الدرس الرابع عشر
الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم

بمعنى أن ترفع تلاوة آية من القرآن الكريم سواء لم تكن من آيات التشريع أم كانت، لكن حكمها يبقى غير منسوخ.

وقد التزم بوقوع هذا القسم عدد كبير أو العدد الأكبر من علماء العامّة حتى السرخسي وابن حزم. واعتبروا من ضمنها ما ورد من النصوص التي تضمنتها كتبهم المعتبرة..

منها: ما صحّت روايته عندهم عن عمر بن الخطاب انّه قال: كان فيما أُنزل من القرآن (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة)(1).

وفي لفظ أبي داوود: ".. وأيم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عزّ وجلّ لكتبتها"، ونظير ذلك فى موطأ مالك.

ومنها: ما رووه عن أبي موسى الأشعري من قوله: ".. وإنا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فاُنسيتُها غير أني قد حفظتُ منها "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً* ولايملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب" وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها باحدى المسبحات فاُنسيتُها غير أني حفظتُ منها "يا أيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون فتُكتَبُ شهادةً في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيام"(2).

وكذلك رواية اُبي بن كعب: "أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال له: إن الله أمرني أن أقرأ عليك، فقرأ عليه (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) فقرأ فيها: إن ذات الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية. من يعمل خيراً فلن يكفره. وقرأ عليه "ولو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، ويتوب الله على من تاب"(3).

ومنها: ما رووا أن أبابكر كان يقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم) وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب انّه قال: ثم إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله (أن لا ترغبوا عن آبائكم) أو (انّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم)(4).

ومنها: ما رووا أن أنس بن مالك كان يقول: قرأنا في القرآن (بلّغوا عنّا قومنا انّا لقينا ربّنا فرضي عنا وأرضانا)(5).

ومنها: ما رووه عن عبدالله بن عمر: لا يقولن أحدكم أخذت القرآن كله، ما يدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر(6).

هذا وقد رووا عن عائشة قولها: قد نزلت آية الرجم والرضاعة، فكانتا في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها(7).

وقد رووا روايات أخرى كثيرة تؤكد الحذف والزيادة بالنسبة للقرآن الذي كان في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولكنّهم سمّوه نسخاً لا تحريفاً!

وقد رفض علماء الشيعة - كما سنلاحظ - هذين النوعين، فعن الشيخ المفيد "والنسخ عندي في القرآن انّما هو نسخ متضمَّنِه من الأحكام، وليس هو رفع أعيان المُنزل منه، كما ذهب إليه كثير من أهل الخلاف... وهذا مذهب الشيعة وجماعة من أصحاب الحديث وأكثر المحكِّمة والزيدية، ويخالف فيه المعتزلة وجماعة من المجبِّرة، ويزعمون أن النسخ قد وقع في أعيان الآي كما وقع في القرآن"(8).

الثالث: نسخ الحكم دون التلاوة

وهذا هو المعروف بين العلماء والمفسرين قيل: "واتفق الجميع على جوازه امكاناً وعلى تحققه بالفعل أيضاً"(9).

وقد شهد القرآن الكريم نفسه بوقوع هذا القسم. كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾(10). حيث لم يعمل بها سوى الإمام علي (عليه السلام) - كما روى أصحاب الحديث في قضية معروفة - فنسخت بآية أخرى بعدها ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(11).

وفي هذا القسم تبقى الآية ثابتة في القرآن، لكن حكمها أو مفادها ينسخ ولا يستمر.

والقسم الثالث من النسخ - وربّما يعم الحديث غيره عند من لا يخصّص النسخ بهذا القسم - أربع صور:

1- أن ينسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى لاحقة في نزولها، بحيث تكون الآية الثانية ناظرة للأولى، كآية الصدقة عند مناجاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وهذه الصورة لاشك في وقوعها، كما شهد به القرآن الكريم نفسه.

2- أن ينسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى لاحقة، من دون أن تكون الآية اللاحقة ناظرة للسابقة، بل من خلال المنافاة بينهما يحكم بالنسخ، وقد اختلف العلماء في هذا القسم، ويبدو من السيد الخوئي(قدس سره) انكاره، لأنّه لا دليل على كون الآية اللاحقة ناسخة للآية السابقة، فربّما يكون فهم التنافي بينهما نتيجة عدم التدبر في معنى الآيتين.

3- أن ينسخ مفاد الآية بسنّة قطعية لاشك فيها، ومثّلوا له بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(12).

فإنّها بظاهرها لا تتنافى مع آية العدة والمواريث إلاّ انّ السنّة المتضافرة وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآيات العدة والمواريث. وقد أنكر بعض العلماء المعاصرين هذا القسم من النسخ(13).

4- نسخ السنّة بالقرآن ومثلوا له بقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾(14). الناسخة للحكم السابق بالتوجه إلى بيت المقدس الذي كان ثابتاً بالسنّة.

ومنها: تجويز إتيان النساء في ليالي شهر رمضان، فقد روي انّه كان محرماً على المسلمين بمقتضى السنّة ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ...﴾(15).


1- الجامع الصحيح: 4 258. وكذا أبو داوود في الحدود: 3 145، وابن ماجه في الحدود: 3/232، ومالك في الحدود: 548، وأحمد بن حنبل في مسنده: 5 183.

2- صحيح مسلم بشرح النووي: 7 140.

3- سنن الترمذي باب المناقب: 5 666 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد روي من غير هذا الوجه.

4- الجامع الصحيح: 4 258. وصحيح مسلم: 4 167، و 5 116.

5- يراجع أصول السرخسي: 2 78، والفقه على المذاهب الأربعة: 3 257.

6- الإتقان: 3 72.



الدرس الخامس عشر (شبهات حول النسخ)



أثيرت عدة شبهات حول النسخ، منها..

1- انّه لو جاز على الله أن ينسخ حكماً لكان امّا لحكمة ظهرت له كانت خافية عليه أو لغير حكمة، وكلاهما محال، لأنّ لازم الأول نسبة الجهل له ولازم الثاني نسبة العبث إليه تعالى.

الجواب: إنّ النسخ يرجع الى مقام الدلالة على الحكم، بمعنى انّ الله سبحانه عالم من أول الأمر أن أمد مصلحة الحكم محدودة بفترة معينة، لكن المصلحة لم تسمح بذكر هذا التحديد من أول الأمر فشُرّع الحكم الأول دائماً بظاهر دليله، ولذا قال الأصوليون انّ النسخ تخصيص أزماني، فالحكم الناسخ يكشف ان تحديد الحكم الأول بهذا الزمان كان مقصوداً لله سبحانه من أول الأمر.

2- ان الآية الناسخة منافية للآية المنسوخة فوقوع النسخ يناقض مفاد الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(1﴾.

الجواب: ان الآية الناسخة حيث كانت تكشف عن انتهاء أمد حكم الآية الأولى فلا تكون منافية ومناقضة للأولى، بل هي قرينة على معناها الواقعي وموافقة لها، أو قرينة على أمد وفترة فاعلية الآية الأولى، فلا تكون مناقضة لها.

الجري والانطباق

من الأمور المهمة في القرآن الكريم أنّ مضمونه لا يختص بزمان دون زمان، ولا تختص آياته بأسباب النزول بل تجري باستمرار الزمان وتنطبق على كل الأجيال.

روى العياشي عن عبد الرحيم القصير قال: كنتُ يوماً من الأيام عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا عبد الرحيم قلت: لبيك: قال: قول الله ﴿إنما أنت منذر ولكلّ قوم هاد﴾ إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): أنا المنذر وعلي الهاد ومَن الهاد اليوم؟ قال: فسكتّ طويلاً، ثم رفعتُ رأسي فقلتُ: جعلتُ فداك هي فيكم توارثونها رجل فرجل حتى انتهت إليك، فأنتَ - جعلت فداك - الهاد. قال: صدقتَ يا عبد الرحيم،إنّ القرآن حي لا يموت والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين.

وقال عبد الرحيم: قال ابو عبد الله (عليه السلام): إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا(2).

وفي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انّه قال لعمر بن يزيد لمّا سأله عن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾(3﴾، "هذه نزلت في رحم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقد تكون في قرابتك ثمّ قال: فلا تكونن ممن يقول للشيء: انّه في شيء واحد"(4).

وفي تفسير فرات: "ولو ان الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض ولكل قوم آية يتلوها هم منها من خير أو شر"(5).

وهناك العديد من النصوص الأخرى التي تشير الى ذلك، ولكن لابد أن نشير الى أن هذه النصوص لا تعني عدم نزول بعض الآيات في شخص أو فئة خاصة، لتميزهم عن غيرهم ببعض المميزات مثل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾(6)، وغير ذلك من الآيات الكريمة.

ويفترض في المفسّر والباحث أن يكون دقيقاً في فهم الآيات والنصوص المفسّرة لها، فيميّز بين المعنى المقصود من الآية وبين التطبيقات التي تشير إليها بعض النصوص التفسيرية، فالأول لا يمكن التصرف فيه وتطبيقه على غيره، بينما الثاني مجرّد فرد ومصداق - مهما كان بارزاً ومتميزاً - لا تقتصر عليه الآية المفترضة. والله العالم.

الأسئلة

1 - ما هو الوجه في وصف المحكمات بأنها اُمّ الكتاب؟
2 - ما معنى المحكم والمتشابه في قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾(7﴾؟
3 - ما هي أقسام النسخ المدعى في القرآن الكريم، وما هو القسم الذي التزمه شيعة آل البيت(عليهم السلام)؟
4 - اذكر الصور الأربع للقسم الثالث من النسخ.
5 - اذكر شبهة حول النسخ والجواب عنها.


1- سورة النساء: 82.

2- تفسير العياشي: 2 218 - 219.

3- سورة الرعد: 21.

4- الكافي: 2 156.

5- يراجع البيان: 31.

6- سورة الأحزاب: 21.

7- سورة آل عمران: 7.



يتبع