أسئلة كثيرة وهواجس تجرك إلى تجربة السجين في زنزانة كالقبر، ويبقى حياً بضعة عقود من الزمن؟ ضنك تضيق به كلماته وتضحك على احلامه الايام !!!
- السجن حالة متناقضة مع فطرة الإنسان وكينونته، ولذا تنقص إنسانية الإنسان في السجون. وبمقدار ما يتحفز فيه وعيُه لنقصه يتحفّز فيه وعي آخر عميق كإنسانيته لاسترداد ما سُلِب منها، وخلق إنسانية أخرى بلا حفرٍ مظلمة فيها وبلا عاهات ترافقه طوال فترة سجنه، وبمعنى آخر يكون نضالاً إنسانياً مشروعاً بمقدار سمو الفكرة التي سجن من أجلها، ومع الوقت تغدو الحرية هي الغاية لأنها تضمر الموجود الأبهى كله. كان الفضاء ضرورياً، وكانت الشمس إغراء شهياً، والخروج من الزنزانة/ القبر خروج من الظلمات التي تحتل الروح قبل المكان، وقتها بدأت أعي لماذا اقترن الحزن بالسواد، ولماذا نلبس الأسود في المآتم، وكأننا نقول للناس إننا في منطقة الحزن فأخرجونا منها بمواساتكم. في السجن تدرك معنى الحرية كوجود وليس كشعار سياسي، تدرك أن اعتقال الحرية يعني حذف الإنسان وإلغاء ارتباطه بحقه في كينونة مكتملة غير منقوصة. ومن هنا تدرك حدَّة الانتماء للحياة عند السجين وحدَّة نضاله من أجلها.
زمن الأسر كالفيل
- يجثم الزمن كالفيل على إحساس الشاعر ويمنعه من استنشاق الهواء. الزمن يُلْغَى في السجن سوى زمنك الخاص الذي تحاول خلقه باستمرار عبر الحلم، وبكثافة تكرار الحلم تدخل في يوغا من نوع يجعل الواقع ملغى ويصبح الحلم هو الواقع، وتكون قدرة الإنسان في تفوقه بقتل الواقع وخلق الزمن الآخر حتى لكأنك فيه. وتحس وأنت تمارس حلمك أنك تشارك الله في الخلق عبر تكوين "فراديسك المفقودة". يبدو أن الذي يشدنا للحياة هو الشوق لمعرفة الآتي بشكل متجدد، فإذا كنت سجيناً، ولا تعرف مدة سجنك، تموت لديك الرغبة في الحياة لأنك تعي تماماً أن اليوم كالغد، وهذه السنة كالسنة القادمة، وهكذا يتحول الزمن إلى رماد جاثم فوق وعيك وإحساسك، وبانقطاعك عن الناس تشعر أن الزمن واقف، وتصبح مشتاقاً لاجتيازه، ولو عبر الموت وأرض السكلوب وجزر الساحرات. الزمن الذي يخلو من المفاجأة هو موت في حياة لا يتحرك فيها شيء، ومتى تدخل في الحلم تدرك لتوِّكَ أنك في مقبرة مهددة بالحياة. الحلم هو الحياة الحقيقية في المعتقلات الطويلة المدد، والضيقة المكان.
كانت الغربة تتسع في داخلي، وبدأت أغترب أكثر عن وعيي الخارجي، وبخاصة في فترات الانفرادي التي كنت فيها وحدي والتي تتكرر بين الفينة والاخرى بحجة مخالفتي للاوامر، كانت سنوات الأسر الأخرى التي قضيتها مع الأسرى فقد كانت شيئاً مختلفاً تماماً، لقد شعرت وأنا أدخل في معسكر الأسرى بعد عشر سنوات من الانفرادي أنني عائد إلى وطني
لا يمكن للإنسان أن يعي أهمية الوطن وشدة التصاقه بالعمق الإنساني إلا في حالة فقد الوطن وهروبه من تحت قدميك ومن محيطك اللاّحيوي الذي تتنفس فيه الغربة باستمرار ومن روحك التي لا يشبهها إلاّ تفاصيل الوطن. ولشدة احتياجي إلى وطن رحت أؤسس وطناً في اللغة، ولم يعد الوطن رمزياً لشدة كثافة إحساسي بحضوره.
* كيف يحلم المسجون؟ كيف يتأقلم الحلم مع المكان الضيّق؟ كيف يحلّق خارج أسوار السجن؟
- رحت أصرّ على تنمية خيالي عبر تدفق الحلم بعد ممارسات روحية عميقة، وكنت متأكداً أن الخيال المهزوم لا ينقذ، ولا يجعلك قادراً على اجتياح المساحة الزمنية المرعبة التي تحيط بك. وسيجعلني جثة في قبر غير جميل.
أما المرأة فهي بالنسبة للإنسان المعتقل الفردوس المفقود، كما كان حضورها ضرورياً في تلك الغربة التي تشبه الموت، المرأة في السجن يعدل حضورها الحرية، وهي لا تبرح السجن أبداً وحضورها فيك هو عذاب بمقدار ما هو حلم ضروري لاستمرار دقات القلب في ذلك الصدر المحشوّ بالقهر والغربة والظلام، لا يمكن أن تتحقق فردية الإنسان إلا من خلال تلك الثنائية، وانشطار المرأة عنك في ظروف صعبة لا يتيح لك المجال لتكون سوياً، للمرأة في الأسر أسماء أخرى هي أشهى ما يُقدَّم على مائدة وجودك الإنساني:
* الكلمة في عتمة السجن وعتمة الدماغ كيف تنمو؟ كيف تتجدّد خلاياها؟ كيف تعاني القصيدة؟
- على المستوى الشعري فقد صارت الكلمة جزءاً من لحمي الحي، وبدأ الشعر يغريني بهزيمة الوقت الذي لا يتحرك. كان الشعر هو القطار، والهواء والأفق، كان ترجمة لإرادة الحياة فيَّ، ولم يكن ترفاً لنيل شهرة أو حضور لا يعني في النهاية إلا مزيداً من الاغتراب الحقيقي. كان الشعر بديلاً للموت، ودخولاً في الشمس، وبمقدار ما كان المكان يمنعني من الحركة كان الشعر سفراً رغم السجن والسجان والجدران السميكة والأسلاك الشائكة العريضة، كان الشعر يعني حضور المكان الآخر، وكان إلغاء للموت والحصار والمنفى. كتبت في الأسر كثيراً من القصائد أصدرتها بعد خروجي من السجن في "العناد في زمن مكسور" و"إن الخلود متاعٌ سعره الجسد" و"الحجر الصبور". ومن الطبيعي أن الشعر هذا خرج معي في ذهني وليس على ورق، وأعتقد أنني استطعت أن أكون نفسي فيما كتبت بكل ضعفها وقوتها أمام تجربة السجن التي استمرت عشرين عاماً. تجربتي الشعرية في السجن هي أنا بكل ما فيّ من تقلبات وتحولات داخلية، كان الخارج ملغى تماماً، وكان مستبعداً من وجداني وحاضراً كالجرح، ولذلك كان الشعر يشبه الضماد لنفس ممزقة ومجموعة في زنزانة. كان في الشعر ما يشبه الفرح لأنه كان يلغي كثيراً من الساعات القاسية، كنت أرتاح أثناء الإقامة في الشعر، وهكذا أصبح الشعر موازياً لاستمراري متعلقاً بأمل الخروج من جوف الحوت والذي لم أكن أسمع في جوفه سوى صرير الباب الذي كان قلبي يصرّ معه تماماً. كان لانفتاح الباب شيء في داخلي يجعلني وكأنني أهيئ نفسي للخروج، وحين يُغلَق كان ينغلق معه شيء في داخلي. كان الباب في حالتيْه ضوءاً وانطفاءً، وبين الحالتين كنت أشعر بانهيار عوالمي، ثم أحاول بناءها ثانية في محاولة شعرية جديدة. بهذا المعنى كان الشعر عندي أحد وسائل ملامسة الحرية بكل ما فيها من إغراء، ومن هنا كانت أهمية أن تكون شاعراً في سجن، وقتها يصبح الشعر كيمياء التحول والتجوال في الممنوع، ويصبح ضرورياً لبقائك إنساناً غير مخترق ومتصلاً بالممنوع الذي لا يأتي إلا في بريد الشعر، كانت الحرية تتناوأ علي من خلف باب اسمك من جدار القبر. ويخطئ من يظن أن الشعر الملتزم بقضايا الإنسان الكبرى هو شعر أيديولوجي. إنه أعمق من الأيديولوجية، وأبقى من أي ترف شعري يغري ويسلي، ولا يسافر بقوة في العمق الإنساني المتحفز للخروج من معتقل الروح، ولذلك يصبح جزء منك في الخارج وجزء في داخل السجن في تناوب عجيب يذر على باب الزنزانة السميك مزقاً من روحك وقلبك. إن الشعر بهذا المعنى يفسر التجارب الصعبة، ويدخلها في ما بعد باستمرار. لعل الأسر أصعب تجربة يمر بها الإنسان. أما قضية الإعدام فلا يعوزها إلا قرار جريء، ويصبح بعدها كل شيء سهلاً. الأسر موت طويل طويل لا يعدله الموت نفسه.
* النفس هل تُسجن مع السجين أم تتأقلم هي الأخرى؟ أما أنها تألف قبرها؟
- على المستوى النفسي غسلتني تجربة الأسر من كل البقع السوداء التي تعلق بالنفس البشرية في تجربتها بين مشيمة الزنزانة والمشيمة الأخيرة/ القبر. وانتفت حالة عداء الآخر من وجداني، كنت أحسّ أحزان الحارس وتلك المناطق البعيدة، إنه يشبهني في الأسى وهو يغني أغانيه الحزينة لحبيبته في تلك الأصقاع البعيدة. لم نعد سجيناً وسجاناً، كنا متوحدين إلى أقصى ما يجمع غريبين في تلك الليالي العاصفة في "رينه " المتكئة على خصر "دماوند" العظيم. كان بيننا حالة ولغة لا نفترق بهما إلا أمام الموت. لقد انتفى العداء من داخلي،.
خيانة الوعي