الدرس الثاني
3 - عوامل نشوء هذا العلم

نستطيع أن نلخّص العوامل التي أوجبت نشوء هذا العلم وتطوُّر البحث في ذلك بما يلي: -

1- فضل القرآن وقدسيته في نفوس المسلمين، فهو الثقل الأكبر والكتاب الذي أوصى به النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمّته، فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة في ضرورة تقديسه وتنزيهه عن كل ما لا يليق بشأنه، وكذلك الحث الأكيد على قراءته وفهمه والتدبّر فيه وحفظه.

2- عمق القرآن الكريم وتنوع أبحاثه، ممّا أوجب اهتمام العلماء بدراسته دراسة معمّقة ومفصّلة سواء ما يرتبط بألفاظه وأسلوبه أم ما يرتبط بمدلولاته ومضمونه (ظاهره أنيق وباطنه عميق) - كما جاء في الحديث -.

3- كونه معجزة الإسلام الخالدة ممّا أوجب اعتزاز المسلمين به وانشدادهم نحوه، وبالمقابل صار هدفاً لشبهات أعداء الإسلام الذين يرومون الطعن بالإسلام، هذا الصراع حوله أوجب أن يكون محطّ أنظار العلماء والباحثين وتوجّههم إليه مما ساهم في توسّع الأبحاث المرتبطة به كالتفسير وعلوم القرآن.

4 - تضمّنه لأهم معالم الدين الإسلامي وأُسسه وتشريعاته، فهو يتحدث عن اصول العقيدة التي نادى بها الإسلام، كما يتضمّن معالم الأطروحة الإسلامية لرقي الإنسان وتهذيب نفسه وإصلاح مجتمعه، بالإضافة الى جملة وافية من التشريعات الإسلامية المتنوعة.. الى غير ذلك من المواضيع الهامة التي تهم المسلم.

فهو كتاب حيوي مقدس لدى المسلمين، ولذلك ورد الحث على قراءته والتدبر فيه، بل اعتبره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) الثقل الأكبر الذي خلّفه ويطالب به أمّته، كما جاء في حديث الثقلين.

5- عدم اشتماله على أسماء أو مواقف محدّدة صريحة، ولذلك ورد عن الإمام علي (عليه السلام): "هذا القرآن إنّما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان، وإنّما ينطق عنه الرجال"(1). وفي وصيته لابن عباس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون"(2).

هذه الميزة في القرآن جعلته في مأمن من كيد السلطات الجائرة المتعاقبة، فلم يقفوا أمام اندفاع المسلمين نحوه والباحثين به، ولم يواجهوه بما واجهوا به أهل البيت(عليهم السلام) - الثقل الآخر - وشيعتهم من العنف والقسوة.

خصائص القرآن

الخاصة الأولى: الشمولية

عندما نتحدث عن شمولية القرآن لا نعني انّه فهرسة للعلوم المختلفة، وإلاّ لأوجب ذلك إماتة روح الإبداع في الإنسان في هذه الحياة الدنيا التي ابتنت على الكدح وبذل الجهد والإبداع.

بل نقصد أنّه يتناول كل جوانب الحياة التي تحيط بالفرد والمجتمع، ولا يقتصر دوره على جانب معيَّن منها فهو كتاب شامل في تعاليمه ومحتواه أو فلنقل ليعزز جهود الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) في أدائه لهذا الدور، بتوجيه الأمّة وارشادهم الى ما يضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة.

ولذلك فمن الطبيعي أن يشتمل على مختلف الأمور التي تكون فاعلة في إصلاح الأفراد والمجتمع، ولم يقتصر على جانب واحد منها.﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(3) فالقرآن قد احتوى على كل ما يهم المسلم بإطاره العام وهو:

1- أصول العقيدة الإسلامية من التوحيد والنبوة والمعاد والإمامة والولاية، وغيرها من المسائل الاعتقادية الأخرى، كالقضاء والقدر والعرش وغير ذلك...

2- الجانب التربوي وما يرتبط به من سمو الاخلاق وتهذيب النفوس.

3- مجموعة من الأحكام الشرعية والقوانين التي تنظم سلوك المسلم وعلاقاته كفرد، والمسلمين كمجتمع، كما أشار الى اتّباع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وولاة الأمر الذين يحدّدون باقي التفاصيل.

وهذا هو مانعنيه من شمولية القرآن.

إضافةً لذلك نرى أنّ القرآن قد تصدّى لمهمة أخرى وهي جذب الناس وترغيبهم فيما يصلحهم، ولم يقتصر دوره على سرد مقوّمات الإصلاح ضمن مواد قانونية جافة ومحدودة التأثير بل تضمن أرقى الأساليب البلاغية وأكثرها تأثيراً في النفس، ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾(4).


1- نهج البلاغة، الخطبة: 125.

2- نهج البلاغة، الخطبة: 316.

3- سورة الإسراء: 9.

4- سورة الحشر: 21.


الدرس الثالث
الخاصة الثانية: إعجاز القرآن

عندما نتحدّث عن انتساب أثر أو كتاب لشخص نعتمد على الدلائل التي تشهد لهذا الانتساب، وكذلك القرآن الكريم نعتمد في نسبته لله تعالى على مجموعة من الأدلة والقرائن، وتعتبر أكثرها شواهد على إعجازه، نذكر منها:

1- انسجام مضمونه ورسالته مع صراط الله القويم المنسجم مع كماله المطلق، فعندما نراجع القرآن الكريم نجده يصب في هذا الاتجاه، فهو بين تمجيد وتوحيد لله تعالى واستعراض صفات كماله، ومنّه، ولطفه بعباده، وبين دعوة الناس بمختلف أساليب الترغيب والترهيب الى صلاح أنفسهم ومجتمعاتهم، وبين رسم الخطوط التشريعية العريضة وأحياناً التفصيلية - لحكمة أو ظرف خاص - المنسجمة مع الفطرة والطبيعة البشرية لتعين الإنسان في مواجهة الظروف التي يواجهها خلال مسيرة حياته.

فكلّ إنسان لو تأمل وسرحت مخيلته فتصور أنّ الله تعالى بعث رسولاً للبشر فماذا ينتظر من هذا الرسول؟ هل يتوقع من هذا المبعوث الإلهي مفهوماً أو ارشاداً أو مشروعاً يصطدم بتعاليم القرآن؟

حبذا لو تفرغ أحدنا - في سبيل عقيدته - وتأمل مع نفسه قليلاً حول النهج القرآني، ألا يجده دليلاً كافياً على انتساب هذا الكتاب الكريم لله الحكيم العليم الرؤوف الرحيم؟ ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ﴾(1)، هب انّ صياغة هذا الدليل قد لا تكون صياغةً جدلية تسكت الخصم المجادل لكنّا في عقيدتنا لا نتقيّد بأدلة مجالس الجدال والمخاصمة - رغم أهميتها - فما أكثر الخيارات المصيرية التي نختارها اعتماداً على قناعاتنا الخاصة المدعومة بالوجدان أو الفطرة أو الحدس الدقيق أو ما شئت فقل.

2- قمة البلاغة باعتراف العرب المعاندين له رغم إبداعهم في هذا الجانب، وتأكيداً لصحة هذه الدلالة نلاحظ أنّ التحدي القرآني كان في مكة حيث كان المسلمون أقلية مضطهدة وكان هناك قلق كبير ينتاب كبار قريش من دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فلو كان بإمكانهم التحدي لواجهوا نداء القرآن ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾(2). و﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ﴾(3).

وروى المؤرخون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما اُنزل عليه ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾(4) قام إلى المسجد يقرؤها والوليد بن المغيرة قريب منه فلما فطن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: والله، لقد سمعتُ من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإن اعلاه لمثر (لمثمر) وإن اسفله لمُغدق وإنه ليعلو وما يعلى (عليه)(5).

وقد أشار الكتّاب والباحثون الى جوانب متعددة في الفصاحة والبلاغة تميّز بها القرآن نشير الى بعضها:

أ: الإيقاع الموسيقي المتميز المتعدد الأنواع والمتناسق مع الجو -كما عن الموسيقار المعروف محمد حسن الشجاعي- أو الموسيقى الباطنية كما يقول الأستاذ مصطفى محمود.

ب: انّه بيان على قدر الحاجة، يقول ابن عطية: (لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد).

ج: انّه لا يخلق عن كثرة الرد وطول التكرار...، كما أشار إليه كلام الإمام علي (عليه السلام).

د: الروحانية العالية فيه، هذه الروحانية التي تنفذ الى عمق سريرة الإنسان وتهزّ وجدانه(6)، حتّى ان كثيراً من اسرى الحضارة المادية المعاصرة آمنوا بالاسلام تأثّراً بهذه الروحانية.

3- عدم تطور أسلوبه خلال 24عاماً، هي فترة نزوله، وهو أمر لا ينسجم مع طبيعة الإنسان التكاملية، ولذا نلاحظ الفارق الشاسع في المستوى الفني للشعراء والأدباء عندما نقارن بين بداية نتاجهم الأدبي ومرحلة تكاملهم، بينما لا نجد هذا التكامل في القرآن فلا نجد تطوراً في السور المدنية عن المكية من ناحية الأسلوب والفصاحة والبلاغة.

ويمكن أن نضيف الى هذه النقطة أنّا لا نجد في القرآن تذبذباً في الأسلوب ولا ضعفاً في بعض سوره وآياته، مكيّة كانت أم مدنية، وهذا أيضاً مخالف للطبيعة البشرية المتأثرة بعوامل عديدة تنعكس على نتاجها، خاصة الحس الأدبي والبلاغي المرهف الذي يتأثر بأدنى سبب.

4- من المعروف أنّ سمات ودلائل النبوغ تظهر لدى الشخص في سني حياته الأولى وبدايات الشباب، فلو كان القرآن من إنشاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لظهرت عليه دلائل هذا النبوغ في بدايات حياته واهتم به قومه وتحدّث به العرب لاهتمامهم بهذه الظاهرة، خاصة ان سوق عكاظ كان في مكة مأوى الحجيج، ولاكتسب (صلى الله عليه وآله وسلّم) مكانةً مرموقةً بين قومه وافتخر به أهله وعشيرته، وانهالت عليه الهدايا والعطاءات، خصوصاً مع ما عرف عن كفيله أبي طالب من الفقر والضيق المادّي.

ولعل الآية الكريمة تشير الى ذلك بقولها: ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(7).


1- سورة يونس: 37.

2- سورة هود: 13.

3- سورة يونس: 38.

4- سورة غافر: 1 - 3.

5- يراجع مجمع البيان: 10 854.

6- يراجع تلخيص التمهيد: 2 26 ومابعدها.

7- سورة يونس: 16.