الدرس العشرون
7 - شبهات حول وحي القرآن
تضمنت بعض المصادر التاريخيّة انّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن متيقّناً من الوحي في بداية أمره، وكان متردّداً في ذلك، وانّ الذي أقنعه زوجته خديجة بدعم من ورقة بن نوفل، فقد روى البخاري عن عائشة أُم المؤمنين أنّها قالت: أول ما بُدئَ به رسول الله (ص) من الوحي الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رُؤيا إلاّ جاءَت مثل فلقِ الصبح. ثمّ حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغارِ حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهلهِ ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجعُ الى خديجة فيتزودُ لمثلِها، حتّى جاءهُ الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملكُ فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلتُ: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ مني الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطّني الثالثة، ثمّ أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ فرجعَ بها رسولُ الله (ص) يرجُف فؤادهُ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال: زَمّلُوني زمّلوني. فزمّلوه حتى ذهب عنه الروعُ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيتُ على نفسي. فقالت خديجة: كلاّ والله ما يُخزيك الله أبداً، إنّك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعينُ على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقةَ بن نوفلِ بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتبُ من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتبَ، وكان شيخاً كبيراً قد عميَ، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيكَ. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله (ص) خبر مارأى. فقال له ورقة: هذا الناموسُ الذى نزَّل الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً، ليتنى أكون حيّاً إذ يخرجُكَ قومك، فقال رسول الله (ص) أوَ مُخرجي همْ؟ قال نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثلِ ما جئت به إلاّ عُودى، وان يدركني يومك أنصرُك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفّى، وفتر الوحي(1).
وفي رواية انّ أبا بكر دخل على خديجة، فقالت: انطلق بمحمّد الى ورقة، فانطلقا فقصّا عليه...(2).
لاحظ المضمون غير المعقول لهذه الرواية، إذ كيف يلتبس الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتّى يشك في نفسه، بحيث تطمئنه خديجة وتزيل روعه، ثمّ لا يطمئن هو بنبوّته إلاّ بالرجوع للنصراني ورقة بن نوفل!
ومما يؤيّد الطعن في هذه القصة، أن المؤرخين لم يذكروا أن ورقة قد آمن كما آمن الإمام علي (عليه السلام) وخديجة رغم ما روي من امتداد عمره الى ما بعد البعثة وأنّه مرّ على بلال وهو يُعذب(3)، قال ابن حجر: وهذا.. يدلّ على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى الإسلام حتّى أسلم بلال(4).
وربّما كانت هذه الرواية من الإسرائيليات التي ترمي الى الحط من مقام الرسول والطعن في رسالته، وتأكيد رجوعه لأهل الكتاب.
بينما أكّدت النصوص المتقدمة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) الوضوح والطمأنينة التي يعيشها الأنبياء عند الايحاء إليهم نافية ما تضمنته تلك الرواية المزعومة(5).
1- الجامع الصحيح: 1 ص 14 - 15.
2- الاتقان: 1 24.
3- الإصابة: 6 476.
4- المصدر.
5- تراجع النصوص في ص 84.
الدرس الحادي والعشرون
ونجد هنا من المناسب أن نتعرّض بإيجاز لبعض الآيات التي قد يوحي ظاهرها اضطراباً في موقف الرسول تجاه الوحي أو الرسالة:
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾(1).
عن ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف، أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فسألوه شططاً، وقالوا متِّعنا باللاّت سنةً، حرِّم وادينا كما حرّمت مكّة شجرها وطيرها ووحشها، فأبى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولم يجبهم فكرّروا ذلك الالتماس وقالوا: انّا نحبّ أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك، فأمسك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه؟ فأنزل الله هذه الآية(2).
وقال الحسن: الكفّار أخذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليلة بمكة قبل الهجرة وقالوا: كفّ يا محمد عن ذمّ آلهتنا وشتمها، فلو كان ذلك حقّاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحقّ منك، فوقع في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يكفّ عن شتم آلهتهم.
وعن سعيد بن جبير انّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك تستلم آلهتنا، فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية. فنزلت هذه الآية(3).
وهناك روايات أخرى في سبب النزول.
ولو أغمضنا النظر عن هذه الروايات المختلفة التي لم تثبت صحة واحدة منها بخصوصها. فالذي يلوح من الآية الكريمة انّه كان هناك طلب من الكفار من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على خلاف تعاليم الله سبحانه وتعالى، أمّا ما هو موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالذات؟ وكيف تعامل مع هذا الطلب؟ فهو ما سوف نتحدّث عنه بإيجاز...
وقبل ذلك نقول: إنّ هذه الآية الكريمة - على كل تقدير - لا ترتبط ببحثنا الحالي في الوحي حول مدى وضوح الوحي الإلهي في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) - خلافاً لمن يتوهم ذلك - لأنّ الآية صريحة في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) محافظ على وعيه تماماً وانّه يميّز الوحي الإلهي غاية ما هناك انّه كاد يميل باختياره الى الكفار ومداراتهم.
إذن الآية الكريمة تؤكد وعي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) واختياره التام، لذلك رتّبت ثبوت العقاب الشديد عليه لو حصل منه الزيغ. وليس فيها أية إشارة الى عدم وضوح الرؤية عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولا الى الهلوسة والاضطراب النفسي وأمثال ذلك مما يوجب الشك في الوحي إليه، بل الآية الكريمة - باعتبار آخر - تؤكد صدق انتساب ما يقوله النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى الوحي الإلهي، وانّه بمجرّد احتمال خطور (الزيغ) في نفسه نزل تحذيره والتلويح له بشدّة العذاب.
فهذه الآية اجنبية تماماً عن آية سورة النجم واسطورة الغرانيق، التي تضمّنت الهلوسة أو فقد الوعي والاختيار أمام تسلّط الشيطان عليه - على اختلاف صيغ الرواية المزعومة - فلا يصح الاستدلال والاستشهاد بها على ما يرومه أعداء الإسلام.
نعم الآية الكريمة ترتبط بموضوع عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه هل هو معصوم أو لا؟ وهل ما صدر منه وأوجب نزول هذه الآية مناف للعصمة أو لا؟
ونحن نشير هنا الى هذا الموضوع استطراداً فنقول:
أولاً: لاشك أنّ الآية الكريمة نزّهت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن صدور الفرية منه والزيغ، فهي نصّت على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم تصدر منه الفرية ولم يجبهم الى ما أرادوه منه.
نعم من خلال الآية قد يطرح تساؤل عن معنى عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وانّه هل العصمة تقتضي عدم صدور الفعل القبيح من المعصوم بقرار مستقل منه دائماً أو لا مانع من تدخّل التسديد الإلهي المباشر أحياناً، ومن ناحية أخرى ما هي طبيعة هذا التسديد الإلهي، هل هو إرادة إلهية مانعة من وقوع ما أراده النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو ما خطر في باله، أو هو تسديد إلهي فطري للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مانع من التأثر بهذه المؤثرات التي ينهار أمامها غير المعصوم الفاقد للتسديد؟ وقد تصدت البحوث العقائدية للإجابة على هذه التساؤلات وتحديد الموقف الصحيح منها، فنوكل البحث اليها.
وعلى كل تقدير، هذه الآية لا تخدش في مقام الرسول ومكانته عند ربه، التي تسمو به عن الإفتراء عليه كيف! وقد حذر القرآن من ذلك أشدّ التحذير، كما في قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾(4). فكيف يلتئم هذا التحذير مع فرضية إقدامه على الافتراء؟! وكذلك مع حكمة الله ودقّة اختياره لرُسله من بين عباده ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(5).
ثانياً: يُفهم من الآية الكريمة نفسها أن استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كانت باختياره وقراره الشخصي ولم يكن مجبراً عليها، وإلاّ لم يكن لتحذيره (صلى الله عليه وآله وسلّم) بقوله تعالى: ﴿إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾(6) معنى ومدلول، فما معنى أن يحذّر الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الافتراء والتقوّل ونحو ذلك ثم لمّا يعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على ذلك يمنعه الله سبحانه من ارتكابه؟!
ثالثاً: انّ نسبة التثبيت لله سبحانه لا تعني فقدان اختياره (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك، شأن كثير من الآيات التي تنسب أفعال الإنسان لله سبحانه مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾(7) فهو لا يعني انّ الرمي لم يكن فعلاً اختيارياً للرامي، وكذلك الآيات التي تتحدث عن الهدى والضلال مثل قوله تعالى: ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾(8) فانّها لا تعني قسرهم على الضلال والهدى، لأن الإرادة الالهية في كل ذلك لم تكن هي العلّة التامة، ولا سالبة للاختيار.
ومن خلال ما ذكرناه اتضح أن استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كانت بقراره واختياره من دون أن يكون مجبوراً على ذلك، ولعلّ هذا التحذير مجرد تذكير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذي كان يرغب في صيغة تخفّف من شدّة عنادهم، لما عرف عنه من الرأفة والرحمة وحرصه الشديد على إيمانهم، كما أشار إليه القرآن الكريم في مواضع متعددة، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾(9)،﴿فَلَعَلَّك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ﴾(10)،﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(11).
ولا يعني هذا ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد عزم على التلاعب بالوحي وتغييره. ولعلّ المقصود الحقيقي بالتحذير المذكور غير النبي، لبيان مدى خطورة الافتراء على الله تعالى.
1- سورة الإسراء: 73 - 75.
2- التفسير الكبير: 21 20.
3- يراجع التفسير الكبير: 21 20.
4- سورة الحاقة: 44 - 46.
5- سورة الأنعام: 124.
6- سورة الإسراء: 75.
7- سورة الأنفال: 17.
8- سورة إبراهيم: 4.
9- سورة فاطر: 8.
10- سورة الكهف: 6.
11- سورة الشعراء: 3.
يتبع