حتى الآن لم يستطع العلماء سبر غموض هذه الرسالة وتحديد مصدرها؛ فهل هي رسالة تعارف من حضارة أخرى عاقلة في مجرتنا أم نتاج ظاهرة طبيعية فلكية نادرة؟


العلماء افترضوا أنه عند تحديد تردد البث فإن الحضارة الذكية ستختار ترددا يشير إلى رقم فلكي مميز (شترستوك)
في خريف عام 1959 نشرت دورية "نيتشر" (Nature) أول مقال بحثي حول السمات والخصائص المتوقعة في رسالة التواصل المحتملة من المخلوقات العاقلة الأخرى في المجرات البعيدة، وكانت بعنوان "البحث عن الاتصالات بين النجوم". فما هذه السمات والخصائص؟ وهل وصلت رسالة إلى الأرض من الفضاء الخارجي مطابقة لهذه الصفات؟
ذكر المقال البحثي -الذي كتبه جوسيب كوكوني وفيليب موريسون أستاذا الفيزياء في جامعة كورنيل في نيويورك- سمات محددة للغاية لرسائل الاتصال المحتملة التي سترسلها حضارة ذكية لجذب انتباه حضارة ذكية أخرى من الفضاء الخارجي، ومن هذه السمات استخدام إشعاع أو بث بترددات الراديو لأنها رخيصة نسبيا وسهلة الإنتاج، وتسافر مسافات شاسعة للغاية بقدر ضئيل من الطاقة.



في 15 أغسطس/آب 1977 وصلت من الفضاء الخارجي إشارة استقبلها مرصد "الأذن الكبيرة" (موقع مرصد الأذن الكبيرة)


رقم فلكي مميز

عند تحديد تردد البث، فإن هذه الحضارة الذكية ستختار ترددا يشير إلى رقم فلكي مميز. وكان تقدير موريسون وكوكوني أن هذه الحضارة الذكية ستختار ترددا مرتبطا بالعنصر الأوفر انتشارا في الكون، ألا وهو الهيدروجين، انطلاقا من افتراض بديهي وهو أن أي كائنات قادرة على ابتكار تقنيات الاتصال الفضائي عبر النجوم ستعرف بالتأكيد أن الهيدروجين يصدر التردد 1420 ميغاهيرتزا. هذا الرقم سيترك بالتأكيد انطباعا خاصا لدى الطرف المستقبل ويطمئنه بأن الاتصال على هذا التردد حتما مصدره مخلوقات ذكية ومتطورة.
لكن إرسال إشارة بهذا التردد يتطلب تجميع كثير من الترددات التي ستستهلك كثيرا من الطاقة؛ لهذا فإن الحضارة الذكية التي ترغب في إرسال هذه الإشارة لأقصى مسافة ممكنة بالتردد نفسه ستستخدم نطاقا ضيقا من الترددات. ولزيادة ثقة الطرف المتلقي في أن هذه الإشارة مقصودة من كائنات ذكية، لا توجد ظاهرة طبيعية تصدر ترددات راديو ضيقة النطاق، ولذا فإن وصول إشارة بهذه المواصفات بالتأكيد سيجد من الطرف المتلقي آذانًا مصغية.

وبعد مرور 18 عاما تقريبا على نشر هذه الورقة، وبالتحديد في 15 أغسطس/آب 1977، وصلت من الفضاء الخارجي إشارة مطابقة تماما لجميع المواصفات السابقة التي حددها موريسون وكوكوني، واستقبلها مرصد "الأذن الكبيرة" (Big Ear) التابع لجامعة ولاية أوهايو الأميركية. وصلت الإشارة لجهاز الاستقبال الأول في التلسكوب في الساعة 11:16 مساء، واستمرت 3 دقائق، وعندما أصبح جهاز الاستقبال الثاني مواجها لنقطة المصدر كانت الإشارة اختفت.



صورة للمستند المطبوع لبيانات الإشارة الغامضة حيث كتب العالم جيري إهمان كلمة "واو" (WOW) (ويكبيديا)


وبعد 3 أيام، وصل الاختصاصي التقني ليوقف الحاسب وطباعة بيانات الإشارة ومسح بيانات وحدة التخزين التي لا تزيد مساحتها على واحد ميغابايت (لا تتعجب عزيزي القارئ، وتذكر أننا ما زلنا نتحدث عن عام 1977). وفي طريق عودته سلّم الورق المطبوع لمنزل العالم جيري إهمان، الذي قرأ البيانات وعلم أن الإشارة وصلت بتردد ضيق عند 1420 ميغاهيرتزا، التردد نفسه الذي تنبأ به موريسون وكوكوني قبل 18 عاما.
وفي غمرة انفعاله كتب العالم إهمان كلمة "واو" (WOW) الإنجليزية تعبيرا عن فرط ذهوله. ولم يكن يدري أن هذه الكلمة ستصبح الصفة التي تعرف بها هذه الإشارة؛ "إشارة واو".



البحث عن المصدر

على الفور سارع إهمان مع رئيسه في العمل روبرت ديكسون إلى الرجوع لخرائط النجوم لمعرفة الكوكب الذي جاءت منه الإشارة. جاءت الإشارة من كوكبة الرامي أو كوكبة القوس، وبالتحديد إلى الشمال الغربي من التجمع النجمي الكروي "إم 55″، لكن علماء الفلك لم يجدوا أي كواكب هناك.

كانت الإشارة تبدو مصنوعة بمواصفات خاصة، لكن العلماء بحثوا عن أي أقمار صناعية أو مركبات فضائية أو حتى طائرات تكون قد أصدرت إشارة أو تداخلت مع إشارة أرضية مما أدى إلى إشارة تماثل إشارة "واو". ازدادت حيرة العلماء أكثر لأنه في ذلك الوقت (أي عام 1977) لم تكن هناك أي آلات أو أجهزة من صنع الإنسان قادرة على إنشاء هذه الإشارة، والأدهى أن تردد الإشارة نفسه كان هناك إجماع من حكومات العالم على حظر استخدامه.



مصدر الإشارة الغامضة في كوكبة الرامي أو القوس وفقا لإحداثيات البث


حتى بعد مرور 30 عاما لم تصل إلى الأرض إشارة مماثلة لهذه الإشارة الغامضة، ولم تلتقط مراصد العالم أي شبيه لها. حاول كثيرون تقديم تفسير علمي لكيفية إنتاج هذه الإشارة ووصولها إلينا. وحلل الباحثون في مرصد "الأذن الكبيرة" كل الاحتمالات؛ اتصالات الأقمار الصناعية، وترددات أجهزة البث الراديوي التي انعكست عن المخلفات الفضائية، وإشارات الطائرات، وإشارات البث التلفزيوني والإذاعي، وكل ما يخطر على بالك من مصادر.



الاستبعاد ليس الحل

قال فريق من العلماء إن عدم تكرار الإشارة يغري بتفسيرها على أنها ربما نتجت عن خلل في إلكترونيات التلسكوب أو بسبب نظام التبريد أو أي سبب ميكانيكي؛ فلو كانت الإشارة قادمة من حضارة عاقلة ذكية لكانت واصلت بث الإشارة فترة أطول من 3 دقائق.
مشكلة هذه النظرية أنه لا يوجد سبب لمثل هذا الافتراض؛ فجميع العلماء والباحثين في مجال الفلك والفضاء يعلمون أن الكائنات الذكية إذا أرادت البحث عن كائنات أخرى عاقلة فإنهم سيرسلون إشارة واحدة فقط. لماذا؟ لأننا نحن البشر فعلنا ذلك بالضبط؛ فقد أرسلت ناسا عام 1974 إشارة مشفرة عبر تلسكوب ومرصد "أرسيبو" نحو المجرة النجمية "أندروميدا" التي تبعد عن الأرض 2.5 مليون سنة ضوئية.

كانت الرسالة الأرضية عبارة عن مسار من الأرقام الثنائية المتتابعة، التي إذا وضعتها معا بدقة بالغة، فإنها ستبين صورة بدائية لشخص وحلزون مزدوج للحمض النووي، وإحداثيات مجموعتنا الشمسية. لو كانت هناك حضارة عاقلة في المجرة "إم 31" أو أندروميدا، فإنها ستجزم بأن هناك حضارة أخرى عاقلة غيرها لكنها مثلنا ستعجز عن تحديد مصدر بث الإشارة أو الجزم بأن هناك حضارة أخرى عاقلة من بث إشارة واحدة، فإحصائيا ذلك أقرب إلى الصفر؛ فلو أن هناك حضارة ذكية تريد التواصل فيجب أن ترسل إشارتين على الأقل.



ما أهمية هذه الإشارة؟

إذا سألت أي عالم فلكي عن أكبر حدث فلكي في العصر الحديث على الأرجح سيخبرك عن إشارة "واو". حيث ينفق البشر جهودا هائلة ومليارات الدولارات على فهم مصدر الحياة، وكيف نشأت على كوكب الأرض. إنه السؤال الأعمق والأهم الذي يقض مضجع الإنسان ويؤرق العلماء. هل نحن كائنات فريدة ووحيدة في الكون؟ أليس هناك مخلوقات عاقلة في هذا الكون غيرنا؟
من حين لآخر تبث وكالات الأنباء خبر اكتشاف كواكب تتشابه ظروفها ومساراتها وكتلتها حول نجومها مع كوكب الأرض، وناسا ترسل المسبار تلو الآخر إلى المريخ وتيتان وسائر كواكب المجموعة الشمسية بحثا عن قطرة ماء أو حتى أثرها، وترسل التلسكوب تلو الآخر لرصد الكون في أقدم مرحلة من مراحل تكوينه.



عدم تكرار الإشارة يغري بتفسيرها على أنها ربما نتجت عن خلل في إلكترونيات التلسكوب (غيتي)


في ظل هذا البحث المحموم عن مصدر حياة أو قطرة ماء في أي كوكب بعيد في أي مجرة تبعد عنا آلاف أو ملايين السنوات الضوئية تتجلى أهمية هذه الإشارة، إذ تكاد تكون هي الحدث الوحيد الذي يجعلنا نحن البشر نظن أننا لسنا وحدنا في الكون، وأن هناك مخلوقات عاقلة أخرى في مكان ما في الفضاء.