نسبة الملوحة بلغت في بعض مناطق البحيرة نحو 40 غراما في الليتر خلال الصيف و30 غراما في الشتاء مقارنة بنحو 5 غرامات في الليتر قبل عقود قليلة في موسم الأمطار.


بحيرة "إشكل" في شمال تونس تعاني من ضغوط بسبب الأنشطة البشرية والتغيرات المناخية
تتعرض بحيرة "إشكل" ذات النظام البيئي الفريد بشمال تونس، وأحد أهم المناطق الرطبة في المنطقة، لضغوط بسبب الأنشطة البشرية والتغيرات المناخية، لكن إجراءات التخفيف من هذه التأثيرات ما زالت ممكنة في ضوء دراسة علمية جديدة صدرت حديثا.
وأعدّ الدراسة فريق دولي من الباحثين تحت إشراف المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار بتونس في إطار مشروع بحث دولي لحماية البحيرة.


بحيرة عذبة شتاء مالحة صيفا

تعدّ الأراضي الرطبة أنظمة إيكولوجية مهمة ذات موائل وفيرة وإنتاجية عالية تؤدي دورا مميزا وفريدا على نطاق شامل بخاصة في ما يتعلق بتنظيم المناخ والتنوع البيولوجي والأمن الغذائي.
وتشهد هذه الأنظمة تقلصا في مساحاتها وتدهورا في حالتها البيئية في المناطق شبه القاحلة ولا سيما في شمال أفريقيا، بسبب الضغوط البشرية والمناخية.

ولا تشذ بحيرة "إشكل" عن هذه القاعدة، رغم أنها تعدّ واحدة من أهم الأراضي الرطبة المحفوظة في منطقة البحر الأبيض المتوسط وموقعا شتويا مهما للطيور المهاجرة بين قارتي أفريقيا وأوروبا.



بحيرة إشكل تتلقى المياه العذبة من الأودية شتاء والمياه المالحة من بحيرة بنزرت صيفا (نيتشر)


وتتميز البحيرة بأداء هيدرولوجي فريد يتجلى في انعكاس موسمي لتبادل المياه مع بحيرة بنزرت المجاورة التي ترتبط بدورها بالبحر الأبيض المتوسط، فتكون عذبة في الشتاء ومالحة في الصيف.
وتتلقى البحيرة المياه العذبة من الأمطار ومن الأودية التي تصبّ فيها خلال الشتاء، وفي الصيف تتدفق إليها المياه المالحة من بحيرة بنزرت المجاورة عبر قناة "تينجة" الرابطة بينهما نتيجة تراجع كميات المياه العذبة، كما تقول الدكتورة ليلى الباسطي أستاذة البيئة البحرية والموارد المائية بجامعة طوكيو لعلوم وتكنولوجيا البحار (Tokyo University of Marine Science and Technology) ، في حوار مع الجزيرة نت عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وبفضل قيمتها البيئية العالية والتميز في أدائها الهيدرولوجي، تعدّ بحيرة "إشكل" ومحيطها، حسب مؤلفي الدراسة، من المواقع القليلة المدرجة منذ سبعينيات القرن الماضي في إطار 3 اتفاقيات دولية في الوقت نفسه وهي اتفاقية محميات المحيط الحيوي، واتفاقية التراث العالمي، واتفاقية الأراضي الرطبة ذات الأهمية الدولية "رامسار"، إضافة إلى التصديق عليها أيضا بوصفها متنزها وطنيا منذ عام 1980.

وفي رأي الدكتورة الباسطي، "أدى تراجع كميات المياه المتدفقة من الأودية نتيجة إقامة السدود، والجفاف، والارتفاع المهم والملموس لدرجات الحرارة بحوض البحر الأبيض المتوسط، كنقطة ساخنة لتغير المناخ في السنوات الماضية، إلى اختلال في التوازن الحيوي للبحيرة".



الدراسة بيّنت أن ارتفاع الملوحة في البحيرة يترافق مع اختلال دورة النيتروجين فيها (المعهد الوطني لعلوم البحار بتونس)



نموذج يستخدم لأول مرة

وفي الدراسة الجديدة المنشورة حديثا على موقع "نيتشر ساينتيفيك ريبورتس" (Scientific Reports)، قام الباحثون بتطبيق نموذج رقمي يستخدم لأول مرة في جنوب المتوسط لتقييم أداء البحيرة من أجل تعزيز إدارة المياه فيها.
ويقوم النموذج على "حساب الفارق بين كميات المواد الداخلة إلى البحيرة والخارجة منها لتقدير الرصيد عند التوازن للمياه والمغذيات في البحيرة، إضافة إلى تقييم التغيرات الموسمية لتوفر المغذيات باستخدام البيانات الميدانية"، وفقا لما قاله الدكتور بشير البجاوي الباحث بالمعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار في حديث خاص للجزيرة نت عبر الهاتف.
ولضمان دقة النتائج أدخلت بيانات خاصة بالمتغيرات المائية في البحيرة على مدى طويل، مثل كميات الأمطار، ودرجات الحرارة والملوحة، وكميات المياه المتدفقة إليها والخارجة منها.

ويشرح البجاوي -المؤلف الرئيس للورقة العلمية- التوازن الحيوي داخل مياه البحيرة، فيقول إن "الشبكة الغذائية داخل بحيرة إشكل تتكون من عناصر غذائية وعوالق نباتية ومن دورة النيتروجين ودورة الفوسفور، ويؤدي انخرام توازن هذه الدورات إلى ما يسمى الإثراء الغذائي". وتتجلى هذه العملية في زيادة المواد المغذية الغنية بمركبات تحتوي على النيتروجين والفوسفور، وذلك يؤدي إلى اختناق المنظومة ونقص في الأكسجين.



قلة المياه المتدفقة من الأودية أدت إلى اختلال التوازن الحيوي للبحيرة (المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار بتونس)


ويتمثل دور النموذج، حسب الدكتور البجاوي، في "تحديد توازن دورتي النيترووجين والفوسفور من عدمه مع قياس نسب النيتروجين والفوسفور -التي هي مواد مغذية للعوالق البحرية- في المنظومة".
ارتفاع الملوحة وانبعاث النيتروجين
وأظهرت نتائج الدراسة أن نسبة الملوحة بلغت في بعض مناطق البحيرة نحو 40 غراما في الليتر خلال الصيف و30 غراما في الشتاء مقارنة بنحو 5 غرامات في الليتر قبل عقود قليلة في موسم الأمطار. وهذا الارتفاع "يمكن أن ينتج عنه تغيرات في المنظومة الحيوية للبحيرة، كما أن له تأثيرات على الكائنات الحية داخلها كالأعشاب والطحالب والأسماك" كما يقول البجاوي.
وكشف النموذج المستخدم عن اختلال في دورتي النيتروجين والفوسفور داخل البحيرة، أدى إلى انبعاث كميات من النيتروجين في الهواء، وذلك يشير إلى وجود تلوث في البحيرة وأن العوالق البحرية تتعرض لتأثيرات النشاط البشري والتغيرات المناخية.

كما أن النيتروجين ينبعث في جزء منه في شكل أكسيد النيتروز (ذرتا نيتروجين مع ذرة أكسجين)، وهو غاز مسبب للاحتباس الحراري تفوق قدرته قدرة غاز ثاني أكسيد الكربون بنحو 300 مرة.
وتؤكد الدكتورة ليلى الباسطي المشاركة في الدراسة أن ظاهرة انبعاث هذا المركب لوحظت أيضا في العديد من البحيرات والمناطق الرطبة العالمية التي تتعرض لضغوط مماثلة بسبب الأنشطة البشرية والتغيرات المناخية.



النموذج المستخدم يمكن أن يكون أداة فعالة في المستقبل لإدارة المياه في البحيرة (المعهد الوطني لعلوم البحار بتونس)


وتتمثل الحلول الممكنة -حسب الباحثة التونسية- في "وضع إستراتيجية وطنية لإدارة المناطق الرطبة وحمايتها، تشمل إدارة المياه والحدّ من التلوث الكيميائي والعضوي في إطار الخطة الوطنية للتكيف مع المتغيرات المناخية، والاعتماد على الإدارة المستدامة واستخدام الطبيعة في معالجة التحديات البيئية للبحيرة".
ويختم الدكتور بشير البجاوي بأن النموذج المستخدم يمكن أن يكون أداة فعالة في المستقبل في إدارة المياه ومراقبة التغيرات التي تطرأ على البحيرة والتأثيرات المستقبلية لكل مشروع سيقام في البحيرة أو محيطها.