لم يكن صاحب المقهى يعرف أن اللوحة التي جاء بها من مخزن يضم مخلفات المباني الحكومية التي هدمها والده المقاول؛ هي إحدى أعمال الفنان الرائد عبد الهادي الجزار، أحد أهم رموز الحركة الفنية المعاصرة في مصر، والذي تباع أعماله الفنية بملايين الجنيهات بالمزادات العالمية.
مسؤولو وزارة الثقافة يحتفون باستعادة لوحتين نادرتين للفنانين صلاح طاهر وصالح رضا (الصفحة الرسمية لوزارة الثقافة على فيسبوك)
القاهرة- أعاد العثور على لوحة مفقودة منذ نصف قرن للفنان المصري عبد الهادي الجزار؛ فتحَ ملف ضياع جزء كبير من تراث مصر التشكيلي تحت سمع وبصر المسؤولين.
واللوحة التي تحمل اسم "من وحي فنارات البحر الأحمر" ورسمها الجزار عام 1964، ظلت مفقودة منذ خرجت عام 1971 من متحف الفن المصري الحديث إلى مبنى وزارة الثقافة، حتى عثر عليها عن طريق الصدفة في أحد المقاهي بمنطقة شبرا الخيمة.
ولم يكن صاحب المقهى يعرف أن اللوحة التي جاء بها من مخزن يضم مخلفات المباني الحكومية التي هدمها والده المقاول؛ هي إحدى أعمال الفنان الرائد عبد الهادي الجزار، أحد أهم رموز الحركة الفنية المعاصرة في مصر، والذي تباع أعماله الفنية بملايين الجنيهات بالمزادات العالمية.
وتلقى صاحب المقهى عرضا سخيا من أحد الزبائن لشراء اللوحة بمبلغ مليوني جنيه، وهو ما لفت انتباهه إلى أهمية اللوحة، قبل أن يقرر إعادتها إلى وزارة الثقافة بعد أن علم أنها من مقتنيات الدولة المفقودة، وأن الوزارة أصدرت بيانا تحذيريا بشأن محاولات بيعها.
متحف الفن المصري الحديث يضم أكثر من 15 ألف عمل فني أغلبها محفوظ في المخازن (مواقع التواصل)
وتعد لوحة "الفنارات" إحدى مئات الأعمال الفنية المفقودة لكبار الفنانين المصريين خلال العقود الماضية إما بسبب السرقة، أو إهمال المتابعة من وزارة الثقافة بعد إعارتها لمكاتب وزراء ومصالح حكومية وسفارات.
والمثير أنه بعد أيام قليلة من العثور على لوحة "الفنارات"، أعاد الشخص نفسه لوحتين تشكيليتين نادرتين إحداهما للفنان الرائد صلاح طاهر بعنوان "الريف" والأخرى للفنان صالح رضا بعنوان "دائرة وجذع"، كانتا أيضا من مقتنيات متحف الفن الحديث، وتمت إعارتهما خلال سبعينيات القرن الماضي لإحدى الجهات الحكومية.
فساد منظم
وكشف الناقد والفنان التشكيلي عز الدين نجيب -في عدة مقالات نشرها مؤخرا على صفحته على فيسبوك- عن عدد من وقائع ما سماه "الفساد المنظم" في متاحف الفن التشكيلي والتي أضاعت جزءا مهما من ثروة مصر الفنية.
وأكد نجيب أنه سلم وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم قبل 3 سنوات ملفا مدعما بالمستندات والأدلة يكشف عن السرقات والانتهاكات في هذه المتاحف، لكن مصيره كان التجاهل.
واعتبر الفنان المصري أن العثور على لوحة الجزار يلقي الضوء على مئات الأعمال التي خرجت من متحف الفن الحديث على مدار العقود الماضية ولم يعد أغلبها وكثير منها مفقود، بلا مساءلة أو عقاب، بل "بتواطؤ مشين لا يمكن إنكاره"، وفق قوله.
وفجّر نجيب مفاجأة بأن عدد الأعمال الفنية التي أعيرت إلى جهات حكومية ودبلوماسية وأهلية منذ السبعينيات بلغ أكثر من 5 آلاف عمل فني، مشيرا إلى أنه لا توجد قاعدة بيانات دقيقة عن أغلبها، ومصير الكثير منها مجهول.
مصير مجهول
أما لوحة "الفنارات" التي تم العثور عليها مؤخرا فلم تكن اللوحة الوحيدة المفقودة للفنان عبد الهادي الجزار، فهناك لوحته الشهيرة "إنسان السد العالي" التي رسمها عام 1964، تجسيدا لمشروع بناء السد العالي، أكبر المشروعات القومية وقتها.
وقد باعت زوجة الجزار لوحاته للدولة بعد عام من وفاته، وكان من بينها لوحة إنسان السد، التي قدمها قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة عام 1967 هدية إلى الاتحاد الاشتراكي (الحزب السياسي الحاكم والوحيد في ذلك الوقت) لوضعها في مبناه المطل على نيل القاهرة.
وفي عام 1978 انتقلت ملكية المبنى ومحتوياته إلى الحزب الوطني الذي حل محل الاتحاد الاشتراكي، وظل الحزب الوطني يحكم البلاد حتى قيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 والتي شهدت احتراق مبنى الحزب بالكامل.
وقد صار مصير اللوحة مجهولا، فبينما رجح الناقد الراحل صبحي الشاروني احتراقها داخل مقر الحزب، أكدت زوجة الجزار في تصريحات سابقة أنها شاهدت اللوحة في ندوة عقدت بمتحف الفن الحديث عام 2012.
وفي عام 2015 شكلت وزارة الثقافة لجنة فنية للبحث عن اللوحة ومعرفة مصيرها، ولكنها لم تظهر حتى الآن ولا يعرف مكانها.
خبراء يفحصون لوحة "الفنارات" للفنان الرائد عبد الهادي الجزار (الصفحة الرسمية لوزارة الثقافة على فيسبوك)
تراث مفقود
لوحات أخرى شهيرة كان مصيرها مثل مصير لوحة الجزار، بعضها اختفى خارج البلاد بعد أن شوهد لآخر مرة في سفارات مصر بالخارج مثل لوحة "الراهبة" لرائد فن البورتريه في مصر أحمد صبري، ولوحة "زوبعة على الكورنيش" لرائد الفن التشكيلي المصري محمود سعيد.
واختفت الكثير من لوحات كبار الفنانين داخل مصر، ومن بينها 71 لوحة دفعة واحدة للفنانة التشكيلية الراحلة إنجي أفلاطون (1924-1989).
وكانت أفلاطون قد أوصت بتسليم أعمالها التي تجاوزت 900 عمل للدولة لوضعها في متحف خاص بها، لكن اللوحات ظلت مهملة لسنوات، قبل أن يتم وضع بعضها في متحف صغير بقصر أمير طاز الأثري بمنطقة السيدة زينب عام 2010.
وطالب ورثة الفنانة باستعادة باقي أعمالها ليكتشفوا اختفاء 71 عملا فنيا، لم يظهر منها حتى الآن إلا لوحة واحدة.
وبدوره يؤكد الفنان عز الدين نجيب أنه اكتشف اختفاء العديد من أعماله التي باعها لمتحف الفن الحديث؛ حيث أعيرت إلى جهات "مجهولة" وأخفقت محاولاته لمعرفة مصيرها أو التأكد من وجودها فعلا لدى الجهات المعارة إليها.
سرقات بالجملة
وإذا كانت اللوحات السابقة لم يعرف مصيرها، فقد تعرضت العديد من اللوحات الفنية المصرية للسرقة بالفعل خلال السنوات الماضية، بخلاف ما تم سرقته من لوحات عالمية من متاحف مصرية مثل لوحة زهرة الخشخاش للفنان العالمي فان غوخ.
وأشهر عمليات السرقة وقعت مطلع عام 2017، حين تمكن أحد المصورين من دخول متحف الفن الحديث وسرقة 5 لوحات للفنان الرائد محمود سعيد قدرت قيمتها بنحو 50 مليون جنيه مصري (نحو 2.6 مليون دولار)، بعد وضع مستنسخات مقلدة مكانها، من دون أن يشعر بذلك أحد.
ولم يتم اكتشاف السرقة إلا بعد أيام، وتمكنت السلطات من القبض على السارق واستعادة اللوحات المسروقة.
ورغم ما أظهرته الواقعة من تقاعس المسؤولين والضعف الأمني الواضح في المتحف الذي يصل حد التواطؤ، اكتفت السلطات بإقالة مديرة المتحف وقتها وتوقيع "جزاءات إدارية" على بعض المسؤولين.
وفي عام 2008 سرقت لوحتان للفنان حامد ندا من دار الأوبرا المصرية، وتمكن السارق من بيعها لمدير مشروع "أتيليه جدة" آنذاك الفنان هشام قنديل الذي غادر بهما البلاد إلى جدة، قبل أن يعلم بعد يومين أن اللوحتين مسروقتان، فقرر إعادتهما لوزارة الثقافة.
طلبة مصريون يزورون متحف الفنانة الراحلة إنجي أفلاطون (مواقع التواصل الاجتماعي)
الإهمال القاتل
ولا يواجه التراث الفني التشكيلي خطر السرقة والفقد فحسب، وإنما يمتد الأمر إلى مخاطر التلف بسبب الإهمال وسوء الحفظ سواء في مخازن المتاحف نفسها أو في أماكن إعارتها.
ويشير الناقد والفنان التشكيلي عز الدين نجيب إلى أن آلاف اللوحات التشكيلية الحديثة في المتاحف المصرية "تعيش في أقسى الظروف بؤسا وتعاسة"، بينما تعاني المتاحف من انهيار البنية الأساسية وضآلة ميزانية وزارة الثقافة التي تجعلها عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من ضمانات صيانتها وتأمينها.
ويحذر نجيب من وجود 13 ألف عمل فني في مخازن متحف الفن الحديث مهددة بسبب عوامل سوء التهوية وتفشي الرطوبة وأحيانا انسداد مجاري الصرف الصحي.
ولا يختلف مصير اللوحات خارج المتاحف وربما تكون أسوأ حالا، فلوحة الفنارات -التي تم العثور عليها مؤخرا- يبدو أنها تعرضت لسوء استخدام في أثناء وجودها في المبنى الحكومي الذي أعيرت إليه.
وكشف محامي صاحب المقهى الذي عثر على اللوحة -في تصريحات لصحف محلية- أن هناك آثارا على ظهر اللوحة الخشبية تظهر استخدامها من قبل العمال في تناول الطعام.
مصير مشابه تعرضت له إحدى لوحات الفنانة التشكيلية الراحلة تحية حليم، حيث وجدت لوحتها تستخدم بديلا لزجاج نافذة مكسور في مكان تابع لوزارة الثقافة، وفقا لما نقله عنها الناقد والفنان التشكيلي عز الدين نجيب.