حين تبدو الأشياء وهمًا، فهل ذلك يعتبر وهمًا أم بصيرة؟ – ترجمة عدنان أحمد الحاجي
?When Things Feel Unreal, Is That a Delusion or an Insight
The psychiatric syndrome called derealization raises profound moral and philosophical questions
المتلازمة النفسية التي تدعى الاغتراب عن الواقع تثير أسئلة أخلاقية وفلسفية عميقة
(بقلم جون هورغان – John Horgan)
هل سبق لك وأن استحوذت عليك الشكوك في أنه لا يوجد هناك شيء حقيقي؟
طالبة في معهد ستيفنز (Stevens) للتكنولوجيا، حيث أدرس هناك [الكلام ل جون هورغان (John horgan)، مؤلف هذه المقالة]، قاست من الشعور بالوهم منذ طفولتها. أعدت مؤخرًا فيلمًا عن هذه المتلازمة في مشروع تخرجها، حيث عملت مقابلات مع نفسها ومع آخرين ، بمن فيهم أنا [لكلام لـ جون هورغان]. “يبدو الأمر وكأن هناك جدارًا زجاجيًا بيني وبين كل شيء آخر” ، [المترجم: الجدار الزجاجي هنا استعارة تعني هناك عائق يمنع من التقدم] تقول كاميل (Camille) في فيلمها الذي سمته “الاغتراب عن الواقع وتبدد الشخصية(1)“.
شاهد “الاغتراب عن الواقع وتبدد الشخصية” [المدة = 9:02 دقيقة]:
فيلم (الاغتراب عن الواقع وتبدد الشخصية2) يشير إلى المشاعر التي مفادها أن العالم الخارجي والذات، على التوالي، غير واقعيَّين. وعند وضع المصطلحين معًا، يعرّف أطباء النفس اضطراب تبدد الشخصية / الاغتراب عن الواقع على أنه “شعور مستمر أو متكرر … الشعور بالوهم أو الانفصال عن الواقع أو بكون الشخص هو مراقِبًا من خارج ذاته لما يتعلق بأفكاره أو مشاعره أو أحاسيسه أو جسده أو أفعاله”. وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية(3). لتبسيط المصطلح، سأشير إلى كلتا المتلازمتين بمصطلح واحد فقط: الاغتراب عن الواقع.
بعض الناس يشعرون بالاغتراب عن الواقع بشكل مفاجيء، والبعض الآخر فقط حين يتعرض لظروف ضاغطة نفسيًا – على سبيل المثال، حين يأخذون اختبارًا أو تُجرى لهم مقابلة للحصول على وظيفة. يوصف أطباء النفس لهؤلاء علاجًا نفسيًا وأدوية، كمضادات الاكتئاب، عندما تؤدي المتلازمة إلى “ضائقة أو ضعف في الأداء في المجالات الاجتماعية أو المهنية أو غيرها من مجالات أداء مهمة من المهمات”.
في بعض الحالات، يحدث اضطراب الاغتراب عن الواقع بسبب مرض عقلي خطير، كالفصام أو مسببات الهلوسة مثل تعاطي ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك (Lysergic acid diethylamide) ويختصر ب (LSD). الحالات الحادة ، التي عادةً يصاحبها تلف في الدماغ ، قد تتجسد على شكل متلازمة وهم كوتار(4)، وتسمى أيضًا متلازمة الجثة السائرة، واعتقاد المُصاب بأنه ميت؛ ومتلازمة كابغراس [Capgras(5)] ، وهي اقتناع المُصاب بأن ما حوله من الناس قد استبدلهم محتالون.
يسعدني أن كاميل لفتت الانتباه إلى الاضطراب ، لأن اضطراب الاغتراب عن الواقع يثير أسئلة فلسفية عميقة. اقترح الحكماء القدامى والمُحْدثون أن الواقع اليومي، الذي نزاول فيه أعمالنا اليومية، هو مجرد وهم(6). شبه أفلاطون تصوراتنا للأشياء بظل على جدار كهف. أما الفيلسوف الهندوسي آدي شانكارا (Adi Shankara) في القرن الثامن أكد أن الواقع المطلق هو مجال وعي أبدي غير متمايز. أما عقيدة أناتا (anatta) البوذية تقول أن ذواتنا الفردية وهمية / غير حقيقية (7).
الشكل: أعرلض تبدد الشخصية / الاغترلب عن الواقع
يفترض الفلاسفة المعاصرون مثل نيك بوستروم (Nick Bostrom) أن كوننا [فضاءنا الزمكاني(8)] هو على الأرجح محاكاة، واقع افتراضي خلقه مخلوق فضائي مكافيء لمخترق مراهق يشعر بالملل. الموقف الفلسفي المعروف باسم الذاتوية (solipsism(9)) يلمح إلى أنك الكائن الوحيد الواعي في الكون؛ وكل من حولك يبدو وكأنه واعٍ فقط(10). كما ذكرت في مقال العمود الصحفي، فإن بعض تفسيرات ميكانيكا الكم تقوض حالة الواقع الموضوعي. هل يمكن أن يكون الاغتراب عن الواقع مصدر إلهام لكل هذه الحدسيات الميتافيزيقية؟
وحدة الأنا
تقترح كاميل أن العديد من الناس يتعرضون إلى نوبات من الاغتراب عن الواقع دون معرفة حقيقتها. الشعور بها يربكك، لذا تقمعها وتنساها، ولا تذكرها لآخرين. توضح كاميل: “تخشى أنك لو أخبرت بها الناس، فلن يعرفوها، ولا تريد أن ينظر اليك على أنك شخص مختلف”. أنا أتفهم ردود الفعل هذه، لأن الاغتراب عن الواقع يمكن أن يكون مقلقًا، بل ومرعبًا.
أخطر نوبات الاغتراب عن الواقع حدثت لي بعد أن تعاطيت مخدرات في عام 1981، مما جعلني مقتنعًا بأن الوجود هو كابوس الحكمة المجنونة(11، 12). على مدى عدة أشهر، شعرت وكأن ما حولي غير ثابت ومهلهل، كشاشة عُرضت عليها صور. كنت أخشى أنه في أي لحظة قد يتلاشى كل شيء ، ويفسح المجال أمام – حسنًا ، لا أعرف ماذا، ومن هنا انتابني الخوف. هذه المشاعر قد فقدت قوتها العميقة، لكن عواقبها الفكرية لا تزال قائمة.
التأمل في الاغتراب عن الواقع يتركني في حالة صراع. لدي هواجس أخلاقية (6) بشأن الادعاء بأن الواقع ليس حقيقيًا(13). هذه التأكيدات، سواء أكانت أفلاطونية أو فرضية محاكاة (14) أو ثايلوجيا الحكمة المجنونة، يمكن أن تصبح بسهولة هروبًا من الواقع (15) وعدمية(16). لماذا علينا أن نقلق بشأن الفقر والاضطهاد وتدمير البيئة والأوبئة والحروب وموارد المعاناة الأخرى إذا كان العالم يُعتبر مجرد لعبة فيديو؟ أرفض أي فلسفة تقوض مسؤوليتنا عن رعاية بعضنا البعض.
ومع ذلك، فقد انتهيت إلى تقدير قيمة الاغتراب عن الواقع باعتباره ترياقًا للتعود(17). أدمغتنا مصممة لإنجاز العديد من المهام وذلك ببذل أقل جهد ممكن بشكل مقصود. نتيجة لذلك، اصبحنا متعودين على فعل الأشياء بلا تفكير؛ نحن نأخذها كأمر مفروغ منه ومسلم به. نصبح كالزومبي (الجثة المتحركة(18) أو آلة ذاتية التشغيل، حين نقوم بأعمالنا المنزلية وعندما نتفاعل مع الآخرين – حتى أولئك الذين يُفترض أننا نحبهم – دون أن نكون ملتفتين التفاتًا كاملًا لما نفعله.
يُعتبر الاغتراب عن الواقع كصفعة على الوجه. يكسر رتابة الحياة ويوقظك. ويذكرك بغرابة العالم والآخرين ونفسك. أعني بالغرابة اللًّانهائية اللااحتمالية وألَّاتعليلية. الغربة تشمل جميع الخصائص ثنائية القطب لوجودنا، وجماله وقبحه، ولطفه وقسوته، وخيره وشره،
ملاحظتنا الغرابة لا تلغي مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه الآخرين. بل على العكس من ذلك. بإبعاد نفسي عن العالم، الاغتراب عن الواقع، للمفارقة، يجعله هذا الإبعاد عن العالم أكثر واقعية. الاغتراب عن الواقع يساعدني على معرفة الإنسانية بشكل أكثر وضوحًا والاهتمام بها بشكل أعمق. ما كان يبدو وكأنه نقمة أصبح نعمة.
هذا ما أقوله لنفسي، على أي حال. آخرون، بمن فيهم من قابلت كاميل لانتاج فيلمها، وكاميل نفسها، يشعرون بالاغتراب عن الواقع بشكل مختلف. كاميل تنظر إلى متلازمة الاغتراب عن الواقع على أنها “طريقة من طرق الدماغ لأخذ قسط من الراحة. فالدماغ يعتقد أنه لا يمكنك القيام بأشياء معينة، وبالتالي يتوقف عن العمل”. لقد تعلمت كاميل أن “مجرد تركها لتلك المشاعر تأخذ مجراها” بدل أن تتصارع معها، فإن ذلك يساعدها على تجاوز نوبات الاغتراب عن الواقع التي تنتابها. أيًا كان ما يعنيه الاغتراب عن الواقع بالنسبة لنا، فنحن نتكيف معه، ونصبح بالتأكيد أفضل حالًا لو استطعنا الكلام عنه بصراحة، كما تفعل كاميل وآخرون في فيلمها الجريء والكاشف.
مصادر من داخل وخارج النص:
1- https://www.mayoclinic.org/diseases-conditions/depersonalization-derealization-disorder/symptoms-causes/syc-20352911
2- “اضطراب تبدد الشخصية هو اضطراب عقلي يشعر فيه الشخص باستمرار أو بشكل متكرر بمشاعر تبدد الشخصية أو الاغتراب عن الواقع. يوصف تبدد الشخصية بالشعور بالانفصال عن الواقع أو الذات. قد يخبر أفراد عن شعورهم كما لو أن هناك مراقبًا خارجيًا لأفكارهم أو أجسادهم، وغالبًا ما يبلغون عن شعورهم بفقدان السيطرة على أفكارهم أو أفعالهم. يوصف الاغتراب عن الواقع بأنه انفصال المرء عن محيطه. قد يخبر الذين يعانون من الاغتراب عن الواقع بإدراكهم للعالم من حولهم على أنه ضبابي، أو يشبه الحلم / سريالي، أو يُعتقد أن اضطراب الاغتراب عن الواقع وتبدد الشخصية ناتج إلى حد كبير عن الصدمات الشخصية كإساءة معاملة الأطفال. ربطت تجارب الطفولة المبكرة السلبية – وخاصة الإساءة العاطفية والإهمال – بتطور أعراض اضطراب تبدد الشخصية. قد تشمل المسببات التوتر الشديد ونوبات الهلع وتعاطي المخدرات” ، مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/اضطراب_تبدد_الشخصية
3- http://traumadissociation.com/depersonalization
4- “متلازمة وهم كوتار، أو متلازمة كوتار، أو متلازمة الجثة المتحركة أو متلازمة الجثمان السائر (Cotard delusion) هي اضطراب نفسي نادر يتوهم المصاب به بأنه ميِّت (مجازيًّا أو حرفيًّا)، أو غير موجود، أو متعفن أو فقد دماءه أو أعضاءه الداخلية. وفي حالات نادرة يتوهم المصاب بالخلود. تحدث متلازمة الجثمان السائر عادةً للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية أخرى مثل الفصام أو الاضطراب ثنائي القطب، وفي بعض الأحيان جرّاء صدمات نفسية أو إصابات جسدية كحوادث السير وغيرها” ، https://ar.wikipedia.org/wiki/متلازمة_وهم_كوتار
5- “وهم كابغراس أو وهم كابغرا (Capgras delusion) أو متلازمة كابغراس هو اضطراب يصاب به الشخص بحيث يتوهم أن صديقه أو زوجته أو والديه أو أي شخص قريب من العائلة (أو حيوانه الأليف) استبدلهم شخص محتال بما يشبههم في المظهر. يصنف مرض وهم كابغراس من متلازمة عدم التعرف الوهمية وهي نوع من المعتقدات الوهمية والتي تتضمن عدم التعرف على الأشخاص أو الأماكن أو الأجسام (عادة غير المقترنة ببعضها). قد يكون حاداً أو مؤقتاً أو مزمناً” ، مقتبس من نص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/وهم_كابجراس
6- https://www.scientificamerican.com/article/im-agonizing-over-my-naive-realism/
7- https://ar.wikipedia.org/wiki/أناتا
8- https://ar.wikipedia.org/wiki/الكون
9- “وحدة الأنا و تُعرف باسم الذاتوية هي فكرة فلسفية تقول بأنه لا وجود لشيء غير الذات أو غير الأنا أو لا وجود حقيقي إلا لعقل الفرد وهي موقف معرفي يقول بأن المعرفة المتعلقة بأي شيء خارج عقل الإنسان غير مؤكدة، وأنه وفق هذه الرؤية المعرفية لا يمكن معرفة العالم الخارجي والعقول الأخرى، بل إنها قد لا توجد البتة خارج عقل الإنسان، وكنظرة ميتافيزيقية تجنح الذاتوية إلى القول بأن العالم الخارجي والعقول الأخرى غير موجودة، وبهذا يكون هذا الموقف المعرفي بادعائه نفسه غير قابل للنقض كما أنه غير قابل للاثبات في نفس الوقت” ، مقتبس من نص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/وحدة_الأنا
10- https://www.scientificamerican.com/article/how-do-i-know-im-not-the-only-conscious-being-in-the-universe/
11- https://en.wikipedia.org/wiki/Divine_madness
12- https://blogs.scientificamerican.com/cross-check/what-should-we-do-with-our-visions-of-heavenand-hell/
13- https://www.scientificamerican.com/article/quantum-mechanics-platos-cave-and-the-blind-piranha/
14- “فرضية المحاكاة أو نظرية المحاكاة هي فرضية تقول بإمكانية أن الواقع الذي نعيشه – بما في ذلك الأرض وبقية الكون- في الحقيقة محاكاة اصطناعية مثل محاكاة الكمبيوتر. تعتمد بعض اتجاهات النظرية على تطوير تقنية محاكاة للواقع يمكنها إقناع سكانها بأن المحاكاة كانت «حقيقية». تحمل فرضية المحاكاة تشابهًا وثيقًا مع العديد من السيناريوهات السفسطائية الموجودة في تاريخ الفلسفة. نشرت الفرضية في شكلها الحالي من قبل نيك بوستروم. ويُعتقَد بأن القول بتوافق الفرضية مع جميع تجاربنا الإدراكية له عواقب معرفية كبيرة تأخذ شكل سفسطة فلسفية. ظهرت نسخ من الفرضية أيضًا في الخيال العلمي، حيث ظهرت كحبكة مركزية في العديد من القصص والأفلام..” ، مقتبس من نص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/فرضية_المحاكاة
15- “الهروب من الواقع (escapism) هو تجنب مواقف الحياة غير السارة أوالمملة أوالشاقة أوالمخيفة. ويمكن أيضا أن يستخدم كمصطلح لتعريف الإجراءات التي يتخذها بعض الناس لتساعدهم في تخفيف الشعور المستمر بالاكتئاب أو الحزن العام” ، مقتبس من نص ورد على هذا العنوان: https://ar.wikipedia.org/wiki/هروب_من_الواقع
16- “العدمية (nihilism) هي فلسفة، أو مجموعة من الآراء داخل الفلسفة، ترفض الجوانب العامة / الأساسية للحياة وللوجود البشري، مثل الحقيقة الموضوعية أو المعرفة أو الأخلاق أو القيم أو المعنى. تؤمن الافتراضات العدمية المختلفة أن القيم الإنسانية لا أساس لها من الصحة، وأن الحياة لا معنى لها، وأن المعرفة مستحيلة، وأن مجموعة من الكيانات لا وجود لها أو لا معنى لها أو لا هدف لها” ، مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/عدمية
17- https://ar.wikipedia.org/wiki/اعتياد
18- https://ar.wikipedia.org/wiki/زومبي
المصدر الرئيس:
https://www.scientificamerican.com/article/when-things-feel-unreal-is-that-a-delusion-or-an-insight/
الأستاذ عدنان أحمد الحاجي