النتائج 1 إلى 2 من 2
الموضوع:

بدر شاكر السياب حياته وشعره

الزوار من محركات البحث: 43 المشاهدات : 469 الردود: 1
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    عضو محظور
    تاريخ التسجيل: February-2022
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 362 المواضيع: 41
    التقييم: 225
    مزاجي: مبتسم
    المهنة: Marine Services
    أكلتي المفضلة: fish
    موبايلي: iPhone - Apple
    آخر نشاط: 18/July/2024

    بدر شاكر السياب حياته وشعره


    كتاب:

    بدر شاكر السياب

    حياته وشعره

    تأليف نبيلة الرزاز اللجمي



    تبدأ المؤلفة كتابها في المقدمة بقول للسياب يقول فيه: أشعر أني عشت طويلاً، رافقت جلجامش في مغامراته، وصاحبت عوليس في ضياعه، وعشت التاريخ العربي كله. ألا يكفي هذا؟. أي أن السياب يقول أنه خاض بخياله الشعري لجج بحارالأساطير القيمة، واستطاع أن يعيد الماضي ويحيي التراث حياً تشاهده الأعين وتلذ له الأذن. ورغم أن السياب توفي وهو له من العمر مايزيد على التاسعة والثلاثين عاما، ألا انه ترك لنا ثروة شعرية ثرة وقد عز نظيرها.

    قسمت المؤلفة نبيلة الرزاز كتابها القيم الى عدة اقسام والأقسام إلى فصول.

    القسم الاول: ويتناول حياة السياب ومكابداته الجسمية والعائلية.

    القسم الثاني: ويتناول شعر السياب ويتفرع بدوره الى فصول في الشعر الوجداني، الاسرة، الحب الارض، والوطن، ثم الموت.

    القسم الثالث: ويتناول الفن الشعري عند السياب وأهم فصوله التجديد في شعر السياب، ثم المرحلتين الواقعية، والذاتية في شعره وحياته.

    أما القسم الرابع: وهو عبارة عن مختارات من شعر السياب ويتضمن عدة عناوين منها، في السوق القديم - وغريب على الخليج - والمسيح بعد الصلب - لأني غريب - وليلة في لندن. هذه هي أهم المواضيع التي تتناولها المؤلفة في هذا الكتاب الوثائقي الهام الذي امتاز بالدقة العلمية والتوثيقية ولامناص لأي قاريء من الإلتفات إليه وقراءته بإمعان وتدبر حتى تكتمل الفائدة المرجوة منه.

    في القسم الاول تتناول المؤلفة قصيدة (جيكور) وهو اسم قرية الشاعرالأثيرة على قلبه (حيث الدنيا مسحورة بنهر البويب الذي تغفو أمواجه، بالنخيل الباسق يلقي بطلاله الممتدة عند الغروب، فيوسوس بالأسرار، ويكتظ بالأشباح التي تملأ عقل الطفولة بالخيالات الغريبة). بهذه الكلمات الطافحة بالسحر والجلال كسحر الطبيعة على ضفاف نهر البويب، الذي يجري ببهاء في جنوبي العراق، تصف نبيلة الرزاز قرية الشاعر الوادعة التي غادرها مريضا وعاد ملفوفاً بأكفان الموت الرهيب وهو في ريعان شبابه ليدفن في ثرى العراق الذي احتضنته كأم رؤوم تحنو على صغيرها، يقول السياب في قريته جيكور وهو بعيد عنها فتذكرها في أصائل يوم لندي بكثيرمن الحنين والحزن والأسى فيقول:



    ولكن في جيكور

    للصيف ألواناً كما للشتاء

    وتغرب الشمس كأن السماء

    حقل يمص الماء

    أزهاره السكرى غناء الطيور

    ناحلة كالصدى

    والليل في جيكور تهمس فيه النجوم

    أنغامها- تولد فيه الزهور

    وتخفق الأجنحة

    في أعين الأطفال - في عالم للنوم مرت غيوم

    بالدرب مبيضاً بنور القمر

    تكاد أن تمسحه

    تسرق منه الزهر

    (ديوان شناشيل ابنة الجلبي - قصيدة جيكور)



    وفي صباه عشق الشاعر واحب ونظم في فضاءات حبه الأصيل قصائد غزلية رائعة كقصيدته(أحبني) وفيها يقول:



    وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا

    ولكن كل من أحببت قبلك ما أحبوني

    ولاعطفوا علي، عشقت سبعاً، كن أحيناًترف شعورهن علي تحملني إلى الصين

    سفائن من عطورنهودهن، أغوص في بحر من الأوهام والوجد

    فألتقط المحار أظن منه الدر،ثم تظلني وحدي

    جدائل نخلة فرعاء



    هذه القصيدة تبين لنا الحب الذي عرفه السياب، سبع فتيات عشقهن، ولكنه لم يجد منهن إلا الأوهام، حتى إذا التفت حوله لم يجد سوى جدائل النخلة الفرعاء تظله وتحنو عليه.

    وقد أحب السياب في صباه راعية ربما هي حبيبته لبيبة ذاتها صاحبة المنديل الأحمر وقد تذكرها الشاعر وهو في المدينة بقوله:



    تذكرت سرب الراعيات على الربا وبين المراعي في الرياض الزواهر



    كما أحب السياب رفيقته في النضال الشيوعية لميعة عباس ولكنها أبت أن تتزوجه لدمامة خلقه، ومنذ ذلك اليوم بدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عن الشيوعيين ولانعلم مدى صحة ذلك ولكنه تذكرها ذات يوم وهو في مدينة لندن مع صوت زمور سيارة فقال:



    ذكرتك يا لميعة والدجى ثلج وأمطار

    ولندن نام فيها الليل، مات تنفس النور

    ذكرت شحوب وجهك حين زمر بوق سيارة

    ليؤذن بالوداع، ذكرت لذع الدمع في خدي

    ورعشة خافقي وأنين روحي يملأ الحارة

    بأصداء المقابر، والدجى ثلج وأمطار



    وهكذا امتازت حياة الشاعر الغزلية باللهاث المتواصل وراء الحب، ينتقل من فتاة إلى أخرى، وكلهن يتركنه، فواحدة تكبره سناً، وأخرى تفضل الزواج بثري، وثالثة تموت، ورابعة تستقبحه فلا تتزوجه، فلايلاقي في الحب إلا الخيبة والإخفاق.

    وأعتقد أن السياب قد أجاد في غزلياته أيما إجادة، وأنه كتب أروع ماقيل في الشعر العربي من غزل رفيع، وقبل بيت البحتري الذي يعتبره النقاد أجمل بيت قيل في الغزل في الشعر العربي على الإطلاق وهو بيته القائل:



    يصرعن ذا اللب حتى لاحراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا



    اما سطورالسياب الغزلية الرائعة، فقد وردت في قصيدته الشهيرة(أنشودة المطر) والتي يقول فيها:



    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

    أوشرفتان راح ينأى عنهما القمر.

    عيناك حين تبسمان تورق الكروم

    وترقص الأضواء.. كالأقمار في نهر

    يرجه المجداف وهنا ساعة السحر

    كأنما تنبض في غوريهما النجوم...



    فبينما يصف البحتري تأثير جمال المرأة على الرجل وهيامه بهذا الجمال الآسر، ألا انه وصفها وصفاً خطياً انطباعياً، باستثناء البيت الذي قبله والذي وصف فيها عيني المرأة الحوراء بشكل إبداعي جميل وهو البيت القائل:



    إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا



    بينما نرى السياب يرسم لوحة متكاملة تتماهى فيها جمال الطبيعة مع جمال المرأة، مستخدماً الإستعارة والتشبيه في رسم لوحة سحرية رائعة، تظهرفيها المرأة آسرة الحسن والجمال.

    ولكن كان مآل الشاعر دوما هو قريته جيكوروفي هذا تقول المؤلفة: ولد الشاعروعاش في هذه القرية مرحاً جذلاً في يوم من أيام عام 1926م وفي منزل العائلة الكبير، قوي عوده واشتدت سواعه وبدأ يعرف الحياة حينما اختلس نظرة الحب الأولى نحو إحدى القرويات الحسناوات، وبدأ يحس معها بعذوبة الحياة ورقة نسائم جيكور الممزوجة مع رقة قدها المياس ووقع خطواتها الرشيقة وجمالها الآسر، ألا أن الحبيبة تغدر به وتتزوج من الغني الغريب، فكانت مأساته الكبرى فلم يستطع بعدها أن يفهم مجتمعه ولا عواطفه الجياشة هذه. ولكن أضاف القدرعلى مأساته مأساة اخرى، حيث نكب بوفاة والدته الحنون وهو صغير السن ففقد حنان الوالدة، لا بل تزوج أبوه فابتعد عنه ملتهياً بزوجته الشابة، وقد زاد هذا الأمر من محنه وآلامه. ويظهر أن والده كان مستهترالسلوك في حياته وزير نساء، وفي هذا يقول في قصيدة بعنوان أين خيالك



    خيالك من أهلي الأقربين أبر وإن كان لايعقل

    أبي منه قد جردتني النساء وأمي طواها الردى المعجل



    وكلما اقترب منه شبح الموت بسبب مرضه العضال، اشتد حنينه الى أمه فأكثر من ذكرها وبدا يصور في مخيلته صورة الطفولة حين ودعتهم الأم تاركة أطفالها الصغار يولولون ويفزعون ويعودون يسائلون الليل عن أمهم الحنون، ويقرع الباب ثانية ويقول:



    الباب تقرعه الرياح لعل روحا منك زار

    هذا الغريب هو ابنك السهران يحرقه الحنين

    أماه ليتك تعودين



    ويبدو أن جدته قد حلت محل والدته في رعايته والإعتناء به لأنه يقول: جدتي هي كل ماخلف الدهر من الحب والمنى والظنون، قد فقدت الأم الحنون فأنستني مصاب الأم الرؤوم والحنون. هكذا نقم الشاعر على الزمن والحياة البائسة والمرأة التي غدرت به وأصبح الحب لديه سراباً بلقعاً. أنهى في القرية تعليمه الإبتدائي والمتوسطي والثانوي ثم التحق بدار المعلمين العالية في بغداد يدرس الأدب العربي، ثم اللغة الإنكليزية وفي المدينة كان يحن على قرويته الحسناء ويحلم بليالي قريته المقمرة وبالنهر ونخيل العراق. فلم يتلائم مع بيئة المدينة التي أحس بأنها تضطهده وتلتف حبالها الرهيبة حول عنقه وتعامله كتابع مهان فيقول في ذلك:



    وتلتف حولي دروب المدينة

    حبالاً من الطين يمضغ قلبي

    .................

    حبالاً من النار يجلدن عري الحقول الحزينة

    ويحرقن جيكور في قاع روحي

    ويزرعن فيها رماد الضغينة



    هكذا بدا الشاعر تائها في متاهات أ@@@ة المدينة وشوارعها المتفرعة، وشعر بأنها أقامت جداراً أو سوراً لايخترق بينه وبين قريته الجميلة فيقول:



    وجيكور من دونها قام سور

    وبوابة

    واحتوتها سكينة

    فمن يخرق السور من يفتح الباب، يدمي على كل قفل يمينة

    ويمناي، لا مخلب للصراع فأسعى بها في دروب المدينة



    وفي أحد الأيام، وفي أحد اروقة كلية التربية في جامعة بغداد، ربت كفة بضة أنيقة كتف الشاعر وطلبت منه صاحبتها التغزل بها شعراً، فما كان من الشاعر إلا أن يطير من الفرح وهو الذي يعشق النساء ولكنه يعاني عقدة شكله غير الوسيم، فتغزل بها وسمتها "شقيقة الروح" ولكن شقيقة الروح تغدر به ثانية وتتزوج من أحد أثرياء العراق، وبذلك تلقى الشاعر النكران في الحب مهما ضحت من أجله فيقول:



    من هواي المضياع

    من قلوب الجياع

    ...............

    كل ما عندنا نحن، هذا الفم

    كان وهماً وهواناً، فإن القلوب

    والصبايات وقف على الاغنياء

    لاعتاب فلو لم نكن أغبياء

    ما رضينا بهذا، ونحن الشعوب



    وحينما أوغل الحكام في ايذائه والتنكيل به، هاجر مع من هاجر خارج البلاد، وفي الغرب عرف ذل الانكسار ووحشة الروح..! فبدا يحن الى العراق ويحلم بالعودة إليه، وحينما تحقق حلمه بالعودة لكنه وجد نفسه مشردا تعوزه النقود، فارتحل الى الكويت غريبا على الخليج وبدا يحن ثانية الى العراق الذي لم يفارق أحلامه فيقول:



    ياريح يا إبراً تخيط لي الشراع متى أعود

    الى العراق متى أعود

    في الضفة الأخرى هناك فحدثيني يا نقود

    متى أعود- متى اعود



    يتحسس الشاعر يديه فيجدهما خاليتين من النقود، فيتملكه الفزع من إمكان عدم العودة إلى العراق وهنا تستبد به الهواجس والهموم إلى أن فيقول:



    واحسرتاه فلن أعود الى العراق

    وهل يعود

    من كان تعوزه النقود، وكيف تدخر النقود

    وأنت تاكل إذ تجوع، وأنت تنفق مايجود

    به الكرام، على الطعام

    لتبكين على العراق

    فما لديك سوى الدموع.



    ورغم هذه القسوة ومرارة الغربة والعذاب فقد كان السياب ثوريا عنيفا، يقارع الطغاة قراع الأبطال وينبيء بثورة الفقراء الجياع القادمة.



    أكاد أسمع العراق يزخر الرعود

    ويخزن البروق في السهول والجبال

    حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال

    لم تترك الرياح من ثمود

    في الواد من أثر



    وهكذا اتخذ السياب من المطر رمزاً للثورة لأن المطر رمز الخصب والنماء وخلق الثمر والزهر. . ولكن لم يلبث أن تهدأ عواطف هذا الشاعر المكلوم فيتزوج إحدى قريباته من آل العبد الجليل سنة 1956م. ليعود على إثرها الى العراق فهدأت ثورته وعاش سعيدا مع ابنه غيلان وابنتيه آلاء وغيداء، وها قد جاء المطر الذي يشر به وتندلع ثورة14 تموز 1958م. ويأتي على إثرها البشير بالأمل والآمال، ولكن لايلبث أن تنحرف الثورة عن مسارها الصحيح ويستبد شهوة الحكم بقائد الثورة عبدالكريم قاسم، ويحدث ما لم يتوقعه الشاعر. مما جعله ينآى بنفسه عن أفكاره الثورية مبتعداً عن رفاق الأمس الشيوعيين، حيث رآى الأشخاص يسحلون في الشوارع ويسحبون وهو الرجل العاطفي الذي يتأثر بأبسط المثيرات فقال مهاجماً أقطاب الثورة.



    من الذي أطلق من عقالها الذئاب

    من الذي سقى من السراب

    وخبأ الوباء في المطر



    وكان السياب في هذه الأثناء يعمل محررا في جريدة الجمهورية، ومدرسا في إعدادية الأعظمية ثم أوقف عن العمل في عام 1955م. فانتقل الى البصرة ليعمل في مديرية الثقافة في مصلحة الموانيء العراقية، ثم ذواقة للتمور، ثم محررا لمجلة الموانيء العراقية.

    ولكن بدأ القدر يلاحقه وينخر المرض في جسمه النحيل، وتسلل الشلل الى جسمه عضواً عضواُ، إنه شلل بطيء لاعلاج له، وغدا المرض يستفحل في جسمه أكثر فأكثر، وبدأ يداوي نفسه بكل أنواع الأدوية ولكن لم يفلح الأطباء في الحد من تسلل هذا الداء الوبيل على جسده المنكوب، وقد تخلى عنه في محنته الأصدقاء والمقربين، وبدا المرض ينتقل من السيء الى الأسوأ، وفي المرحلة الأخيرة خانته قدماه فلم تقويان على حمله، فسافر الى بيروت وهناك استنفد كل ماله وعاد الى العراق دون جدوى، ثم سافر مرة أخرى الى الغرب إيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا، ولكن المرض كان يزداد سوءا واستفحالاً، فعاد الى وطنه العراق ثانية وقد أضاف إلى ألم ساقيه قرحة المعدة هذه المرة، فعاش في البصرة صابراً محتسباًُ،ألا أنه لم يصبرعلى بلواه فشد الرحال إلى الكويت هذه المرة، وهناك ساعده المدعو علي السقبي في طبع ديوانه (شناشيل ابنة الجلبي). ولكن عاوده الألم من جديد وبدا المرض ينهش جسده، فتراءى له شبح الموت يحوم أمام باب داره كأنه ينتظره بفارغ الصبر، فبدأ الشاعر يرسل من أعماقه صرخة الإحتجاج العنيف وهو يرى شبابه يذوي بين يديه فيقول:



    أهكذا السنون تذهب

    أهكذا الحياة تنضب

    أحس أنني أذوب أتعب



    لقد كان الشاعر مشاركا بشعره في أحداث بلاد، قبدا ناقماً على ثورة 14 تموز بعد أن مدح قائدها عبدالكريم قاسم، وحينما قامت ثورة 1963م كان في المستشفى بالكويت فقال:



    هرع الطبيب الى وهو يقول: ماذا في العراق

    الجيش ثار ومات قاسم، أي بشرى بالشفاء



    ولكن كان حنينه الأكبر إلى بلاده متعلقاً بها والى قريته جيكور ونهرها البويب، يحن إلى وجه الأم الميتة، الى بغداد والناس في العراق، إلى آمال هفت بها نفسه طوال حياته، وكان يؤلمه وهو في مرضه حالة أطفاله من بعده، ويتصور أن ثمة إنسانا لن يشفق عليهم فيقول في قصيدة (عكاز في الجحيم):



    بيت المشلول هنا أمسى لايملك أكلاً او شرباً

    وسيرمون غداً بنتيه وزوجته درباً

    وفتاه الطفل إذا لم يدفع متراكم إيجار



    وقد أخذ عليه مدح المسؤلين لقاء مساعدة مالية، كما أخذ عليه مدحه لشيخ الكويت يرجوه فيها أن يرسله للعلاج في الخارج، وفيما عدا هذا فقد كان موقف بدر موقف القوميين- الاشتراكيين. حيث كان الشاعريحلم بعالم ليس فيه سيد وعبد، عالم المساواة والحرية يعيش فيه الإنسان آمناً على نفسه وأهله وماله، وبذلك ارتفع بدر الى مرتبة الشعراء العظام الذين ارتقوا بشعرهم إلى مستويات عالية.

    ويحز في نفسه وهو في مستشفى بيروت في أول مرضه، أن يسبب له المرض فراقه لأهله وأطفاله وأحبته، فيحاول ان يعتذر لزوجته ويوصيها بابنه غيلان وإنه يضمر لها كل الحب والإخلاص فيقول:



    إقبال يازوجتي الحبيبة

    لاتعذليني ماالمنايا بيدي

    ولست لو نجوت بالمخلد

    كوني بغيلان رضى وطيبة

    كوني له أباً وأماً وارحمي نحيبه

    وعلميه أن يذل القلب لليتيم والفقير

    لاتحزني إن مت أي باسِِِِِِِِِِِِِِِِِ



    يذهب الشاعر إلى لندن وتتناقله أسرة مستشفياتها، ويتناوبه اليأس والأمل ويحلم بالعودة إلى بلده وأهله وأطفاله وزوجته حاملاً لهم الهدايا والمنى.



    وزوجتي لاتطفيء السراج قد يعود

    في ظلمة الليل من السفر

    وتشعل النيران في موقدنا برود

    هو المساء، وهو يهوى الدفء والسحر



    ولكنه كان يغضب من زوجته أحياناً، فربما خيل له المرض أنها فعلا لاتحبه فتثور ثائرته ويحس بالجفوة والنكران، فيقول كل ما في نفسه دون مواربة حتى إنه كان يتمنى لو لم يتزوج



    واشرب صوتها .. فيظل يرسم في خيالي صف أشجار

    أغازل تحتها عذراء، أواها

    على أيامي الخضراء بعثرها وواراها

    زواج، ليت لحن العرس كان غناء حفار



    ويشتد عليه المرض فيعود إلى الكويت فتخبره الزوجة بأنها ستزوره، فيكاد يطير من الفرح فيعدل هو من رأيه فيها فيقول:



    كل ما يربط بيننا محض حنين واشتياق

    ربما خالطه بعض النفاق



    ولكنه تشائم من إصرارها على العودة الى العراق وقد اشتد عليه المرض في هذه الأثناء، وكانت زوجنه مسؤلة في نظره عن تدهور صحته فقال في قصيدة(القن والمجرة) وفيها ثورة عارمة على إقبال زوجته ليقول:



    ولولا زوجتي ومزاجها الفوار لم تنهد أعصابي

    ولم ترتد مثل الخيط رجلي دونما قوة

    الا تباً لحب هذه الآلام من عقباه



    اما الموت فله شان آخر مع السياب، وتكاد لاتخلو قصيدة من قصائده من ذكر الموت، وكان الموت أحياناً فداء لحياة جدية ساحرة



    بعد أن سحروني وألقيت عيني نحو المدينة

    كدت لا أعرف السهل والسور والمقبرة

    كان شيء مدى ماترى العين

    كالغابة المزهرة كان في كل مركب صليب وام حزينة

    قدس الرب - هذا مخاض المدينة



    ولكن لم يعد الموت جميلاً، لم يعد موت المناضلين وتضحيتهم وسموهم، إنه غدا موتاً مجنوناً فتمنى الشاعر الموت وههو يضيق صدره ألماً وينزف قلبه دماً.



    يا حبال القنب التفي كحيات الس***

    واخنقي روحي وخلي الطفل والأم الحزينة

    يا حبالاً تسحب الموتى إلى قبر كبير

    ومع ذلك ظلت االأمنية بغد افضل يراود الشاعرويدغدغ آماله واحلامه.

    ولفني الظلام في المساء

    صحراء نومي تنبت الزهر

    فإنما الدماء

    توائم المطر



    وفي شعره الثوري وفي لحظة من لحظات حياته القاسية، يتحول اهتماماته من ذاته إلى المجتمع، وكان ذلك في قصيدة نظمها عام 1948م وفيها يتخيل نفسه ماضياً الى التراب حيث أمه، ويتخيل نفسه يمضي ويترك الناس في هذه الأرض، بينما الطغاة يستثمرون المساكين الجائعين في عراقه الحبيب



    سوف أمضي.. ومازال تحت السماء

    مستبدون يستنزفون الدماء

    سوف أمضي وتبقى عيون الطغاة

    تستمد البريق

    من جذى كل بيت حريق

    والتماع الحراب

    في الصحاري، ومن أعين الجائعين

    سوف أمضي.. وتبقى فيا للعذاب



    وفي قصيدة المومس العمياء يربط الشاعر بين الفقر في بلاده والإستعمار، فالمومس تدفع أجراً ليليلا عن المصباح الذي يضيء بيتها، وتقول لو ادخرت أجر سنا هذا المصباح على مر السنين لأثريت. و هو ما يرمزإلى الإستعمار واستغلاله لنفط العراق فيقول:



    هاهو ذا يضيء فأي شيء تملكين

    ويح العراق، أكان عدلا فيه أنك تدفعين

    سهاد مقلتك الضريرة

    ثمناً لملء يديك زيتاً من منابعه الغزيرة

    كي يثمر المصباح بالنور الذي لاتبصرين



    ليس هذا فحسب بل عايش السياب حركات التحرر العربي ضد الإستعمار فبدأ يمد بصره الى ابعد من العراق الى الوطن العربي كله، فيجده مكبلا يالقيود والاصفاد، فاندفع يشاركه النضال بشعره وكلماته المؤثرة، فكان السياب يجد مايجري في تونس والجزائر تعبيرا عما في نفسه من ثورة عارمة على الظلم والاضطهاد واللامساواة في هذا العالم، منتظرا ذلك اليوم الذي تدك فيه عروش الاستعمار وأعوانه فيقول:



    لم يقرؤون لأن تونس تستفيق على النضال

    ولأن ثوار الجزائر ينسجون من الرمال

    ومن العواصف والسيول ومن لهاث الجائعين

    كفن الطغاة؟ وماتزال قذائف المتطوعين

    يصفرن في غسق القتال

    لم يقرؤون وينظرون إلي حينا بعد حين

    كالشامتين 172



    ومن هذا القبيل قصيدته التي نظمها في بورسعيد بالوزن ذاته الذي نظمت عليه قصيدة ابي تمام في فتح عمورية



    حييت بورت سعيد من مسيل دم لولا افتداء لما يغليه ماهانا

    حييت من قلعة صماء ناطحها عاد من الوحش يزجيهن قطعانا



    أما شعره الإنساني فتقول المؤلفة اندلعت نار الحرب العالمية الثانية والسياب كان لايزال فتى في الرابعة عشرة من عمره، فبدا متالماً للأطفال الذين يزحمهم الرصاص والحديد، ويبعدهم عن صدور أمهاتهم الحنونة، وتنفجر قنبلة في هيروشيما فتدمر وتبيد البشر بالجملة وتتم@@@ ابناءها أشلاء مبعثرة، وتنشق الارض وتبتلع الصغار والكبار. ولهذا سخر جانبا من شعره لمثل هذه القضايا الانسانية معبراً عن ذلك بكثير من الحسرة والأسى:



    أماه إنا هنا، ريح بنا عصفت

    لم ندر أين انتهينا بعد لقياها

    وانشق من خلفها قبر ليبلعها

    واحتازها واشرأبت منه كفاها



    ولايدع السياب الطغاة ينعمون بالراحة والأمان فييهاجمهم هجوماً عنيفاً مبيناً سوء أعمالهم، وهم الذين لايريدون من الناس إلا أن يكونوا عبيداً لهم، يكدحون ليقدموا ثمرة الجوع والكد والسقم لقمة لمستثمريهم فيقول:



    لأن الطغاة

    لايريدون الا تتم الحياة

    مداها، والايحس العبيد

    بأن الرغيف الذي يأكلون

    أمر من العلقم

    وأن الشراب الذي يشربون

    أجاج بطعم الدم

    وأن الحياة، الحياة انعتاق



    ثم تنقلنا المؤلفة بعد هذا الى الفن الشعري عند السياب، وتستشهد بقول للدكتور النويهي الذي يقول: إن الشعر المنطلق الذي أنشأته نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، والذي سماه آخرون بشعر التفعيلة.....وعلى الرغم مما فيه من نقص وفجاجة، هو مناط الأمل في مستقبل خصيب لشعرنا العربي. ثم تعدد العوامل التي أثرت على شعر السياب وهي:



    ا- التغيرات الضخمة السياسية والإجتماعية التي حدثت في الوطن العربي في عصره

    ب- التقدم العلمي والصناعي في القرن العشرين، الذي أثر على مفاهيم المجتمع والطبيعة والإنسان.

    ج- سقوط الوجود العربي التقليدي مع تغيرات العصر

    د- إكتشاف البؤس والشقاء والواقع المزري لدى الجماهير في العراق وفي الوطن الهربي ككل

    ه- الثقافة الأجنبية التي كانت ينهل منها السياب ودراسته للتجارب الشعرية الغربية وخاصة الإنكليزية والفرنسية منها.

    و- إنتقال السياب الى المدينة وإحساسه بالغربة فيها، وافتقاره الى المال في ظل العمائر الضخمة والشوارع المكتظة والعادات المختلفة.

    كما لجأت المؤلفة إلى تقسيم مراحل تطور شعر السياب الى عدة مراحل لكل مرحلة منها خصوصيتها الشعرية والمفاهيمية منها

    1- مرحلة الصبا الرومانتيكية: وقد بدأت معها بذور التمرد على الواقع الإجتماعي والسياسي

    2- المرحلة الواقعية: وفيها بدا السياب شاباً، يحس دوره في النضال من أجل قضايا الجماهير وتطلعاتها نحو الامن والحرية والسلام والمعيشة، وأصبح التجديد في شعره في الشكل طابع الشاعر، وفيها انفصل عن الشعر العمودي انفصالاً تاماً

    3- المرحلة الذاتية: وهي مرحلة الذكريات والعودة الى الماضي

    بعدها تنقلنا المؤلفة إلى التحليل العلمي الدقيق لخصائص وسيمات شعر السياب، وترى هذه الخصائص بالشكل التالي:

    1- تمسك الشاعر بالجزالة العربية وبالحفاظ على الوزن:



    تلك أمي وإن أجئها كسيحاً

    لاثماً أزهارها والماء فيها والترابا

    ونافضاً بمقلتي أعشاشها والغابا



    2- عنايته بالصور والتشابيه الجديدة: وهي قد تكون لنماذج بشرية كالمخبر، وحفارالقبور، والمومس العمياء، والناطور، وبياع الطيور...الخ. ويدرس نماذجها دراسة دقيقة



    ويمر عملاق يبيع الطير، معطفه الطويل

    حيران تصطفق الرياح بجانبه، وقبضتاه

    تتراوحان، فللرداء يد وللعبء الثقيل

    يد، وأعناق الطيور مرنحات من خطاه

    تدمى كاثداء العجوز يوم قطعه الغزاة



    3- استعماله الرمز والأسطورة: كانت صوره الأسطورية تتدفق بقوة وحرارة في شعره، فكانت الأسطورة تولد أحياناً في شعره انطلاقاً من الخيال، وأحيانا تبدو مثقلة بالغموض والأخطاء التاريخية، فالمطر عنده رمزالثورة والخير والتغيير، وجيكور ونهرها البويب أصبحا رمزاً للوجود، والوطن للأمل والياس والراحة والحنين، والموت هو الحركة والتمدد، الموت تحقيق للحرية وهو النضال والاستشهاد، والأطفال هم الأمل والحياة والسلام، بينما السور فهو الغربة والفراق، كما يستعمل الكثير من كلمات الصلب، والمسيح، واليعازر، والجلجلة.

    وحول استخدام الأساطير والغموض في الشعر قال أحدهم: لابد لقاريء الشعر الحديث من أن يضع الى جانبه معجم يشرح كلمات الأساطير التي يستعملها الشعراء المحدثون والمستمدة من الاساطير اليونانية بشكل عام

    4- لغته الفنية: يلاحظ أنه يكثر من استعمال الالفاظ المجازية، فقد استعمل اللهاث للرياح، والعويل للموج، والحيرة للبصر، وجعل للضياء أعمدة، ولليل أغصاناً، وللنور تنفساً، واستمد الكثير من الفاظه من الطبيعة العراقية، كالنخيل، والقلوع، والمد والجزر، والخليج، والسفائن وكلمات عامية، مثل خطية، وحاش، والشناشل، وكلمات قديم كالخيمة مثلا.

    5- تأثر السياب بالقصة الدينية والتاريخية وبالحكايات الشعبية: ومن هذه القصص التي استخدمها في شعره عروة وعفراء، و قابيل وهابيل، وقيس وليلى، وآدم وحواء، ويأجوج ومأجوج، ثم ويوسف وزليخا...الخ. وأكثر هذه القصص وروداً لدى السياب هي قصة قابيل وهابيل، وقد وردت في قصائد المخبر- مرثية الآلهة- من رؤيا فوكاي- قافلة الضياع - حفار القبور - المومس العمياء...



    الموت في البيوت يولد

    يولد قابيل لكي ينتزع الحياة

    من رحم الأرض ومن منابع المياه

    فيظلم الغد



    6- استغلاله الأغنية في نسيجه الشعري: ومن الأغنيات التي اقتبسها أغنية نوار في عرس القرية، وأغنية الأطفال إذا امطرت السماء.

    7- عفوية الشاعر: رغم هذه العفوية والبساطة في التعبير ألا أن شاعريته الفذة وقدرته اللغوية كانتا تغطيان هذه العفوية.

    8- التكرار: وقد يكون في تكرار كلمة، أو تكرار بيت كامل مثل.



    ذراعا أبي تلقيان الظلال على روحي المستهام الغريب

    ذراعا أبي والسراج الحزين يطارداني في ارتعاش رتيب



    والتكرار اسلوب امتاز به السياب، وهو ايضاً أساليب امتاز بها الشعر الحديث، والتكرار يدل على الإلحاح على جهة ما أوفكرة معينة، يريد الشاعر إيصالها إلى القاريء، ولها أهميتها في موضوعه الشعري، ويريد من القاريء استبعابها جيداً.

    9- مثاليته وعاطفته الحرة: دخل السياب تجربة جديدة، أخفق فيها حيناً ونجح حيناً آخر، وكان له الفضل في الريادة والتجديد الشعريين.

    وفي النهاية تنهي المؤلفة كتابها القيم، بهذه العباراة قائلة: هذا هو السياب الذي مات شاباً، ولكنه استطاع ان يترك من الشعر ما يجعله ماثلاً ابداً أمامنا، يعيش بيننا ويترجم مشاعرنا ويتحدث عن مصائبنا، في قرننا العشرين. هكذا توفي شاعر العراق الأشهر بدرشاكر السياب في الكويت في صباح 24/12/1964 م عن عمر ناهز التاسعة والثلاثين عاماً، فنقل جثمانه إلى البصرة حيث دفن في مقبرة الحسن البصري في قضاء الزبير جنوبي العراق.

  2. #2
    صديق نشيط
    تاريخ التسجيل: October-2020
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 244 المواضيع: 6
    التقييم: 300
    آخر نشاط: منذ أسبوع واحد
    رحم الله الشاعر الكبير... بدر شاكر السياب

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال