير؛ ينتجُ اللسان كذلك الخير، فكم من كلماتٍ غيَّرت أنفُسًا، وتسببت في إبعادها عن سلوكٍ شائنٍ، ومنحرِف، ولعل قصة “بِشْر الحافي”؛ تعدُّ الأشهر في هذا الباب، فالماجن، واللعوب، واللا مبالي؛ انقلبت حاله إلى الإيمان، والخشية من الله، بعد سماعه عبارة الإمام الكاظم (ع): “لو كان عبدًا لخاف من مولاه”.
مثلما تأتي الكلمات مُنتِجة، وذات فائدة؛ تأتي كلمات كذلك غير مُنتِجة، ولا فائدة من ورائها، فهدفها الوحيد إرباكُ المشهد، وإثارة البلبلة، عبر طرح أفكار مضللة، تسبب شقَّ الصفِّ، وتفرقة الناس، كما هي مقولة الخوارج بعد التحكيم: “لا حكم إلا لله لا لك يا علي ولا لأصحابك”؛ التي وصفها أمير المؤمنين بـ”كلمة حق يراد بها باطل”.
كلمة الحق التي يُراد بها الباطل؛ هي ما تعوَّذ منه الحسين (ع)؛ لأنها تسبب الفُرقة، والتناحُر بين الناس، فتقسِّمهم، وتصنِّفهم إلى أحزاب متعادية متحاربة، يتقاتلون على الدنيا، والأمور التافهة، تاركين الأولَى والأهم، وهو إصلاح الأرض وعمارتها، وتحقيق وعد الله عليها.
“العَقرُ” في كلام الحسين (ع)، ليس المقصودُ به الذَّبح، بل عدم الإنتاج؛ أي الأمور والكلمات، التي تؤدي إلى إثارة البلبلة، والعداوة، وتدفع الناس إلى الانخراط في مماحكَات؛ لا طائل ولا فائدة من ورائها