الدرس الثامن عشر
5 - تحديد المُنزل بالوحي
من الواضح انّ الذي أُنزل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو القرآن الكريم بلفظه ومعناه، ويفترض أن لا يكون هناك ريب أو تردد في ذلك، ويكفي شاهداً على ذلك مجموعة من الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾.
ولكن نسب إلى الأحناف رأي غريب، وهو أن القرآن الكريم اسم للمعنى فقط وليس اسماً للنظم والمعنى معاً(2). ويبدو أنّهم اختلفوا على قولين:
أولهما: ان جبريل انّما نزل بالمعاني خاصة، وانّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب.
وثانيهما: انّ جبريل ألقى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المعنى، وانّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وانّ أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم نزل به جبرئيل كذلك بعد ذلك(3).
ولكنّ تفاهة هذا الرأي وما تفرّع عليه تغني عن مناقشته. كيف! وقد قال تعالى - مخاطباً نبيّه - ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾(4). حيث يدل على أن آيات القرآن بألفاظ محدّدة مقروءة.
وقد قيل ان أبا حنيفة رجع عمّا أوجب ذلك "وان القرآن الكريم عند الحنفية عموماً وأبي حنيفة خصوصاً اسم للنظم والمعنى جميعاً كما هو الشأن عند الأُمة كلها"(5).
6 - شبهات حول الوحي
تعرّض الوحي - لكونه من الظواهر غير المألوفة للإنسان - إلى مجموعة من الشبهات والتساؤلات. وفي عصر النهضة المادية فى اوروبا واجه الباحثون الغربيون قضية الوحي بنظرة الريب بل الإنكار، ومن خلاله طعنوا في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ورسالة الإسلام.
وهذا الموقف منهم لا ينطلق من موقف سلبي خاص تجاه الوحي، بل يرتبط بنظرتهم العامّة لما وراء الطبيعة حيث إنّ اكثرهم حصروا الوجود بعالم المادّة، فمن الطبيعي أن يتنكّروا لما وراءه، وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: المتطرفون الذين يتّهمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالافتراء بهدف تحقيق مكاسب ومصالح دنيوية، مثل السلطة والشهرة.
الصنف الثاني: المعتدلون الذين يرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عبقرياً ذا شخصية نزيهة وطموحة، رام إنقاذ قومه من حالة الانحطاط والتخلّف التي كانوا غارقين فيها، من خلال أفكاره السامية التي كان يحملها، ونتيجة لإدراكه تخلّف قومه وعدم تفاعلهم مع أفكاره الإصلاحية قرّر الإيحاء لهم انّه مرتبط بالله تعالى وانّه مرسل من قبله بهذه الأفكار والمشاريع الإصلاحية حتى يكونوا أكثر استعداداً لتقبّل هذه الأفكار والدّفاع عنها.
والبعض من هؤلاء الغربيين يتعاملون مع كل الأنبياء على أساس هذه الفكرة، ولا يخصّون نبيّ الإسلام بذلك.
والحقيقة انّ هذه الأفكار والشبهات ليست مستحدثة وانّما اقترنت ببداية بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ودعوته، فقد واجهه قومه بهذه التهم الباطلة ورفضوا ارتباطه بالله تعالى، ولذلك نجد القرآن الكريم يردّ عليهم بتأكيد هذا الارتباط في مواضع عديدة من زوايا مختلفة وبصيغ متنوّعة، فتارةً يتحدّى الإنس والجن من أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وأخرى يؤكد على ارتباط الرسول بالوحي وانّه لا يملك الخيارات، وأخرى يحاججهم بانتظام القرآن وعدم الاختلاف فيه.. وغير ذلك، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(6).
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(7).
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(8).
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾(9).
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾(10).
﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(11).
ويمكن مناقشة هؤلاء المنكرين بما يلي:
أ: الوجوه المتقدمة التي تثبت إعجاز القرآن وانّه ليس من إنشاء البشر.
ب: الأدلة والشواهد المثبتة لعالم الروح، وعدم حصر الوجود بالعالم المادّي.
ج: استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل البعثة وبعدها وتحمّله المشاق والمصاعب في سبيل نشر رسالة الإسلام، حتى أثر عنه قوله: "ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُذيت"(12)، إضافةً للأدلة الدالة على علمه بالمآسي التي تواجه أهل بيته، ممّا يكشف انّه لم يكن يقوم بدور مزيّف، بل هو مكلّف من ربّه بتبليغ الرسالة مهما كلّف الثمن، كسائر الأنبياء والرسل الذين تحمّلوا من قومهم ما تحمّلوا في سبيل أداء رسالتهم.
1- راجع البرهان للزركشي:1/229، والاتقان للسيوطي:1/108 - 157 ط، مطبعة أمير.
2-
3-
4- سورة القيامة: 16 - 18.
5- يراجع كتاب المذاهب الإسلامية الخمسة: 258.
6- سورة البقرة: 23.
7- سورة الإسراء: 88.
8- سورة النساء: 82.
9- سورة يونس: 37.
10- سورة الحاقة: 44 - 46.
11- سورة النجم: 3 - 5.
12- بحار الأنوار: 39 56.
الدرس التاسع عشر
الصنف الثالث: الكتّاب والباحثون المعترفون بعالم الروح الذين فسّروا الوحي تفسيراً يختلف عمّا تقدم تفسيره، فقد قالوا: الوحي عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل الوجود، أي الروح الواعية هي التي تعطينا تلكم الإلهامات الطيبة الفجائية في ظروف حرجة، وهي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله، وقد تظهر نفس تلك الروح المتقبّعة وراء جسمهم، متجسّدة خارجاً فيحسبونها من ملائكة الله، هبطت عليهم من السماء، وما هي إلاّ تجلّي شخصيتهم الباطنية، فتعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه من قبل وتهديهم الى خير الطرق لهداية أنفسهم وترقية أمّتهم، وليس بنزول ملك من السماء ليلقي عليهم كلاماً من عند الله(1)..
ويبدو انّ الذي دعا هؤلاء - رغم اعترافهم بعالم ما وراء الطبيعة - الى هذا التفسير للوحي، هو ما وجدوه من مناقضة بعض محتويات الكتب المقدّسة للأديان الاخرى - وبالذات التوراة والإنجيل - لحكم العقل ولمكتشفات العلم الحديث، فبرّروا هذا التناقض بأنّه ناشىء من اختلاط هذه الإيحاءات النفسية على الرسول، بسبب ضعف في شخصيته الروحية، وعدم بلوغه المستوى الرفيع من السمو والشفافية لإدراك كل الواقعيات على ما هي عليه(2).
والجواب على هذا الادعاء:
أولاً: انّه كيف ينسجم السمو الروحي والعبقرية المفروضة للأنبياء - التي يعترفون بها - مع هذا الاختلاط الغريب عليهم بحيث لا يميزون بين الإيحاءات النفسية وتلقّي الوحي الالهي خاصة ما يكون توسط الملك الذي يشاهدونه؟! مع ان الإنسان العادي منزّه عن هذا الاضطراب، خصوصاً مع ملاحظة أن الوحي يلازم الأنبياء والرسل منذ بعثتهم الى وفاتهم، وليس حالة آنية طارئة، فكيف يتصوّر هذا الاختلاط عليهم طيلة هذه الفترة؟!
ثانياً: انّا نلاحظ نمطاً من الآيات لا يعقل استنادها إلى سمو الشخصية الباطنية للأنبياء، مثل آيات العتاب للأنبياء، وكذا بعض آيات الأحكام التعبدية الصرفة التي لا ترتبط بالجانب الروحي، والآيات التي تشير الى جوانب من الحياة الأخروية، خاصةً المرتبطة بجهنّم وعذاب الفاسقين، وغيرها من الآيات التي لا ترتبط مضامينها بالسمو الروحي والشخصية الباطنية للإنسان.
ثالثاً: انّ هذا التفسير للوحي نشأ من ملاحظة اضطراب كتب العهدين ونحوها ومناقضتها للعقل والعلم، وهذا لا ينطبق على القرآن الكريم، البعيد عن هذا التناقض والاضطراب.
رابعاً: ان سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) يختلف تماماً عن سلوك الذين يفقدون التوازن الفكري بسبب اختلاط الايحاءات النفسية وعدم استيعابهم لمفردات العلوم الغريبة التي يهتمون بها، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) معروفاً بشخصيته المتميّزة و مواقفه الصلبة وقراراته الصائبة في الظروف الحرجة التي واجهته خلال مسيرته الرسالية. وتنزّه عن الشطحات والاضطراب السلوكي الذي ينتاب بعض أصحاب الاتجاهات الروحية، كالصوفية وغيرهم.
وقد اشارت بعض النصوص الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إلى ذلك، ففي الحديث عن زرارة بن أعين أنّه قال لأبي عبدالله (عليه السلام): كيف لم يخَفْ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما يأتيه من قِبَل الله أن يكون مما ينزغ به الشيطان؟ فقال (عليه السلام): "إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار فكان الذي يأتيه من قِبَل الله مثل الذي يراه بنفسه"(3).
وفي نص آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث سئل: كيف علمت الرسلُ أنّها رسل؟ قال: "كُشف عنها الغطاء"(4).
وفي الحديث عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): "إنّ الله وجد قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أفضل القلوب وأوعاها فاختاره لنبوّته"(5).
ملاحظة هامة
يشير هذا النص الأخير إلى دقة الاختيار الالهي لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) في تحمّله لمسؤولية أداء رسالة الإسلام، وينطبق أيضاً على اختيار باقي الرسل الالهيين، فهم (صلوات الله عليهم) رغم الفتن والمآسي والاختبارات الصعبة التي واجهوها ورغم اختلاف العصور والظروف التي عاشوها استقاموا جميعاً ولم يضعف أي واحد منهم عن تحمل المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقه، فكان ذلك تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(6).
يتبع