الدعاء تعبير طبيعي عن إحساس نفسي وشعور حي لدى الإنسان، الذي يدرك وجود حقيقتين في حياته: الله، والإنسان، ويدرك النسبة الحقيقية بين الوجودين:
وجود الله الذي هو مصدر الغنى والكمال والإفاضة في هذا العالم .
ووجود الإنسان الذي هو وعاء الفقر والحاجة والمسكنة، المتقوّم بالإفاضة والعطاء المستمر .
فهذا التصوّر للعلاقة الحقيقية بين الوجودين، وجود إلهي، هو المبدأ والمصدر في إيجاد الإنسان ، وإفاضة الخير والرحمة والبقاء عليه، ووجود إنساني صادر عن ذلك المبدأ، ومتعلّق به، ومتوقّف عليه، ومتوجّه نحوه دوماً لطلب الإفاضات والكمالات، التي تسدّ نقص الوجود الإنساني، وتغني فقره وحاجته في كل شيء، في استمرار بقائه، في استقامة حياته، في رقيّه وتكامله، في اصلاح نفسه ومدّه بحاجاته، في إعانته على مشاكله ومصاعبه، في إنقاذه وخلاصه، فإنّ هذا التصوّر هو الذي يفرض هذه العلاقة، وينتج هذا الشعور الذي يقود إلى توجّه النفس البشرية إلى مبدئها الذي يهبها ويمنحها ما يوفر لها كمالها، ويحفظ وجودها، ويسدّ فقرها .
ولا يتوقف الإحساس بالحاجة والشعور بالحيرة والرغبة في التوجّه إلى قوّة تساعد الإنسان على الانقاذ والخلاص، على المؤمن وحده، بل هو إحساس بشري عام، يستوي فيه المؤمن بالله والكافر به، إلاّ أنّ الناس ليسوا سواء في تفسير هذا الإحساس، وتوجيه الشعور وجهته الفطرية، رغم إحساس الجميع به، وشعورهم بضغطه، فما من إنسان إلاّ وينتابه العجز، والحيرة، ويشعر بالضيق، ويحس بالحاجة إلى قوّة تسعفه، وتنقذه من محنته وحيرته، وتقطع يأسه وشعوره بالعجز والضياع في هذا العالم .
وعند هذا الحد، من الإحساس المشترك بين أفراد النوع الإنساني، يبدأ الافتراق بين المؤمن بالله والكافر به .
فالمؤمن يعرف مصدر توجّهه، ومبدأ حياته، وهو الله سبحانه، فيتوجّه إليه بروح مؤمنة، مملوءة بالأمل والثقة والرجاء، في حين يظلّ نقيضه الكافر بالله، يعيش حالة من الحيرة والضياع، والبحث غير المجدي، وهو يعيش الإحساس ذاته، ولكن لا يدري إلى أين يتوجّه، لا يعرف الجهة التي تبث هذا الإحساس والألم، ولا يستطيع اكتشاف الرحمة والحنان، الذي يغمر عوالم الوجود، ويتّسع للتجارب مع هذا الإحساس، لذلك فهو يحمل هذا الإحساس بين جنبيه وخزات تباعد بينه وبين الاستقرار والطمأنينة، ويأساً يسد أمامه منافذ الرجاء والخلاص، رغم كل القدرات المادية المتوفرة لديه، ورغم ظنّه انُه مستغن عن الله، مكتف بما عنده هو .
فهو يظلّ يعيش حاجة التوجّه واللّجوء إلى الله، رغم جهله به، واستكباره وغروره الذي قاده إلى جحيم اليأس والمعاناة، فثغرة الإحساس بالحاجة، وتوجّه النفس الفطري في هذه الحالة نحو جهة الغنى والإفاضة، يشكّل قانوناً طبيعياً لحركة النفس، وكيفية تصرفها في لحظات الضيق والشدَّة .
ولو أُخذ الدعاء ـ العبادة التي تصل الإنسان بالله ـ ودُرِسَ دراسة تحليلية واعية، لاستقصاء أغراضه، واستكشاف مردوداته النفسية والاجتماعية، والوقوف على آثاره التغييرية والتكاملية في النفس البشرية، لما ترك الدعاء مؤمنٌ بالله، ولما أورد ملحد شبهة عليه .
فالنفس البشرية ذات الأبعاد المختلفة والأعماق والأغوار المعقّدة الغامضة، لا يمكن ملؤها بالحاجات المادية وحدها، مهما يغالي الإنسان في الإشباع المادي، ويتمادى في توفير الحاجات والمطالب الحسيَّة .
والإنسان بطبيعة تكوينه، وحقيقة وجوده، يتعرّض في حياته لمشاكل، ونكبات، وآلام، وإحساس بالخيبة، وقصور عن الأهداف .
فليس كل شيء في هذه الحياة يتحقق للإنسان كما يريد، ولا كل شيء يجري وفق مشيئته، وبذا تبقى الحاجة قائمة، والرغبة غير مشبعة، والشعور بالحاجة متعاظماً في نفس الإنسان، والتوتر مستمراً بين ذاته، وبين الواقع المحيط به .
وتلك حكمة الله الخبير في الخلق، جعل كل ذلك، لئلا يشعر الإنسان بالاستغناء والطغيان، وليبقى مرتبطاً بخالقه، متوجّهاً إليه، ساعياً نحو الكمال، لإحساسه العميق بوجود الهّوة بينه وبين هذا الكمال المنشود، لأنّ الشعور بالاستغناء موت وانتحار لكل قوى الإنسان ، وسبب في الطغيان والعدوان والتباعد عن الحق والخير:
(كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/6-7).
لأنّ للحاجات، وللآلام والشدائد التي يمرّ بها الإنسان ، من ضعف وفشل في الحياة، ومرض، وقصور عن بلوغ الغايات، آثاراً تكاملية، ومردودات إصلاحية على النفس البشرية، تساعد الإنسان على اكتشاف ذاته، ومعرفة قانون الاتزان، وتشخيص الحدّ الطبيعي الذي يجب أن يلتزم به في نظرته إلى الأمور وتقويمها، وفي سلوكه مع الآخرين، وموقفه منهم .
لذا جُعِلَ الدعاء في الإسلام وسيلة لربط الإنسان بالله، والتوجّه إليه، والاعتراف بين يديه بالذنوب والجرائم، وإظهار حاجة الإنسان وفقره، وضراعته، ورغبته في اصلاح نفسه، وإنعاش حياته، لكسر كبرياء الإنسان، وتعريفه بحقيقة ذاته، وإشعاره بضعفه، وبحاجته إلى خالقه في الخلق والإيجاد والإمداد بضرورات البقاء، ليبني ضمن هذه النظرة مفهومه عن الإنسانية جميعها، وليضع نفسه ضمن هذا المفهوم، فيعي وجوده، وعلاقاته، وقيمته، من خلال هذا التوجّه والارتباط بالله، بعيداً عن الكبرياء والطغيان والعدوان .
لذا نشاهد انسحاب هذا الأثر الإيماني على سلوك الإنسان المؤمن ظاهراً وواضحاً، فهو إذا أحسّ بالحاجة لجأ إلى الله، واثقاً بحسن إجابته، وإذا أساء واقترف السيئات، لجأ إلى الله يدعوه ويستغفره، ويعترف أمامه بذنوبه، ليريح نفسه، ويفرغ وجدانه من الألم وعذاب الضمير، فيجدد العهد على الاستقامة ويبدأ السير على هدى الله، وتحت ظلال عفوه ورحمته، فهو بهذه المصارحة، وبث الشكوى والأحزان بين يدي الله ينقذ نفسه من الكبت والآلام التي لا يمكنه الإباحة بها إلى أحد غير الله، فيتعرّض للفضيحة والانكشاف الذي يخشاه ويخافه .
لذا فهو يفرغها بالبراءة والاستقالة منها، وبالاعتراف بها .
وكم يكون هذا الإنسان سعيداً عندما يقف بين يدي الله العظيم، وهو يحسّ بكل دوافع الإحساس الصادق، أنّ الله يغفر له ذنبه، ويقبل توبته، وأن طريق العودة مفتوح أمامه، وأن الذي يسأله العطاء والعون هو القادر على تلبية طلبه، ومساعدته على الخلاص من محنته وشدّته، فتعود إلى نفسه الطمأنينة، ويحلّ الرجاء والرضى، بدل اليأس والسخط والقنوط .
والإنسان بدعائه ووقوفه بين يدي الله، يعاهده على الصدق في الاستقامة، والالتزام بالسلوك الخيّر، والإقلاع عن الجرائم والآثام، فهو بهذه الوقفة التي تكون فيها النفس في حالة صحو وجداني، واستعداد للتلقّي والقبول الايحائي الخيّر الذي يردّده بعبارات الدعاء، إنما يشهد على نفسه، ويحاول الانسحاب من عبثيته، وإعادة تنظيم ذاته، وبناء شخصيته، بالعمل على ردّها عن طغيانها، وصدّ خروجها عن الحدّ الطبيعي الذي تبتلى به .
وبذلك يعمل على حذف التعدّي والطغيان، ويتجه نحو طلب الكمال والاستقامة، والسعي تجاه السمو الأخلاقي، الذي يستوحيه من فيوضات الخير والكمال الإلهي .
فيحقق بهذا الاتجاه الذي يصدر عن رغبة، وتوجّه صادق، اتزان القوى النفسية، وتنظيم سير حركتها .
وإذا شئنا أن نقف على نموذج من المناجاة التي تسري بالنفس الإنسانية في مسارب النور والكمال، فلنقرأ هذا الدعاء للإمام علي بن الحسين السجّاد(عليه السلام) وهو يناجي ربّه كأفضل ما يكون المناجي في الوعي والمعرفة والإقبال:
(اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وبلّغْ بإيماني أكمل الايمان، واجعلْ يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الاعمال .
اللّهمّ وفّر بلطفك نيّتي، وصحّح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد منّي .
اللّهمّ صلِّ على محمد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له، واغنني واوسع عَليّ في رزقك، ولا تفتنّي بالنظر، وأعزّني ولا تبتلني بالكبَر، وعبِّدني لك، ولا تفسد عبادتي بالعجب، وأجْرِ للناس على يديَّ الخير، ولا تمحقه بالمنِّ، وهبْ لي معالي الاخلاق، واعصمني من الفخر .
اللّهمّ صلِّ على محمّد وآله، ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تُحدِث لي عزّاً ظاهراً إلاّ أحدثتَ لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها .
اللّهمّ صلِّ على محمد وآل محمد، ومتّعني بهدىً صالح لا أستبدل به، وطريقة حقّ لا أزيغ عنها، ونيّة رشد لا أشُك فيها، وعمِّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فاذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك، قبل أن يسبق مقتُك إليَّ، أو يستحكم غَضَبُكَ عَليَّ .
اللّهمّ لا تدع خصلةً تُعابُ منّي إلاّ أصلحتها، ولا عائِبَةً اُأنَّبُ بها إلاّ حسَّنْتَها، ولا اكرومةً فيَّ ناقِصَة إلاّ أتممتَها .
اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وابدلني من بغضة أهل الشنآن المحبّة، ومن حسد أهل البغي المودّة، ومن ظنّة أهل الصلاح الثقة، ومن عداوة الأدنين الولاية، ومن عقوق ذوي الأرحام المبرة، ومن خذلان الأقربين النصرة، ومن حبّ المدارين تصحيح المقة، ومن ردّ الملابسين كرم العشرة، ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الامنة.
اللّهمّ صلِّ على محّمد وآله، واجعَل لي يَداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندَني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرةً على من اضطهدني، وتكذيباً لِمَن قصبني، وسلامةً مِمَّن تَوعَّدني، ووفّقني لطاعةِ مَن سَدَّدني، ومتابعة مَن أرشدني .
اللَّهمّ صلّ على محّمد وآله، وسددني لأن أعارض من غَشَّني بالنصح، واجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، واكافي من قطعني بالصلة، واُخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن اشكر الحسنة، واغضي عن السيئة .
اللّهمّ صلّ على محّمد وآله، وحلِّني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتّقين، في بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة، وضمّ أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وإفشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة، وخفض الجناح، وحسن السيرة، وسكون الريح، وطيب المخالقة، والسبق إلى الفضيلة، وإيثار التفضّل، وترك التعيير، والافضال على غير المستحق، والقول بالحق وإن عزّ، واستقلال الخير وإن كثر، من قولي وفعلي، واستكثار الشرّ وإن قلّ من قولي وفعلي، وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة، ولزوم الجماعة، ورفض أهل البدع، ومستعملي الرأي المخترع .
اللّهمّ اجعل ما يلقي الشيطان في رَوعِي من التمَنّي، والتظنّي والحَسد، ذكراً لعظمتك، وتفكّراً في قدرتك، وتدبيراً على عدوّك، وما أجرى على لساني من لفظة فحش، أو هجر، أو شتم عرض، أو شهادة باطل، أو اغتياب مؤمن غائب، أو سبّ حاضر، وما أشبه ذلك، نطقاً بالحمد لك، وإغراقاً بالثناء عليك، وذهاباً في تمجيدك، وشكراً لنعمتك، واعترافاً باحسانك، وإحصاءً لمننك)(1) .
فمثل هذه العبارات والألفاظ يكرّرها الداعي وهو مستغرق في الاخلاص، مستوعب في التوجّه إلى الله سبحانه، متفاعل مع هذه الافكار والمفاهيم التي يرددها بوعي وانشداد لها، يرددها فتثمر في
أعماقه إيحاءاتها، وتنمو في ضميره معانيها وملقياتها، يردّدها وهو واقع تحت تأثير هذا الجوّ الروحي، البعيد عن كل ممارسات الحياة التي قارف بها المعاصي، أو أوقع في ظلّها دنس الآثام، فتكون تلك الصورة الاخلاقية التي يرسمها بوعيه وروحه من خلال المناجاة والاشواق الروحية والاخلاقية التي تعتلج في نفسه لحظة المثول بين يدي الخالق العظيم، تكون تلك الصورة، أو الصيغة الإنسانية المثلى هي غايته التي يرجو الوصول إليها، وأهدافه التي يروّض نفسه على الالتزام بها .
لذا فأنّ الدعاء يفقد معناه عندما تتحول المناجاة إلى عبارات ميّتة جوفاء، وصيغ خاوية مفرغة من صدق الإحساس، ووعي الانفعال، وصفاء التأمل، بعيدة عن الاخلاص والالتزام بما يدعو الإنسان بالتوفيق إليه . وللدعاء بعد ذلك دوره الفعال في تنمية مشاعر الحب، وإخصاب روح الإحساس بجمال الخير، الذي لا يستغني الإنسان عنه في حياته، لأنّ الجوّ العبادي والبث الروحي الذي يخلقه الدعاء يساهم في بناء أخطر جوانب النفس الإنسانية، وأكثرها أثراً في حياة الإنسان ، وهو الجانب الذي يفيض اشباعه على النفس الإنسانية أحاسيس الرضى والشعور بالمتعة والنشوة الروحية .
فالدعاء سانحة روحية يستقبل فيها الإنسان عبقات الحب والإحساس بالجمال الإلهي الذي يستشعره الداعي بانفتاح الروح، وامتداد آفاق الوعي، وتمحّض صفاء النفس، ليعانق المؤمن أسعد لحظات الاستمتاع الروحي، والشعور بالسعادة التي مابرح غيره يبحث عنها في وسائل الاشباع المادي وأساليب التعبير المنحرف، كالرقص والغناء ووسائل الطرب، وغيرها من الأدوات الإنسانية التي تستعملها الحضارة الجاهلية في التعبير عن أحاسيس الإنسان وأشواقه الجمالية وتوجهاته النفسية والعاطفية . هذه الأدوات التي تسلك بالنفس الإنسانية طريق الانتكاس والانقلاب الغائي الذي يشوه جمال الروح ويذيب مشاعر الاستقرار والطمأنينة بتأليب محفّزات الغريزة، وتحريك الانفعال الغريزي الاعمى، فالانتهاء إلى حالة من التوتر والاضطراب النفسي والعصبي لدى الإنسان .
وتشكل هذه المحاولات البائسة التي تتشبّث بها الحضارة المادية إحدى المحاولات التي تستهدف ملء فراغات الحس الجمالي، والحب الروحي في النفس البشرية التي ما زالت حاجة بلا إشباع، وتوجهاً بلا تحديد هدف .
ومن يتأمل في نصوص الادعية الواردة على لسان الانبياء في القرآن الكريم، وفي المأثور من دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، يستشعر أهمية الدعاء وقيمته الفكرية والروحية والنفسية التي تأخذ طريقها في حياة الإنسان ، لتنصب سلوكاً ومواقف إنسانية في محيط الفرد والجماعة البشرية .
وبالتأمل في المأثور عن أهل البيت (عليهم السلام)، بما بين أيدينا من أدعية ومناجاة ندرك أنّ هذه المدرسة الإسلامية اتخذت طابعاً خاصاً في الدعاء والمناجاة فصارت منهجاً للاخلاق والعقيدة والمفاهيم والسلوك .
وباستقراء وتحليل ما ورد عنهم من أدعية ومناجاة نستطيع أن نكتشف البعد الفكري والهدف التربوي والمعاني الفكرية والتربوية الآتية:
اولاً: التعريف بالعقيدة، وعرض مفاهيمها، وتركيز مبادئها في النفوس، كالتوكل، والشكر والتقديس، والتعريف بالله تعالى، وبصفاته، وعظمته، ومحاولة شدّ المسلم بكل وجوده واتجاهه إلى الله سبحانه .
ثانياً: تربية الضمير، وذلك بتنمية الإحساس بالخطأ، والاعتراف بالذنب، مع توفير جَوّ يُشْعِر بالراحة والتخلص من التبعات، بالاستغفار والضراعة إلى الله، وطلب الاستقامة والتسديد منه تعالى .
ثالثاً: تربية الاخلاق، وتقويم السلوك وتنمية مشاعر الحب والخير في النفس الإنسانية .
وهكذا نشاهد أصالة الروح الإسلامية ونقاءها تبرز واضحة في أدعية أهل البيت (عليهم السلام) ومناجاتهم الكثيرة، التي فاضت بها كتب الادعية والمناجاة المأثورة عنهم، وهي ترسم صورة وعيهم، وعمق فهمهم للإسلام، فكان دعاؤهم (عليهم السلام) رشحات نفوسهم، وإشعاع وعيهم، وعطاء ذواتهم .
وكان دعاؤهم (عليهم السلام) ثروة فكرية وروحية بين يدي الاجيال المسلمة، ودعوة أخلاقية وتربوية رائعة تستهدف بناء الشخصية المسلمة، وتتوخّى شرح فكرة الإيمان، بنقائها وأصالتها القرآنية السليمة .
شروط استجابة الدعاء
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). (البقرة/186)
(وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء/32).
(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (الأنبياء/76).
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء/83-84).
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/87-88).
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء/89-90).
عن الإمام الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص):
( الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض) (2)
وقال (ع):
( يا ميسر (3) : ادع ولا تقل: أنّ الأمر قد فرغ منه، إنّ عند الله عزّ وجلّ منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أنّ عبداً سدّ فاه ولم يسأل، لم يعط شيئاً، فسل ُتعط،َ يا ميسر، أنّه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه ) (4)
بالتأمل في هذه النصوص، وتقصّي أبعادها، والربط بين مفاهيمها، نستنتج جملة من الأفكار والمفاهيم الرئيسية حول قيمة الدعاء، وأهميته في الإسلام، فالآيتان – الأولى والثانية – قرّرنا مشروعية الدعاء والحثّ عليه، كما أشارت الآيات الأخرى التالية لها إلى نماذج من دعاء الأنبياء ومناجاتهم، واستجابة الله سبحانه لدعائهم، وانضمت إلى هذه المجموعة من الآيات الكريمة إضمامة من الأحاديث الشريفة، فزادت الفكرة وضوحاً، والمفهوم رسوخاً.ومن ضم هذه النصوص بعضها إلى بعض الآخر، ومحاولة دراستها والتأمل في مداليلها نستنتج:-
أولاً: إنّ الدعاء عبادة يتعبد بها الإنسان المسلم، ويتقرب بها إلى الله سبحانه.
فقد ورد في الحديث الشريف:
( أفضل العبادة الدعاء ) (5).
( وأحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ في الأرض الدعاء ) (6).
ثانياً: إنّ الدعاء تعبير عن إيمان المسلم، واقراره بأنّ الله هو خالق كل شيء، وهو مالك كل شيء، ومنه كل نعمة يتمتع بها الإنسان، فإليه يتّجه، ومنه يسأل، وبه يستعين، لذا كان الاستمرار على الدعاء يشكّل تأكيداً لتقرير حقيقة هامة في نفس الإنسان المسلم ، وهي فقره إلى الله، وعدم استغنائه عنه:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/15).
فتنمية الإحساس بالفقر إلى الله غاية تعبدية يستهدفها الدين بذاتها، ويتعبد الإنسان بها.
إلا أنّ هذا المفهوم والإحساس بالفقر المطلق إلى الله لا يقف عند هذا الحد التعبدي، بل وتترشح منه آثار ومردودات أخلاقية، تساهم في تصحيح الجنوح الاخلاقي واقتلاع جذور الغرور والكبرياء من
الأعماق الإنسانية، باشعار الإنسان بفقره إلى الله سبحانه- مصدر الخير والعطاء في هذا الوجود – بما فيه: من حياة، وموت، وصحة، وقوة، ومال، وسلطان، وعلم …الخ.
ثالثاً: إنّ الله بحكمته منع أشياء كثيرة عن الإنسان، وحال بينه وبين ما يريد لتبرز عظمة الله سبحانه وضعف الإنسان وحاجته إلى خالقه، ليعرف قدره، ويكتشف مصدر الفيض، وموضع الحاجة، فيتوجه إليه، ليبقى هذا التوجه والانشداد قائماً في نفس الإنسان، ولئلا يحدث الانفصال المروع بينه وبين الله تعالى، مصدر الخير والوجود، وكلما ازداد انشداد الإنسان إلى الله تعمق إحساسه بالانتصار على الحاجة، وتوالدت في نفسه مشاعر جديدة، هي مشاعر الاستغناء الذاتي بالله سبحانه، وتعزيز مكانة الإنسان بين عالم الأسباب والمقاصد المحيطة به، والتي تحاول الضغط عليه، والنيل من ارادته وقدرته على الانتصار عليها، وكلما تنامى في وعي الإنسان هذا الإحساس الإيماني العميق، تفتحت في نفسه آفاق إنسانية خلاقة، وتولدت فيها مشاعر إنسانية حيّة، تتفتح أبعادها عن مسارات وقيم حيّة رائدة، لم يكن ليحلم بها، لذلك ورد في حديث الإمام الصادق (ع):
( إنّ عند الله عزّ وجلّ منزلة لا تنال إلا بمسألة ).
ولذلك أيضا جاء الحثّ على الدعاء وتأكيد المواظبة عليه بعناية بالغة على لسان الوحي، وفي سنن المصطفى وتوجيهاته.
ومن المؤسف حقّاً أنّ كثيراً من الناس يعاني معضلة الفهم لقضية أساسية في الدعاء: وهي لماذا لا تستجاب كل الدعوات ولماذا يردّ بعضها في أشدّ ظروف الإنسان محنة وحراجة؟.
وللاجابة على هذا السؤال، يجب أن نفهم: أنّ هناك شروطاً ذاتيّة ترتبط بالإنسان الدّاعي، نفسه، وأخرى ربّانية تتعلّق بحكمة الله وعلمه بمصلحة الخلق، وثالثة موضوعية ترتبط بذات الأسباب والظروف الطبيعية للقضية التي يدعو الإنسان لتحقيقها، فهذه الشروط جميعاً ذات علاقة وتأثير على إجابة الدعوة من قبل الله سبحانه، أو عدم اجابتها، فليس كل ما يدعو به الإنسان هو الحقيقة التي يجب أن تكون وتتحقّق في عالم الوجود لأنّ ارادة الإنسان ليست هي الارادة التي تسيّر العالم، ورغبته في حدوث الأشياء دائماً لا تكشف عن حقيقة ما يجب أن يكون، وليس ضرورياً أن تتطابق هذه الرغبة دائماً مع منطق الخير وأهدافه المطوية في ضمير القدر، لذا فان رغبة الإنسان وطلبه من الله سبحانه تحقيق أمنية، ليست كافية لتحقيق الشيء وايجاده، إذ لو جرت الأحداث والوقائع وفق رغبة الإنسان وأمانيه الذاتية لاختفى تأثير قوانين الوجود، وتوارى دور الإرادة والحكمة الإلهية، ولغاب دور الإنسان التكليفي، وانتهت مسؤوليته كقوة محركة في عالم الحوادث والأسباب، إذ كثيراً ما يدعو الإنسان لتحقيق شيء وهو لا يحسن تقدير نتائجه، ولا طبيعة آثاره في الحياة، وقد يلح بالطلب، ويرفع صوته بالضراعة والابتهال في التخلص من شيء، وهو لا يعلم أنّ مصلحته فيما يرفض، وخيره فيما يدعو الله للخلاص منه، فكل ذلك خافٍ على الإنسان، ومغيب عنه، لعدم قدرته على اختراق حجب الغيب، أو الاطلاع على حقائق الأمور، كشف نتائج الحاضر والمستقبل.
وما أصدق تعبير الدعاء المأثور، وهو يشخص هذه الحقيقة، ويكشف سطحية المسار الذي تتحرك فيه الإرادة الإنسانية وضيق الأفق الذي تتصرف فيه، وقصور الرؤية عن استبطان حقائق الأشياء، وكشف مطوياتها، يقول الدعاء:
(… فإن أبطأ عنّي عتبت بجهلي عليك، ولعل الذي أبطأ عنّي هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور…) (7).
لذلك كانت استجابة الدعاء متوقفة على أمور أسياسية – كما بينا آنفا – وهي:
1 ـ الشرط الرباني: ويقصد به عدم مخالفة الدعاء للحكمة الإلهية أو معاكسة قضاء المشيئة الربانية التي قدرت سير العالم، ورتبت تتابع الأسباب والنتائج والمصالح فيه .
فالرغبة الإنسانية ليست هي التي تقرر سير الحوادث، أو تحدث ما تشاء بعيدة عن تقديرات الحكمة والتوجيه الإلهي، فلكي يكون الدعاء مؤهلاً للإجابة يجب أن لا يخرج على حدود المصلحة المقدرة في علم الله سبحانه .
2 ـ الشرط الذاتي: ويقصد به الكيفية الروحية والنفسية التي يتوجه بها الإنسان إلى الله سبحانه، من صدق التوجه، والاخلاص في الدعاء، والثقة بالله، واستشعار الحاجة والفقر إليه، واشتداد الضيق والاضطراب، وارتفاع موانع الذنوب والمعاصي التي تحول بين الإنسان وربه . . .الخ .
ففي هذه الحالة تكون الذات الإنسانية على درجة من العلاقة والارتباط بالله سبحانه، تؤهلها لتكون طرفاً في رفع الدعاء، والتعامل مع فيوضات الرحمة الربانية، واستقبالها بدرجة تجعل من الداعي مستحقاً للإجابة، متوفراً في شرط القبول والقرب من الله سبحانه .
قال الله تعالى:
(وإذا سألَكَ عِبادي عَنّي فإنّي قَريبٌ اُجيبُ دَعوةَ الدَّاع إذا دَعانِ فَليَستجيبوا لي وليؤمنوا بي لَعلَّهُم يَرشُدون) (البقرة/ 186).
3 ـ الشرط الموضوعي: ويقصد بالشرط الموضوعي: تعامل الإنسان مع الأسباب والوسائل الطبيعية التي جعلها الله سبحانه سبباً في تنظيم الحوادث وسير الأمور . وبعبارة أخرى: إنّ على الإنسان واجباً ومسؤولية، عليه أن يؤديها إذا ما أراد انجاز شيء، ودعا الله سبحانه للاعانة على ذلك فقد جعل الله بحكمته علاقة بين الأشياء وأسبابها، ويأتي دور العون الإلهي في هذه الحالة متمثلاً بتوفيق الله الإنسان لاصابة الأسباب الملائمة، وتأهيلها لاعطاء النتائج المرجوَّة .
فالمريض الذي يدعو الله سبحانه بالشفاء، لا يحق له أن يترك مسؤولية العلاج ويكتفي بالدعاء، والذي يهدده الظالم، لا يجوز له أن يخنع ويستكين لارادة الظالم، ثم يدعو الله لكشف الضرّ عنه .
(وَإذا سَألك عِبادي عَنّي فانّي قريبٌ أجيبُ دَعوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ فَليَستَجِيبُوا لي وَليُؤمِنوا بي لَعَلَّهم يَرشُدون) (البقرة/ 186).
فمنطوق الآية ومفهومها صريح بأنّ إجابة الدعوة مرتبطة بالاستجابة لله والإيمان به. والاستجابة لله، تعني الالتزام بشريعته، وتنفيذ مقرّرات المنهاج الإلهي «الدين» الذي هو مجموعة القوانين والأحكام الإلهية التي تسيّر الوجود الإنساني، وتنظّم مساره وأحداثه .
وختام الآية:(لعلّهم يرشدون)، يكشف لنا بوضوح تام أنّ العون الإلهي هو ترشيد الإنسان وهدايته إلى أسباب نجاح دعوته، وإعانته على إنجازها، وبذا نعرف أنّ العون الإلهي يجبر العجز الإنساني، عندما يعجز الإنسان عن تحقيق ما يصبو إليه، عندما تتوفر الشروط اللازمة للإجابة .
ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا ونحن نتحدّث عن هذه الشروط الأساسية الثلاثة التي تتوقف عليها استجابة الدعاء، أن نؤكّد أنّ مشيئة الله سبحانه هي النّافذة، وإرادته هي الغالبة، وليس للأسباب والقوانين الطبيعية دور الحتمية إذا شاء الله سبحانه الاستجابة، وقضى بتنفيذ الامر:
(إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شَيئاً أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) (يس/ 82).
وأنّ الله يجيب دعوة الدّاعي إذا دعاه:
( . . أمَّنْ يُجِيبُ المضْطَرَّ إذا دَعاهُ ويَكْشِفُ السُّوء . . .) (النمل/ 62).
ومن المفيد هنا ونحن نتحدّث عن موضوع استجابة الدعاء أن نذكر أنّ الدعوة إذا استوفت الشروط الذاتية والموضوعية، وحالت المصلحة والحكمة دون تعجيل الإجابة، فأنّ هذا الدعاء يدخر لصاحبه، كما ورد في الروايات ويخفف عنه بلاء لم يكن ليعلمه هو، ولم يفكر بالدعاء للخلاص منه، أو يعوّض الداعي عن عدم إجابة دعوته بالثواب والمغفرة .
الإنسان بين الدعاء والمسؤولية
جاء الإسلام كُلاً مترابط الأجزاء، ووحدة عضوية متكاملة المفاهيم، والخطر كلّ الخطر على تلك المفاهيم أن تؤخذ مجزّأة منفردة، ثمّ يتم تقويمها والتعامل معها وهي بهذه الصورة المبعثرة .
فالمفهوم في الإسلام لا يكتمل معناه، ولا تدرك أهدافه، ولا يمكن إعطاء تقويم صحيح له، إلاّ بعد ربطه بكل ما يتعلّق به من مفاهيم مترابطة معه، متناسقة مع أهدافه، مكمّلة لوجوده، ضمن صيغة الوحدة الفكرية في الإسلام .
ومن تلك المفاهيم التي أسيء فهمها بسبب اقتلاعها، وافرادها منفصلة عن جسم الوحدة الفكرية، هو مفهوم «الدعاء» .
فقد أثار الكثير من الذين تعاملوا مع هذا المفهوم ـ تعاملاً منفصلاً عن بقيّة مفاهيم الإسلام ـ أثاروا شكوكاً حول الدعاء، منها:
1 ـ إنّه وسيلة للاتكالية، وتجميد لطاقة الإنسان ، وشلّ نشاطه، وإشاعة لروح الكسل والخمول، بالاعتماد الغيبي على الله، وعدم ممارسة الإنسان لدوره وواجبه .
2 ـ إنّ الدعاء دعوة إلى فرض الدور السلبي على حياة الإنسان ،
وتجميد قوانين الطبيعة والوجود التي تتحكم في الحياة، وفي مصير الإنسان ، وبذلك ينتهي دور الإنسان التاريخي، بتعليق إنجاز المهام المنوطة بالإنسان على الله تعالى، مع انسحاب كامل لقوى الإنسان وجهوده في ميدان الممارسة، وإنّ أمة ترضى بالدعاء ـ بالقول والضراعة ـ بديلاً للجدّ والتفكير والعمل والنشاط، لهي أمة تحكم على نفسها بالفناء والموت العاجل، وتمحو دورها الإنساني ـ بدعائها وضراعتها ـ .
ذلك ما يقال ويكثر ترديده حول فكرة الدعاء .إلاّ أنّ الإسلام بوحدة أفكاره ونقاء مفاهيمه، يقوم بأكمله ردّاً حاسماً على هذه الشبه والتخرصات التي يطلقها المتجنّون عليه .فالإسلام حينما شرّع الدعاء، شرّع العمل كذلك، وبيّن مسؤولية الإنسان وواجبه المترتب عليه، فقرّر التزامه بإجراء قوانين الوجود، والتطابق مع سنن الحياة التي أودعها الله في هذا العالم، فما من شيء يتحقق إلاّ ويحتاج إلى سبب، وما من حادث يحدث إلاّ وله محرّك .
فالنتائج لا تنزل من السماء، وليس معنى الدعاء تعطيل قوانين الوجود، والدخول في دورة سبات لانهائية، والاكتفاء برفع اليدين إلى السماء، وإذا شئنا المزيد من الايضاح وبيان موقف الإسلام من هذه القضية الخطيرة، فلنقف على رأيه الصريح، وردّه الواضح على تلك التصوّرات الشاذّة، ولنقرأ فصلا من كتاب «جامع السعادات» للعلامة الشيخ محمد مهدي النراقي ـ أعلى الله مقامه ـ، لما فيه من بحث ونصوص توضّح معنى التوكل ـ في الإسلام ـ سواء في حالة الدعاء، أو في غيره من الحالات، وتبيّن علاقته بالأسباب الطبيعية .
قال رحمه الله: (الأسباب التي لا ينافي تحصيلها ومزاولتها للتوكّل هي الأسباب القطعية أو الظنية، وهي التي يقطع، أو يظن بارتباط المسبّبات بها بتقدير الله ومشيئته، ارتباطاً مطرداً لا يتخلّف عنها، سواء كانت لجلب نفع أو لدفع ضر منتظر، أو لازالة آفة واقعة، وذلك كمدّ اليد إلى الطعام للوصول إلى فيه، وحمل الزّاد للسفر، واتخاذ البضاعة للتجارة، والوقاع لحصول الأولاد، وأخذ السلاح للعدو ـ وقاية لمواجهة العدو ـ والادخار لتجنّب الاضطرار، والتداوي لازالة المرض، والتحرّز عن النوم في ممر السيل ومسكن السباع وتحت الحائط المائل، وغلق الباب، وعقل البعير(8)، وترك الطريق الذي يقطع، أو يظنّ وجود السارقين، أو السباع الضارة فيه، وقس عليها غيرها .
وأما الأسباب الموهومة، كالرقية، والطيرة، والاستقصاء في دقائق التدبير، وإبداء التمحلات لأجل التبديل والتغيير، فيبطل بها التوكل)(9) .
وهكذا يتضح لنا أنّ الدعاء: وهو طلب عون الله، والتوكّل عليه، لا يعني تعطيل الأسباب، وترك السعي من قبل الإنسان ، وتجميد نشاطه، واللجوء إلى الكسل والخمول بدعوى الاعتماد على الله، وكما رفض الإسلام تعطيل دور القوانين والأسباب الطبيعية من قبل الإنسان ، رفض كذلك اللجوء إلى الاوهام والخرافات في معالجة المواقف، وتحصيل الأشياء التي يريد الحصول عليها، لأنّها ليست من قوانين الطبيعة، ولا من أنظمة الوجود التي أودعها الله في هذا العالم، وليس لها أي دور تأثيري في سير الحوادث، أو اعطاء النتائج، وقد اعتبر الإسلام تعطيل دور الإنسان ، وعدم أدائه لواجبه ومسؤوليته، وعدم تسييره للحياة وفق قوانين الطبيعة التي أودعها الله في الوجود، مخالفة لحكمة الله وإرادته، واعتبر هذا التعطيل متعارضاً مع إجابة الدعاء، وعقيدة التوكل .
ولكي يكون رأي الإسلام واضحاً في هذا الموضوع، فلنتابع القراءة في كتاب «جامع السعادات» فلنقرأ قول المؤلف ـ رحمه الله ـ :
(إعلم أنّ التوكّل لا يبطل بالأسباب المقطوعة والمظنونة مع أنّ الله قادر على إعطاء المطلوب بدون ذلك، لأنّ الله سبحانه ربط المسبّبات بالأسباب، وأبى أن يجري الأشياء إلاّ بالأسباب، ولذا لما أهمل الإعرابي بعيره، وقال: توكّلت على الله، قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اعقلها وتوكل) .
وقال الصادق (عليه السلام):
(أوجب الله لعباده أن يطلبوا منه مقاصدهم بالأسباب التي سبّبها بذلك، وأمرهم بذلك) .
قال الله تعالى:
(خُذوا حذركم)، وقال في كيفية صلاة الخوف: (فَلْيَأخُذُوا حذْرَهم وأسْلِحَتَهُم)، وقال: (وأعِدُّوا لَهُم ما استَطَعْتُم مِنْ قوّة، وَمِنْ ربَاطِ الخَيْلِ)، وقال لموسى (عليه السلام):(فاسرِ بعبادي ليلاً)، والتحصّن بالليل إختفاءً عن أعين الاعداء دفعاً للضرر .
وفي الاسرائيليات: إنّ موسى بن عمران (عليه السلام) اعتلّ بعلَّة فدخل عليه بنو إسرائيل، فعرفوا علّته، فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت، فقال: (لا أتداوى حتّى يعافيني الله من غير دواء) فطالت علّته، فأوحى الله إليه: (وعزّتي وجلالي لا أُبرئك حتّى تتداوى بما ذكروه لك)، فقال لهم: (داووني بما ذكرتم)، فداووه فبرئ فأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه: (أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك عليّ، فمن أودع العقاقير منافع الأشياء غيري؟)(10) .
وقد جاء قول الله الحق صريحاً واضحاً للكشف عن هذا المفهوم وتعميقه في نفس الإنسان ، قال تعالى:
(وأنْ لَيسَ للإنسانِ إلاَّ ما سَعى) .(النجم/ 39)
وورد في الحديث الشريف ما يرادف هذا المعنى، ويؤكد مسؤولية الإنسان، فقد جاء: (العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال)(11) .
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله:
(إنّ أصنافا من أمّتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه، ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في بيته ويقول: ربّ ارزقني، ولا يخرج، ولا يطلب الرّزق،
فيقول الله عزّ وجل له: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكي لا تكون كلاًّ على أهلك، فإن شئتُ رزقتك، وإن شئت قتَّرت عليك، وأنتَ غيرُ معذور عندي، ورجل رزقه الله مالاً كثيراً فأنفقه، ثم أقبل يدعو: يا رب ارزقني، ّوجلّ: ألم أرزقك رزقاً واسعاً فهلاّ اقتصدت فيه كما أمرتُك، ولم تُسْرِفْ، وقد نهيتك عن الاسراف، ورجل يدعو في قطيعة رحم)(12) .
وروى أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)أيضاً، قال: (كنّا جلوساً عند أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق، إذ أقبل (العلاء بن كامل) فجلس قدَّام أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: ادع الله أن يرزقني في دعة، فقال: لا أدعو لك أطلب كما أمرك الله عزّ وجلّ)(13) .
(وروى كليب الصيداوي، أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال: قلت للصادق: ادع الله عزّ وجلّ لي في الرزق فقد التأثت علي أموري، فأجابني مسرعاً: لا، أخرج فاطلب)(14) .
وإذن فليس بامكان أحد بعد هذا الايضاح أن يقول أنّ الإسلام دعا إلى الاتكالية والكسل، وعطّل الأسباب والقوانين الطبيعية للحياة، فكلّ ما جاء في الإسلام دعوة إلى الجدّ وممارسة المسؤولية والسير بالحياة وفق قوانين الطبيعة وسننها التي أودعها الله في هذا العالم .وعندما نسلم بهذه الحقيقة الفاعلة في دنيا الإنسان ، يجب أن نسلم أيضاً بأنّ هناك كثيراً من الأحداث والوقائع ليس بمقدور الإنسان أن يدرك أسبابها، أو يستطيع حلّها ومعالجتها، فليس مستنكراً عليه أن يلجأ في هذه الحالة إلى الله سبحانه، مالك الخلق والأمر والقاهر للأسباب والقوانين، فيطلب منه العون على حلّ أزمته، أو مساعدته على تيسير أسباب الأمور وإجرائها .
لذلك كان دعاء المؤمن بالله، الواثق من إجابته ـ كما ورد في الدعاء المأثور :-
(يا مَن تُحَلُّ بهِ عُقَدُ المكارِه، وَيُفْثأ بهِ حَدُّ الشَّدائِد، ويامَن يُلتَمَس منهُ المخرجُ إلى روح الفَرَج، ذَلَّت لِقُدرَتِك الصّعاب، وتَسَبَّبَت بلطفِك الأسباب، وَجَرى بِقُدرَتِكَ القَضاء، وَمَضت عَلى إرادتك الأشياء، فَهِيَ بمشيئتِك دون قولك مؤتمرة، وبارادَتِك دون نَهيك منزجرة، أنتَ المدعو للمهمّات، وأنت المفزع في الملِمَّات . . .)(15) .
وطبيعي أنّ تقبّل هذا المفهوم يحتاج إلى وعي إنساني عميق للكون والطبيعة، وفهم عقائدي لكيفية سير الحوادث والوقائع على مسرح الحياة للتعرّف على أثر القوّة والإرادة الإلهية في هذا العالم،
فنؤمن بأنّ الخالق للأسباب والقوانين الطبيعية قادر على أن يغيّر ويبدّل ما يشاء بقدرته، وأن يوفّق الإنسان بعد عجزه إلى اكتشاف السبب الذي يوصله إلى تحقيق غايته .
لا تعارض بين الدعاء والقضاء
(يَمْحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعندَهُ أمُّ الكِتاب) (الرعد / 39).
(إنّ الدّعاء يردّ القضاء، ينقضه كما ينقض السلك، وقد أبرم إبراما)(16) .
(ادع الله عزّ وجلّ، ولا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه) (17) .
وفي الحديث عن موضوع الدعاء، وعن الاستجابة وتغيير الأمور، ورفع ما قدر، ودفع ما قد يقع من الأمور والحوادث التي تحل بالإنسان، من المحن والشدائد، والحوائج، والذنوب . . .الخ .
في الحديث عن ذلك كلّه، لا بدّ لنا من أن نتحدّث عن علاقة (القضاء والقدر)، وعن علاقة (علم الله وإرادته) بالاستجابة للدعاء، ونبيّن كيف يصّح تغيير الأمور ورفعها وإبطالها بعد تقديرها في قضاء الله وتقدير وجودها، وحصولها في علمه، وهل يترتّب على ذلك التغيير نتائج عقيدية تؤدي إلى القول بتغيير علم الله، وبطلان قضائه وقدره وفق مشيئة الإنسان ، وبالتالي تغيير مشيئة الله؟وكيف يغيّر الله الحوادث بعد إبرامها؟هل كان يجهل ما هو صالح من الأمور، ولم تتّضح له إلاّ بعد الدعاء، وشكوى العبد من مرارة البلاء؟ وهو المنزّه عن ذلك .أو أنّ أفعاله تعوزها الحكمة والاتقان فتأتي مضطربة تحتاج إلى تصحيح وتسديد، وهو المنزّه المتعال؟
إنّ كثيراً من الناس الذين يجهلون حقيقة العلاقة بين قضاء الله وقدره، وعلمه بالأمور والحوادث من جهة، وبين تغيّرها من حال إلى أخرى، أو رفعها وإبطالها من جهة أخرى يثيرون زوبعة من الشكوك والغبار حول الدعاء، ويتوهمون تغير علم الله تعالى، وإرادته .فيكون لله تعالى مع هذا التغيير ـ كما يتصّور هذا الفريق من الناس ـ علمان وإرادتان:
علم وإرادة سابقة على التغيير، وهما اللّذان ثبتا تقدير الشيء على حالته الأولى، وعلم وإرادة حين التغيير، وهما اللّذان أحدثا التغيير، والتبديل الجديد، بعد حالته الأولى .
وهذا يعني بالنتيجة أنّ علم الله سبحانه وإرادته متناقضتان وقاصرتان عن تحقيق خير الوجود، ودقّة نظامه .
ولتصحيح هذا المفهوم، وردِّ هذه الشبهة، لابدّ للانسان المسلم من أن يفهم:
أولاً ـ أنّ تغيير الأمور بابدالها، أو رفعها عن الإنسان ، بسبب الدعاء لا يعني تبعية إرادة الله لإرادة الإنسان ، ولا يعني بطلان القضاء والقدر، لأنّ تغيّر الحوادث يجري أيضاً وفق قضاء وقدر ناسخ للقضاء والقدر الأول، فهما قضاء وقدر واحد في تقدير الله ومشيئته، وما التعدّد والفاصل الزمني إلاّ أمر مرتبط بذات الحوادث الجارية في عالم الإنسان .
ثانياًـ لا يعني تغيّر الأشياء والحوادث بسبب الدعاء، تغيّر علم الله، ذلك لأن الله سبحانه بحكمته ولطفه، ورحمته بعباده، قد جعل بقضائه وقدره أيضاً وسابق علمه دعاء الدّاعي عند، وقبل، وبعد نزول البلاء به، أو انقطاع حوائجه عنه، سبباً لكشف البلاء، أو غفران الذنب، أو قضاء الحاجة .
فسببية الدعاء بهذا الاعتبار جزء من قضاء الله وقدره، وليس خارجاً عنهما أو متعارضاً معهما، أي إنّه حقيقة مقدّرة في قضاء الله لدفع ما قدّر، شأنها في القضاء شأن بقيّة الحقائق التي وقعت على الإنسان ، كالحاجة، والمرض، والمحنة . . . الخ . ولكشف غوامض هذا الموضوع فلنقرأ الآيتين الآتيتين، مشفوعتين بايضاح وتفسير من قبل الحديثين المرويين عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، والآيتان هما:
( . . . ومَن يَتَوكَّل عَلى اللهِ فَهوَ حَسبُهُ إنَّ اللهَ بالغُ أمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلّ شَيء قَدرا) (الطلاق / 3).
( . . . صُنعَ اللهِ الَّذي أتْقَنَ كُلَّ شَيء إنَّهُ خَبيرٌ بِما تَفعَلُون) (النمل / 88).
ففي الآية الأولى نقف على حقيقة هامّة في قضاء الله وتقديره . فهو سبحانه قد جعل لكل شيء في عالم الموجودات قدراً من الزمان والمكان والوجود والمكوّنات والنتائج والغايات . . . الخ، بما يناسبه ويحقق الحكمة والمصلحة من وجوده، وإنّه سبحانه مدركه، ومحققه، ولا يمكن أن يفوته، أو يعجزه تحقيقه .
والآية الثانية تلقي مزيداً من الضوء على الآية الاولى (صنع الله الذي أتقن كلّ شيء ) فكلّ شيء حسب منطوق الآية هو متقن، وليس هناك من ثغرة، أو نقص، أو عبث، أو جهل، في هذا الوجود .
فحياة الإنسان ، وما يجري عليه من الأمور ـ وفق منطوق الآيتين ـ (مقدرة ـ متقنة)، وهي من أمور الله التي يجب أن يحققها بعد أن يثبت صلاحها في علمه وحكمته .
(إنّ الله بالغ أمره) وليس لشيء أن يتمرّد على إردة الله أو مشيئته .
وقد أمدّنا القرآن بشواهد ونماذج واقعية من دعاء الأنبياء، واستجابة الدعاء لهم بعد وقوع البلاء بهم، وتغيير الحوادث والوقائع:
(ونُوحاً إذ نَادى مِن قَبلُ فاستَجَبْنا لَهُ فَنجّيْناه وَأهلَهُ مِن الكَرْبِ العَظيم) (الأنبياء / 76).
(وأيّوبَ إذ نادى ربَّهُ أنّي مسَّني الضُّرُّ وأنتَ أرْحمُ الرَّاحمين * فاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ وآتيناه أهلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُم رَحمةً من عِندِنا وِذكرى للِعابدين) (الأنبياء / 83 ـ 84).
(وذا النُّون إذ ذَهَبَ مُغاضباً فَظَنَّ أن لَن نَقدِر عليه فَنادى في الظُّلمات أن لا إلهَ إلاَّ أنْتَ سُبحانَكَ إنّي كُنْتُ مِن الظَّالمين * فاسْتَجَبْنا لَهُ وَنجَّيناه مِن الغَمِّ وَكذلِكَ نُنْجِي المُؤمنين) (الانبياء / 87 ـ 88).
(وزكريّا إذ نادى ربّهُ ربّ لا تذَرني فَرداً وأنت خَيْرُ الوارثين * فاسْتَجَبنا لَهُ وَوَهَبنا لَهُ يحيى وأصْلحنا لَهُ زَوْجَهُ . . .) (الانبياء / 89 ـ 90).
فهذا العرض القرآني الصريح يكشف لنا بوضوح تام، العلاقة السببية بين الدعاء وتغير الحوادث والوقائع الجارية في دنيا الإنسان . وإنّ كل هذه الحقائق تجري وفق الحقيقة الكبرى التي عبّر عنها الوحي الإلهي بقوله:
( . . . لِكُلّ أجَل كَتابٌ * يَمحُو اللهُ ما يشاءُ ويُثبِتُ وعِندهٌ أمُّ الكِتاب) (الرعد / 38 ـ 39).
فالله يغير ويبدّل الامور والحوادث بمشيئته، ووفق إرادته وقضاء محكم وترابط التقدير وليس هدماً طارئاً للقضاء والقدر الذي ثبت بحكمة الله ومن غير تقدير، أو علم إلـهي مسبق .
أمّا الحديثان اللّذان يوضّحان أنّ الدعاء إنما يقع سبباً وفق قضاء الله، لتنفيذ ما أراد الله وقضى بخفي علمه ولطفه، من تغيير الحوادث والوقائع التي ستحدث:
(إذا ألهِمَ أحَدُكُم الدعاءَ عندَ البَلاء فاعلموا أنَّ البَلاء قصير) (18) .
(إنّ الله عزَّ وجلَّ لَيَدفَع بالدعاء الأمر الذي علمه إن يدعى له فيستجيب، ولولا ما وفّق العبد من ذلك الدعاء لاصابه منه ما يجثّه(19) من جديد الأرض)(20) .
وبالتأمل بنص هذين الحديثين، والتدقيق بهما والوقوف عند العبارات (ألهِم)، (الأمر الذي علمه ان يدعى له فيستجيب)، (ولولا ما وفق العبد)، وبالوقوف عند هذه العبارات، نجد أنّ الالهام والتوفيق من الله كانا لسابق علم الله بأنّ العبد سيبتلى وإنّ الله يريد المنّة عليه واللطف به، فقضى بحكمه أن يلهمه الدعاء ويوفقه إلى المسألة بكشف الضرّ عنه، فيكشف عنه ضرّه، ويجيب له طلبه تعبيداً للانسان، وإشعاراً له بحاجته إلى الله سبحانه، وبفضل الله ولطفه به .
وبذا يتّضح لنا أنّ علم الله وقضاءه لا يتناقضان مع الدعاء، و أنّ التغيّر في الاحداث والوقائع التي تجري على الإنسان إنما تجري وفق علم مسبق بحدوث الشيء وبتغيره، وأنّ هذا التغيير جرى على أساس من قاعدة السببية الجارية على كل حقيقة في عالم الإنسان .
وإن العلم الإلهي والقضاء محيطان بهذا التغيير وسابقان له ولا شيء يكون جديداً أو متعارضاً مع قضاء الله وعلمه.
فالله يعلم بالحوادث، وبتغييرها، وعلى أساس هذا العلم كان القضاء، قضاء بوقوع الحوادث، وقضاء بجعل الدعاء سبباً للتغيير، وقضاء بالتغير


……………………………….
الهوامش:
1 ـ الإمام علي بن الحسين (ع) / الصحيفة السجادية / دعاء مكارم الاخلاق .
2 ـ الكليني/ أصول الكافي/ ط3 / ج2 / ص468 . السيوطي / الجامع الصغير/ ج1 / ص 574 .
3 ـ ميسّر: أحد أصحاب الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) .
4ـ الكليني / الكافي / ج2 / ص466 .
5 ـ الكليني / الكافي / ج2 / ص466 . المتّقي الهندي / كنز العّمال / ج2 / ص64 .
6 ـ الكليني / الكافي / ج2 / ص467 .
7 ـ القمّي / مفاتيح الجنان / ط . دار إحياء التراث العربي (لبنان) / ص62 .
8 ـ عَقَلَ البعير: رَبَطه .
9 ـ النراقي/ جامع السعادات/ ط3 / ج3 / ص227 .
10 ـ النراقي/ جامع السعادات / ج3 / ص228 .
11 ـ الكليني/ الكافي/ ط3 / ج5 / ص78 .
12 ـ الكليني/ الكافي/ ج5 / ص67 .
13 ـ الكليني/ الكافي/ ج5 / ص78 .
14 ـ الكليني/ الكافي/ ج5 / ص79 .
15ـ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) / الصحيفة السجادية .
16 ـ الكليني / الكافي / ج2 / ص 469، عن الإمام الصادق (عليه السلام) .
17 ـ الكليني / الكافي / ج2 / ص 467، عن الإمام الصادق (عليه السلام) .
18 ـ الكليني / الكافي / ج2 / ص471 .
19 ـ يجثّه من جديد الأرض: يقطعه وينزعه من أصله .
20 ـ الكليني / الكافي / ج2 / ص470 .