بقلم: عبير المنظور
في يومٍ قائظٍ حزينٍ من أيامِ مدينةِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، تناهى إلى سمعِها الضوضاءُ والجلبةُ في الخارجِ وصراخٌ وعويلٌ، كأنّه يومُ قُبِضَ فيه رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فانقبضَ صدرُها؛ فقد كانتْ تنتظرُ خبرًا ما عن الحُسينِ (عليه السلام)، لملمتْ آلامَها وآمالَها بعودتِه وحملتْ قمرًا صغيرًا على كتِفِها وخرجتْ لتعلمَ ما الخبر..
كانتْ تسمعُ اسمَ الحُسينِ (عليه السلام) يتردّدُ في الأرجاءِ، وهناك من يلطمُ على رأسه، وآخر يحثو التُرابَ على رأسِه، حتى المُخدّرات خرجنَ من خدورِهن يدعونَ بالويلِ والثبور..
وصلتْ إلى مسجدِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بشقِّ الأنفُسِ وهي مذهولةٌ وقلبُها يضطربُ اضطرابَ السفينةِ في البحرِ الهائجِ وسطَ الأمواجِ المُتلاطمة، لتسمع بشرَ بن حذلم باكيًا على فرسِه ينعى الحُسين (عليه السلام).
مرّتْ لحظاتٌ لم تكُنْ تُريدُ أنْ تُصدِّقَ أنَّ الحُسينَ (عليه السلام) قد فارقَ الدُنيا وإنِ اخترقَ سمعَها صوتُ الناعي وهو يقول:
يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بها
قُتِلَ الحُسينُ فأدمُعي مدرارُ
الجسمُ منه بكربلاءَ مُضرَّجٌ
والرأسُ منه على القناةِ يُدارُ
حتى استأنفَ الدّاعي مقالته:
هذا عليٌّ بن الحُسين مع عمّاتِه وأخواته، قد حلّوا بساحتكم، ونزلوا بفنائكم، وأنا رسولُه إليكم، وأعرِّفُكم مكانَه.
لم تُصدِّقْ ما سمِعتْ، دَنَتْ من بشر، فأخذتْ تسألُه عن الحُسين (عليه السلام)، عرفَها بشرٌ... هي أمّ البنين فأخذَ يُجيبُها عن أولادِها الأربعةِ ويُصبِّرُها على فاجعتِها، فقد فقدتْ أربعةَ أقمارٍ هاشمية، قالَ لها:
- عظّمَ اللهُ لكِ الأجرَ بولدِكِ جعفر...
قالت: أخبِرْني عن ولدي الحسين ...
قال: عظّمَ اللهُ لكِ الأجرَ بولدِك عبدِ الله ...
قالت: أخبِرْني عن ولدي الحُسين ...
قال: عظّمَ اللهُ لكِ الأجرَ بولدِكِ عثمان ...
قالتْ: يا بُني أخبِرْني عن ولدي الحُسين ...
قال: عظّمَ اللهُ لكِ الأجرَ بولدكِ أبي الفضل العبّاس...
فلما سمِعتْ بذكرِ أبي الفضلِ العبّاس وضعتْ يدَها على قلبِها ثم قالت:
- يا ابنَ حذلم، لقد قطّعتَ نياطَ قلبي، أخبرتني بقتلِ أولادي الأربعة ولكن اعلمْ يا ابنَ حذلم أنَّ أولادي وجميعَ مَنْ تحتَ السماءِ فداءٌ لأبي عبدِ اللهِ الحُسين، يا ابنَ حذلم أخبِرْني عن الحُسين.
عند ذلك قال:
- يا أمَّ البنين، عظّمَ اللهُ لكِ الأجرَ بالحُسينِ؛ فلقد خلفناه بأرضِ كربلاء جُثّةً بلا رأس ...
فصاحتْ: وا ولداه.. وا حسيناه..
وسقطتْ إلى الأرضِ مغشيًا عليها، فلمّا أفاقتْ قالت:
- يا ابنَ حذلم، لقد قطّعتَ نياطَ قلبي، أخبِرني عن ولدي الحُسين.
مشهدٌ استثنائيٌ لامرأةٍ استثنائيةٍ رسمتْ لنا لوحةَ التضحيةِ في سبيلِ إمامِ الزمان (عليه السلام) بريشتِها وألوانِها، وإنْ كانَ اللونُ الأحمرُ القاني من دماءِ أولادِها قد غلبَ على ألوانِ تلك اللوحةِ..
لو وجدنا كأُمِّ البنين (عليها السلام) خمسين امرأةً لربما كُنّا الآنَ نعيشُ عصرَ الظهور..
لو تكرّرَ مشهدُ أمُّ البنين (عليها السلام)، ولكن بك كأُمٍّ لها كُتلةٌ مُلتهبةٌ من مشاعرِ الأمومةِ، أو كأبٍ يُصارعُ المُستحيل لأجلِ أولاده ومُستقبلهم، وقدّمتَ أربعةَ أولادٍ من خيرةِ الأولاد قُربانًا لإمامِ زمانِك وقضيتِه العادلة، وجاءَ الناعي، هل كُنتَ ستتغلبُ على مشاعرِ الأمومةِ والأبوّةِ وتتقطّعُ نياطُ قلبِك لتسمعَ من الناعي خبرًا عن إمامِ زمانِك وهو ينعى أولادَك الأربعةَ واحدًا تلو الآخر؟
هل أنتَ حقًّا قد وطّنتَ نفسَك على بذلِ أغلى ما تملكُ في حياتِك، أولادك فلذاتِ أكبادِك وحشاشة مهجتِك فداءً لإمامِ زمانك؟
هل ستُضعِفُكَ تلك العاطفةُ وتسألُ عنهم قبلَ أنْ تسألَ عن إمامك؟
هل ستُقدِّمُ أولادَك على إمامِ زمانِك؟
أم تُقدِّمُ إمامَ زمانِك عليهم؟
السؤالُ موجّهٌ لي ولكم..