بقلم: عبير المنظور
هناك عاليًا من على سطحِ الإمارةِ في الكوفة، وسطَ أسرابِ الحمائمِ البيضاءِ التي لاحتْ في أُفُقِ السماء المُلبّدةِ بالحُزنِ؛ لتحفَّ بالسفيرِ ساعةَ استشهادِه، وتحومَ حولَه بأسىً، وكانَ هديلُها شجوًا..
تجمّعتْ تلك الحمائمُ على سطحِ الإمارةِ؛ لتواسيَ السفيرَ؛ لأنّها عرفته من ريحِه الهاشمي العَطِرِ..
ترى أيّ سِرٍّ بينَ الحمائمِ وآلِ البيتِ حتى وقتنا هذا؟
ناحتْ وهي ترى مُسلمًا بن عقيل أسيرًا، مُقيّدًا بالحبالِ، مُجلّلًا بالجراحاتِ، صعدوا به إلى أعلى القصرِ ليرموه من شاهق..
ما علموا أنَّ علياءَ السفيرِ تُطاوِلُ عنانَ السمواتِ يتسافلُ عندها شاهقُهم أمامَ تلك الرفعةِ والعلياءِ الهاشمية..
كانَ مُسلمٌ بن عقيل أعلى منهم ومن قصرهم بحِكمتهِ وصبرِه وجَلَدِه..
كانَ رابطَ الجأش، قويَّ البأسِ في مواجهةِ الموتِ؛ لأنّها الشهادةُ التي كانَ يطلبُها، وأيّ شهادة؟
شهادةٌ في سبيلِ إمامِ الزمان وأولِ شهيدٍ في إحقاقِ قضيتِه العادلة..
يا لِشرفِ هذه الشهادة!
تقدّمَ واثقًا من تلك الخطوة؛ لأنّه يعرفُ أنّها البدايةُ للحياةِ الحقيقية..
غيرَ أنّه قبلَ أنْ يُرموه حانتْ منه التفاتةٌ نحوَ كربلاء فولّى وجهَه شطرها حيثُ وجهة إمامِ زمانه..
دمِعَتْ عيناه حينما استشرفَ مصيرَ الإمامِ في الكوفة، وحَزِنَ لما سيُلاقيه، ورغم أنّه سبقَه نحو الجنةِ إلا أنّه في قرارةِ نفسِه كانَ حزينًا؛ لأنّه لن يدفعَ البأسَ عن الإمامِ (عليه السلام) عندما تحلُّ ساعةُ المعركة..
التقتْ عيناهُ بتلك الحمائمِ التي كانتْ تُناجيه، وناجاها بدمعةِ عينِه أنْ توصِلَ الخبرَ إلى الإمامِ (عليه السلام)، وتُحذِّرَه من غدرِ الكوفيين، وتمنعَه من المجيء..
كانَ حديثُه معها آخرَ مشهدٍ في حديثٍ معنويٍ اختتمَ به دموعًا حرّى لفِراقِ إمامِ زمانه (عليه السلام)..
حتى رماه الظَلَمَةُ من أعلى القصرِ، فعانقَ مُسلمٌ الموتَ بذراعيه، وآخرُ أنفاسِه كانتْ تلهجُ بذكرِ إمامِ زمانِه (عليه السلام) وتوقه إلى احتضانِه وتوديعِه، وسقطَ على الأرضِ وتهشّمَ..
تجمّعتْ حولَه الحمائمُ الثكلى تندبُه وتبكيه ولتزفّه مع ملائكةِ الرّحمنِ نحوَ عوالمِ الملكوت.
لو تكرّرَ مشهدُ مُسلمٍ بن عقيل (عليه السلام) معك وأنتَ مُنتظِرٌ لإمامِ زمانِك ومُمهِّدٌ لقضيتِه في مُجتمعٍ يسودُه الظلمُ والفساد، وبقيتَ وحدَك غريبًا في أرضٍ لا أهلَ لك فيها ولا عشيرة، وكنتَ تعلمُ جيدًا أنَّ مصيرَ إمامِ زمانِك وأهلِه جميعًا وأهلِك كذلك القتلُ والسبيُ، وأزفتْ ساعةُ موتِك ولم تستطعْ إكمالَ نُصرتِك ومُهمّتِك بسببِ غدرِ الظالمين وتخاذُلِ الجُبَناءِ من الرعية... مَنْ ستذكرُ في تلك اللحظاتِ الأخيرةِ، في ساعةِ الموتِ التي يحِنُّ بها المرءُ إلى أهله؟
هل ستدمعُ عيناكَ شوقًا لأهلِك وبنيك؟
أم ستشعرُ باللوعةِ والحسرةِ على إمامِ زمانك؟
هل ستُحاوِلُ أنْ توصِلَ سلامَك إلى إمامِ زمانك (عليه السلام) ولو برسالةٍ معنويةٍ وتعتذرَ عن تقصيرِك في قضيتِه، وتختمَها بدمعةٍ صادقة، أم ماذا؟