الدرس الثامن

2) قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾(1).

وقريب منها في سورة الشورى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾(2).

وجه الشبهة ان هدف الوحي الى الرسول كان إنذار أهل مكة ومن حولها ممّن هو قريب منها.

والجواب عنها من وجوه..

أ - ان هذا يبتني على تفسير الحول بالقرب، مع ان القرآن استخدمه بغير ذلك ففي سورة الأحقاف: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى﴾(3).

قال الطبرسي: "معناه: ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حولكم، وهم قوم هود وكانوا باليمن وقوم صالح بالحجر وقوم لوط على طريقهم الى الشام"(4). وكذا في سورة العنكبوت: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾(5).

ب - الملحوظ في الآية أنّها لم تعبر (مكة وما حولها) وهذا يكشف عن ان المنظار ليس هو البقعة وما يحيط بها جغرافياً، بل في كلتا الآيتين جاء التعبير ب- (أم القرى) وكأنّه لتأكيد مركزية مكة بالنسبة للبقاع الاخرى بسبب وجود الكعبة والبيت الحرام فيها، والعرب تسمي كل أمر جامع يُجتَمع عليه (أماً). ولذا ورد عن ابن عباس أن سبب تسمية مكة بذلك أنّ الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها، وقال أبو بكر الأصم: (سمّيت بذلك لأنّها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد و القرى تابعة لها)(6).

فاختصاص هذا الاسم بمكة خير شاهد على عدم النظر إليها بما انّها بقعة معيّنة.

ج - إنّ هذا التفسير يجعل الرسالة محدودة بحدود جغرافية ضيّقة، وهذا خلاف الضروري من سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم). والشواهد الأخرى التي سوف نذكرها.

د - لو فرضنا ظهور الآيتين في البقعة الجغرافية فقد يكون من باب التأكيد نظير ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(7) و﴿اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(8)، أو التدرج في الدعوة للاسلام باعتبار أنّهم كانوا المباشَرين آنذاك، ومن المعلوم ان القرآن ابتنى على ملاحظة المناسبات والتأكيد على ذكر الخصوصيات، نظير قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾(9) على التفسير القائل انّهم أهل مكة - مع أنّ سورة الجمعة مدنية - فلم يستنكر ذلك أحد من المسلمين ولم يراوده تساؤل عن اختصاص الرسالة بأهل مكة.

ومما يشهد بعدم ورود الآية الكريمة في مقام الحصر الحقيقي، قوله: ﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾(10) حيث لا إشكال في ان الهدف من إنزال القرآن ليس مجرد الإنذار ليوم الجمع..

هـ - إنّ قوله تعالى: ﴿...وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ...﴾ يشمل كل المنتسبين للأديان السماوية وهو لا يلتئم مع اختصاص الرسالة بأهل مكة ومن حولها، خصوصاً مع ندرة وجودهم في هذه المنطقة.

الأمر الثاني: الأدلة والشواهد - القرآنية وغيرها - الدالة على أممية الإسلام. وهي كثيرة جداً، منها:

1- قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾(11). ونظيرها ما في سورتي التوبة والصف.

2- ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾(12). ونظيرها كثير من الآيات التي تخاطب أهل الكتاب.

3- ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾(13)﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(14) ونحوهما كثير من الآيات التي تؤكد شمولية الرسالة الاسلامية.

4- ﴿بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾(15) ونحوها مما دل على تبشير غير العرب برسالته (صلى الله عليه وآله وسلّم).

5- ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾(16). حيث دلّت على شمول رسالته لغير العرب، وان اليهود كانوا يترقّبون بعثته.

6- ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾(17).﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾(18) ونحوهامن الآيات.

7- ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾(19) وكذا غيرها من آيات المحاججة وتحدّي أهل الكتاب، مثل آية المباهلة.

8- تعامل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مع أهل الكتاب ودعوته لهم باتباعه كما دعا المشركين الى ذلك.

9- موقف أهل الكتاب من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتوجّسهم من دعوته، لعلمهم بأنّه يستهدفهم في دعوته.

10- إسلام العديد من الصحابة ممّن كانوا من أهل الكتاب ومن غير العرب كالنجاشي وبلال وسلمان وصهيب، وكذلك غيرهم من الأجيال اللاحقة.

11- رسائل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى ملوك فارس والروم والحبشة، ودعوتهم للإيمان برسالة الإسلام.

12- الإخبارات الغيبية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن دخول شعوب غير عربية في الإسلام.

13- موقف الأئمة(عليهم السلام) وعدم ردعهم عن قضية الفتوحات - رغم التحفظات على الواقع القائم وبعض الممارسات خلال الفتوحات -.

14- طبيعة التشريعات المرتبطة بالتعامل مع غير المسلمين، مثل أحكام الجزية ونحوها المعبّرة عن خطة المشرّع الإسلامي لجذب أهل الكتاب وغيرهم للإسلام.


1- سورة الأنعام: 92.

2- سورة الشورى: 7.

3- سورة الاحقاف: 27.

4- مجمع البيان: 9/138.

5- سورة العنكبوت: 67.

6- التفسير الكبير: 13/81.

7- سورة الشعراء: 214.

8- سورة الحجر: 88.

9- سورة الجمعة: 2.

10- سورة الشورى: 7.

11- سورة الفتح: 28.

12- سورة المائدة: 19.

13- سورة سبأ: 28.

14- سورة الأنبياء: 107.

15- سورة الصف: 6.

16- سورة البقرة: 89.

17- سورة آل عمران: 19.

18- سورة الأنعام: 125.

19- سورة آل عمران: 20.الدرس التاسع (حجّية الدلالة القرآنية)

نقصد من هذا البحث ان القرآن ليس مبهماً يتعذّر على الأمّة فهمه، وإنّما من حق العالم والمتخصص - وأحياناً الانسان العادي - أن يعتمد على ما يفهمه منه.

ويندرج تحت هذا البحث مسألة حجية ظواهر القرآن التي يبحثها علماء أصول الفقه، حيث أكدوا أنّ ظهورات القرآن حجّة، فضلاً عمّا هو صريح فيه.

ويمكن أن نستشهد لذلك بمجموعة من الشواهد من نفس القرآن ومن غيره، وهي..

1- مجموعة من الآيات الكريمة الواضحة في دعوتها للتأمل والتمعن في القرآن الكريم.

منها: قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(1).

ومنها: قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(2).

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (3﴾.

ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾(4﴾.

وهناك آيات أُخرى كثيرة تشهد ان إنزال القرآن لأجل أن يتفهّمه الناس ممّا يؤكد انّه قابل للفهم بالتأمّل والتدبّر.

نعم قد يتوهّم البعض ان القرآن اشتمل على المحكم والمتشابه وان تمييز أحدهما عن الآخر غير ممكن لنا، وسوف يأتي البحث عن ذلك في باب المحكم والمتشابه إن شاء الله تعالى.

2- ورود النصوص الكثيرة التي تدعو المسلمين الى الرجوع للقرآن والالتزام والعمل به فيكشف هذا عن إمكانية فهمه من جانبهم - ولو من خلال علمائهم -.

منها: حديث الثقلين: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(5).

ومنها: قول الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: "جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ومحاج لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ونوراً ليس بعده ظلمة.. وبرهاناً لمن تكلّم به وشاهداً لمن خاصم به وفلجاً لمن حاجّ به.. وعلماً لمن وعى وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى"(6).

ومنها: قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة أيضاً: "كتاب ربّكم فيكم مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه مفسِّراً مجمله ومبيِّناً غوامضه.."، وهناك نصوص كثيرة جداً في السنّة تدعو الى العمل بالقرآن والرجوع إليه.

ومنها: مجموعة من النصوص التي يُوجّه فيها أهل البيت(عليهم السلام) أصحابَهم الى القرآن، مثل ما رواه عبدالأعلى في حكم من عثر فقطع ظفره فجعل على اصبعه مرارة، فقال الامام الصادق (عليه السلام): "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجل، قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه"(7).

فالقرآن إذن - كما يبدو من هذه النصوص وغيرها - ليس كتاب رموز وألغاز بحيث لا يحقّ للناس الرجوع إليه ولا يمكنهم فهمه، وإنّما هو كتاب هداية يفترض في المسلمين التمعن فيه والاهتداء بهديه.


1- سورة النساء: 82.

2- سورة محمد: 24.

3- سورة الأعراف: 204.

4- سورة النمل: 76.

5- صحيح الترمذي: 5/663. والصواعق المحرقة: 147 و 226. وأسد الغابة: 2/12. وتفسير ابن الأثير: 4/113. وغيرها.

6- الخطبة: 196.

7- وسائل الشيعة: 1 327.



يتبع