الشرح التفصيلي لقضية بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة
مع بيان لجميع أحداث الحديبية بالتحليل الدقيق :-
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة ، هي بيعة لجماعة من الصحابة للنبي الأكرم (صلّی الله عليه وآله وسلّم) حدثت في شهر ذي القعدة في منطقة الحديبية ، والحديبية هي اسم بئر أو شجرة ، سُمّي باسمها المكان الذي تقع فيه ، قرية قريبة من مكة ، أكثرها واقع في الحرم ، وهناك المسجد المعروف بمسجد الشجرة ، وبين الحديبية والمدينة تسع مراحل وبينها وبين مكة مرحلة واحدة أي تسعة أميال . حيث بايع فيها المؤمنين النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على قتال قريش وألّا يفروا حتى الموت ، وكانت البيعة تحت شجرة سُميت بعد ذلك بشجرة الرضوان ، وكانت البيعة سببٌ من أسباب صلح الحديبية ، فلما علمت قريش بهذه البيعة خافوا وأشار أهل الرأي فيهم بالصلح ، حينها انعقدت البيعة تحت الشجرة ، وصالح مبعوثو مكة النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) على أن يعود هذا العام إلى المدينة ويزور في العام المقبل . وقد ذُكرت هذه الحادثة في القرآن في قوله تعالى : ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ .
ذلك بعد أن بعد أن رأى في منامه أنّه دخل هو ومن معه من المؤمنين إلى المسجد الحرام ، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الرؤيا في القرآن الكريم في سورة الفتح آية (٢٧) : ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ . ومن المعلوم أنّ رؤيا الأنبياء (عليهم السلام) هي طرائق الوحي الإلهي إليهم ، وقد ذكروا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان كثير الرؤيا ولا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ؛ وما ذلك إلّا لأنّ الرؤيا هي من طرائق الوحي للأنبياء (عليهم السلام) . لقد كانت رؤياه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإطلاقة القوية لمناسبة الحديبية ، وهي العامل الأعمق تأثيراً في صناعة هذا الحدث الفريد ، وهي التي أربكت حركة النفاق وفضحت المنافقين ووضعت إيمان أهل الإيمان على المحك ، فنجح من نجح عن جدارة واستحقاق وأخفق من أخفق عن تقصير وعن قلة تدبير وخطل رأي وخمول ضمير . هذا بالإضافة إلى أن هذه الرؤيا قد جرّت أهل الشرك والكفر إلى مزالق خطيرة لم يحسبوا لها حساباً ، ووضعتهم في مواقع الحيرة والتيه حتى أظهر الله الحق ، وفتح الله لنبيه فتحاً مبيناً ، فتح به القلوب وأزال كل رين وريب منها وعنها ، وكشف عن الأبصار وعن البصائر كل الغشاوات ، وبطلت الترهات وفضحت الأضاليل والأباطيل وأسفر الصبح لذي عينين .
فاستنفر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ممن أسلم ليخرجوا معه ، وخرج الرسول مُحمّد (صلّی الله عليه وآله وسلّم) لزيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك العمرة ، وكان خروجه من منزله بعد أن اغتسل ببيته ولبس ثوبين ، وأحرم هو وغالب من معه من ذي الحليفة ، بعد أن صلى ركعتين في المسجد هناك ، ثم ركب راحلته القصواء من باب المسجد وانبعثت به وهو مستقبل القبلة ؛ لتعلم قريش أنّه خرج زائراً للبيت الحرام وليس من أجل القتال ؛ لأنّ هذا من شأنه أن يطمئن أهل مكّة ومن حولها إلى أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يريد الحرب في تحركه هذا ، وأنّ بإمكانهم أن يشعروا بالأمن من هذه الجهة ، ولكن ذلك لا يمنع من أن يعتبر هذا التحرك في الوقت ذاته تحدياً لزعماء الشرك وإقداماً جريئاً على أمرٍ يستبطن كسر عنفوان الشرك ، حيث ساق معه 70 بدنة ، فيها جملٌ لأبي جهْل لعنه الله في أنْفه برةٌ منْ فضةٍ ليغيظ بذلك الْمشْركين . وذلك في يوم الاثنين غرّة ذي القعدة سنة 6 هــ ومعه زوجته أم سلمة (رضي الله عنها) ومعه ناسٌ كثيرون من الأصحاب والأعراب ، وبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) بين يديه بسر بن سفيان الخزاعي عيناً له إلى قريش ليأتيه بخبرهم ، وسار (صلّى الله عليه وآله سلّم) إلى عسفان .
ولمّا أكمل رسول الله (صلّى الله عليه وآله سلّم) طريقه إلى مكّة حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان ، أتاه عينه فقال : «يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ ، فَخَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدَّمُوهَا إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ ، لَقَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ ! مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ ؟ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الذِي أَرَادُوا ، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ وَافِرُونَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ، قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ» . (السالفة : صَفْحَةُ العُنُقِ، وكنَّي بانْفرادِهَا عن الموتِ؛ لأنَّها لا تنفردُ عمَّا يليها إلّا بالموت) .
فلما وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عسْفان اقْترب منْه خالد بْن الْوليد حتى نظر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ! وصفّ الملعون خيْله بيْن الْمسْلمين وبيْن الْقبْلة . أخْرج أحْمد بن حنبل في مسْنده وأبو داود في سننه بسندٍ صحيح عنْ أبي عياشٍ الزرْقي قال : «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) بِعُسْفَانَ، فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ، عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ، وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ الظُّهْرَ، فَقَالُوا -أَيْ خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ وَالذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:- قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لَوْ أَصَبْنَا غِرَّتَهُمْ ، تَأْتِي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ . فنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذ الْآيَاتِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ . قَالَ: فَحَضرَتْ صلَاةُ الْعَصرِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخَذُوا السِّلَاحَ، قَالَ: فَصَفَفَنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالصَّفِّ الذِي يَلِيهِ، وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَ، فَلَمَّا سَجَدُوا وَقَامُوا، جَلَسَ الْآخَرُونَ، فَسَجَدُوا فِي مَكَانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعُوا جَمِيعَّاَ، ثُمَ رَفَعَ، فَرَفَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالصَّفُّ الذِي يَلِيهِ، وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسَ، جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ» .
فهذه أول صلاة خوْفٍ صلاها الْمسْلمون كانت في الحديبية ، ثم إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تفادى الاصْطدام والاشْتباك مع خيْل المشْركين ، فقال لمن معه : «مَنْ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ التِي هُمْ بِهَا؟» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فسلك بهمْ طريقًا وعرًا أجْرل كثير الحجارة بين الجبال ، فلما خرجوا منْه وقدْ شق ذلك على المسْلمين وأفْضوْا إلى أرْضٍ سهْلةٍ عنْد منْقطع الوادي ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس : «قُولُوا نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ» ، فقالوا ذلك . فقال (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) : «وَاللَّهِ إِنَّهَا لَلْحِطَّةُ التِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يَقُولُوهَا» . ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسْلمين فقال : «اسْلُكُوا ذَاتَ اليَمِينِ» . فسلك الجيْش ذلك الطريق ، فلما رأتْ خيْل قريْشٍ قترة (الغبار) الجيْش قدْ خالفوا عنْ طريقهمْ نكصوا راجعين إلى قريْشٍ ؛ وذلك من حنكة النبي محمد الأعظم المقدّس المعصوم (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) أنّه لم يرد أن يواجه تلك الطليعة لكي يتجنب أي اشتباك معها ، يمكن أن يدفع بالأمور إلى حيث تصبح الحرب مع قريش أمراً مفروضاً لا يمكن تجنبه ، وأنّه لا يريد أن يشعر المشركون بأنّهم قادرون على التحكم بقرار الحرب ، وأنّهم قد فرضوا عليه أن يتحرك وفق ما رسموه له ، مما يعني أنّ خططه ناجحة من الناحية العسكرية .
وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا وصل إلى ثنية المرار فقال لمن معه : «مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ، ثَنِيَّةَ المِرَارِ، فَإِنَّهُ يَحُطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» ؟ قال جابر (رضي الله عنه) : «فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعَدَهَا خَيْلُنَا، خَيْلُ بَنِي الخَزْرَجِ» . وفي هذا المكان في ثنية المرار التي يهْبط منْها على قريْشٍ بركت القصْواء ناقة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فقال الناس : حلْ حلْ ! فألحتْ ، فقالوا : خلأت القصْواء . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «مَا خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ» . ثم زجر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ناقته فوثبتْ ، ثم عدل عنْ دخول مكة ، وسار حتى نزل بأقْصى الحديْبية على ثمدٍ قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً ، فلمْ يلبثْه الناس حتى نزحوه .
وسبب بروك القصواء هو أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد استشار أصحابه في الحديبية في وقتٍ سابقٍ ، وأشار عليه أبو بكر وقال له : «إِنَّكَ يَا رَسُولَ الله، خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ، لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ» . ولقد وافقه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بادئ الأمر ومضى مع الناس متوجهاً إلى مكّة ، حتى إذا بركت الناقة وعلم أنّها ممنوعة ترك الرأي الذي كان قد أشير به عليه ، وحينئذٍ تحول العمل عن ذلك الرأي الذي أبداه أبو بكر إلى أمر الصلح والموافقة على شروط المشركين ، دون أن يستشير في ذلك أحداً . وقد ذكروا : «أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قدم الهدي وسار ، فلقي في طريقه طائفة من بني نهد ، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ، وأهدوا له لبناً من نعمهم . فقال : لا أقبل هدية مشرك . فابتاعه المسلمون منهم» . (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي : ج٥، ص٣٤) . الذي يثير العجب هنا هو أنّ النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يقبل الناقة من أبي بكر في ليلة الهجرة إلّا بالثمن ، مع أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان بأمس الحاجة إليها ! ورغم كون أبي بكر مسلماً وأنّ النبي يقبل الهدية من المسلم إلّا أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أبى أن يأخذها منه ! حيث قال أبو بكرٍ : «قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُ لِي وَلَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ رَاحِلَتَيْنِ نَرْتَحِلُهُمَا إِلَى يَثْرِبَ» . فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له : «إِنِّي لَا آخُذُهُمَا وَلَا أَحَدَهُمَا إِلَّا بِالثَّمَنِ» . فقال أبو بكرٍ : «فَهِيَ لَكَ بِذَلِكَ» . فهل كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخشى من أن يمنّ عليه أبو بكر بهذا العطاء ؟! أم هناك سبب آخر لا يعلمه إلّا الله تعالى .
يستخلص من ذلك إنّه ليس في تصرفات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يدل على أنّ الحاكم ملزم بالأخذ بما يشيرون به عليه ، فقد يأخذ بمشورة أحدهم وقد لا يأخذ بمشورة أحد منهم أصلاً ، بل يأخذ برأي نفسه . وأنّ حكمة الشورى قد تشمل إظهار نوايا بعض من يدلون بآرائهم فيها ، لكي يعرف الناس تلك النوايا ، ليمكنهم تمييز المخلص من غيره ، والذكي من الغبي ، والشجاع من الجبان . فما جرى لناقة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حسبما ذكرناه آنفاً قد جاء ليعالج الأمر بطريقة مختلفة ، وضعت فيها النقاط على الحروف ، وانتقل من التلميح إلى التصريح ، في نفس الأمر الذي عصاه فيه أصحابه . فإنّ الفيل الذي حبس في قضية أبرهة عند دخول مكة يستجيب لأمر حابسه وهو الله سبحانه ، كما أنّ أمر الله هو الذي حبس ناقة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الاستمرار في السير لدخول مكة ، فكان ما أراه سبحانه .
وشُكِيَ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العطش وكان الحر شديداً ، وكان بعض المسلمين بعد بروك الناقة القصواء بسبب أبي بكرٍ قد راودتهم بعض الشكوك والأهواء ، فكان لا بد من إظهارٍ معجزةٍ أو كرامة إلهية تربط على القلوب وتقوم بصيانة الإيمان من التعرض للاهتزاز في مواجهة التحديات والأزمات الحادة التي تتمخض عن نكبات تبعث اليأس والهزيمة في النفوس . فكان نبع الماء من بين أصابعه الشريفة هو من أبرز الكرامات الإلهية المهمة . فعن صحيح ابن خزيمة - الجزء (1) - الصفحة (65) - الحلقة (١٢٥) :- نا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، نا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ يَتَوَضَّأَ مِنْهَا إِذْ جَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ قَالَ: فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: مَا لَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ قَالَ: فَوَضَعَ يَدَيْهِ فِي الرِّكْوَةِ، وَدَعَا بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ . قَالَ: فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ أَمْثَالَ الْعُيُونِ . قَالَ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا» . وعن صحيح البخاري - الجزء (4) - الصفحة (193) - الحلقة (٣٥٧٧) :- حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ «كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا حَتَّى لَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَجَّ فِي الْبِئْرِ فَمَكَثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ اسْتَقَيْنَا حَتَّى رَوِينَا وَرَوَتْ أَوْ صَدَرَتْ رَكَائِبُنَا» .
ثم وصل النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى بشر الحديبية على بعد 9 أميال من مكة المكرمة ، ولمّا اطمأن بها جاءه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة ، منهم : عمرو بن سالم وخراش بن أمية وخارجة بن كرز ويزيد بن أمية . وكانوا عيبة نصح لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتهامة ، منهم المسلم ، ومنهم الموادع ، لا يخفون عنه بتهامة شيئاً . فلما قدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سلموا ، فقال بديل بن ورقاء : «جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ قَوْمِكَ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَعَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ قَدِ اسْتَنْفَرُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ ، مَعَهُمُ الْعُوذُ وَالْمَطَافِيلُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ لَا يُخَلُّوَنَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتَّى تَبِيدَ خَضْرَاؤُهُمْ» . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ، فَإِنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنْ أَظْهَرُ فَإِنْ شَاؤُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي ، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أمْرَهُ» . فوعى بديل مقالة رسول الله ، وقال : «سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ» . فانْطلق بديْل بن ورْقاء ومنْ معه منْ خزاعة حتى أتوْا قريْشًا فقال لهمْ : «إِنَّا جِئْنَاكُمْ مِنَ هَذَا الرَّجُلِ ، وسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا» . فقال سفهاؤهمْ : «لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرُونَا عَنْهُ بِشَيْءٍ» . وقال ذوو الرأْي منْهمْ : «هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ» . قال لهمْ بديْل بن ورْقاء : «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ! إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا البَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحَقِّهِ» . فَقَالُوا : «وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا جَاءَ لِذَلِكَ ، فَلَا وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا عَلَيْنَا عَنْوَةً وَلَا تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ العَرَبُ» .
فرفضت قريشٍ ذلك وأبت ذلك القول ، ثم بعثتْ قريْشٌ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عرْوة بْن مسْعودٍ الثقفي ، فجاء إلى الرسول وقال : «يَا مُحَمّدُ، إنّي تَرَكْت قَوْمَك، كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ عَلَى أَعْدَادِ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، قَدْ اسْتَنْفَرُوا لَك أَحَابِيشَهُمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَهُمْ يُقْسِمُونَ بِاَللهِ لَا يُخَلّونَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْبَيْتِ حَتّى تَجْتَاحَهُمْ . وَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ ، أَنْ تَجْتَاحَ قَوْمَك ، وَلَمْ نَسْمَعْ بِرَجُلٍ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَك ، أَوْ بَيْنَ أَنْ يَخْذُلَك مَنْ نَرَى مَعَك ، فَإِنّي لَا أَرَى مَعَك إلّا أَوْبَاشًا مِنْ النّاسِ، لَا أَعْرِفُ وُجُوهَهُمْ وَلَا أَنْسَابَهُمْ» . فقال له أبو بكر وكان حاضراً في المشهد : «اُمْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ! أَنَحْنُ نَخْذُلُهُ؟» فَقَالَ عُرْوَةُ : «أَمَا وَاللَّهِ لَولَا يَدٌ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِك بِهَا بَعْدُ لَأَجَبْتُك!» فطفق عرْوة وهو يكلم رسول الله يمس لحْيته والْمغيرة قائمٌ على رأْس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف على وجْهه الْمغْفر ، فطفق الْمغيرة كلما مس لحْية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قرع يده ويقول : «اُكْفُفْ يَدَك عَنْ مَسّ لِحْيَةِ رَسُولِ اللهِ قَبْلَ أَلّا تَصِلَ إلَيْك!» فلما أكْثر عليْه غضب عرْوة فقال : «لَيْتَ شِعْرِي!! مَنْ هَذَا الَّذِي قَدْ آذَانِي مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِكَ ؟ وَاللَّهِ لَا أَحْسَبُ فِيكُمْ أَلْأَمَ مِنْهُ وَلَا أَشَرَّ مَنْزِلَةً!» فَقَالَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «هَذَا ابْنُ أَخِيك الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ» . قال عروة : «أَنْتَ بِذَاكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ [وَأَنْتَ بِذَلِكَ يَا غَدِر] ! وَاللَّهِ مَا غَسَلْتُ يَدَيَّ مِنْ غَدْرَتِكَ إِلَّا أَمْسٍ بِعُكَاظٍ ! لَقَدْ أَوْرَثْتَنَا الْعَدَاوَةَ مِنْ ثَقِيفٍ إلَى آخِرِ الدّهْرِ ! يَا مُحَمّدُ ، أَتَدْرِي كَيْفَ صَنَعَ هَذَا ؟ إنّهُ خَرَجَ فِي رَكْبٍ مِنْ قَوْمِهِ ، فَلَمّا كَانُوا بَيْنَنَا وَنَامُوا فَطَرَقَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ حَرَائِبَهُمْ وَفَرّ مِنْهُمْ» . فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعرْوة بْن مسْعودٍ مثل ما قال لبديْلٍ ، فقام عرْوة فخرج حتى جاء إلى قوْمه فقال : «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنِّي قَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ عَلَى قَيْصَرَ فِي مُلِكْهِ بِالشَّامِ ، وَعَلَى النَّجَاشِىِّ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ ، وَعَلَى كِسْرَى بِالعِرَاقِ ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّنْ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ فِي أَصْحَابِهِ ، وَاللَّهِ مَا يَشُدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ ، وَلَا يَرْفَعُونَ عِندَهُ الصَّوْتَ ، وَمَا يَتَوَضَّأُ بِوَضُوءٍ إِلَّا ازْدَحَمُوا عَلَيْه أَيُّهُمْ يَظْفَرُ مِنْهُ بِشَيْءٍ ، فَاقْبَلُوا الَّذِى جَاءَكُمْ بِهِ بُدَيْلٌ ، فَإِنَّهَا خُطَّةُ رُشْدٍ فَاقْبَلوهَا» . فقالوا : «نَرُدَّهُ عَنِ الْبَيْتِ فِي عَامِنَا هَذَا وَيَرْجِعُ مِنْ قَابِلٍ فَيَدْخُلَ مَكَّةَ وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ» .
لقد ذكروا فيما تقدم أنّ المغيرة كان قائماً على رأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف وأنّه منع عروة بن مسعود من أن يلمس لحية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ! وقد ردوا على هذه الرواية بما روي من أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد نهى عن القيام على رأس الجالس ! ثم أجابوا بـأنّ : "الممنوع هو ما كان منه على وجه العظمة والكبر ، أما قيام المغيرة على رأس النبي فكان بقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو" . ونقول : إنّ هذا غير مقبول لأنّ الحراسة وترهيب العدو لا يحتاجان إلى هذا القيام ؛ لإمكان حصولهما بأساليب وطرائق أخرى غير القيام على رأس النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، كما إنّ المنهي عنه هو نفس هذا المظهر الذي هو من مظاهر الكبر والعظمة ، وإن لم يكن الجالس متكبراً ولا طالباً للعظمة ، فهو نظير التشبه بالكفار وأهل الفسوق ، فإنّ ما يبغضه الله هو السعي لإيجاد الشبه ، بالإضافة إلى ظهور نفس هذا الشبه أيضاً فإنّ الله لا يرضى أن يظهر رسم الصليب على ثياب المسلمين ، وإن كانوا لم يقصدوا ذلك ، بل قصدوا مجرد لبس الثوب للتستر به . وكما أرادوا أن يمنحوا المغيرة بن شعبة هذا الوسام ، من أجل أن يكافئوه على خدماته لمعاوية ومعونته لمناوئي الإمام علي (عليه السلام) ومشاركته لهم في الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام) وعلى ضربه لها حتى أدماها ، وألقت ما في بطنها استذلالاً منه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومخالفة منه لأمره وانتهاكا لحرمته ! واللافت أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يعترض على عروة في ما نسبه إلى المغيرة بل اكتفى بالتبسم .
أما بالنسبة إلى قول أبي بكر : «امصص بظر الللات» : فهذه لغة مرفوضة لأنّها تضمنت كلمات لا يليق التفوه بها في محضر النبي الشريف ! فإنّ كلمة "امصص بظر اللات" ، إنما جاءت رداً على قول عروة إنّ أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا ينصرونه في الحرب بل يخذلونه ، وكلام عروة صحيح لأنّ له شواهد وأدلة كثيرة بل حتى آيات ذكرت أنّ الصحابة كانوا يفرون من الزحف ! وذكروا أنّ أبا بكر أعان عروة بن مسعود في دية بعشر فرائض ؛ وذلك لا يصحّ لأنّ عروة بن مسعود كان من عظماء المشركين ؛ وقد قال تعالى : ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ - [سُّورَةُ الزُّخْرُفِ : 31.] . حيث نزلت هذه الآية في رجلين هما عروة بن مسعود والوليد بن المغيرة الذي كان كبير قريش ، الذي أدرك النبي مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يسلم بل قال مستنكراً عدم نزول الدعوة عليه وقال : «أيُنزَّلُ على مُحَمّدٍ ، وَأُتْرَكُ وأَنا كَبِير قُريْش وسيّدها ؟ ويُتْرَكُ أبو مسْعود عروة بن عَمرو الثقفي سيّد ثقيف ؟! فنحن عَظِيمَا الْقَرْيَتَيْنِ» ، فنزل فيه قوله تعالى : ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ - [سُّورَةُ الزُّخْرُفِ : 31 - 32.] . فهل كان هذا الرجل العظيم والسيد في قومه فقيراً إلى حدّ أنه كان لا يملك مقدار دية كان قد حملها ! مع أنهم يقولون إنّ الفقير لا يسود في العرب ، إلّا أن أبا طالب ساد فقيراً . ولنفرض أنّ أبا بكر كان يملك أموالاً فإنّ ذلك لا يبرر تصديقنا بحديث معونته لعروة بن مسعود بعشر فرائض ونحن نرى أنّه لم يجرؤ على إنفاق درهمين لينال شرف مناجاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى نزل العتاب الإلهي له ولغيره من الصحابة ! باستثناء علي أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان هو الوحيد الذي عمل بآية النجوى ؛ قَالَ تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ - [سُّورَةُ الْمُجَادِلَةِ : 12.]
ثم بعثتْ قريْشٌ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكْرز بن حفْصٍ أخا عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقْبلًا قال : «هَذَا رَجُلٌ فَاجِرٌ» ، فلما انْتهى إلى رسول الله وكلّمه قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نحْوًا مما قال لبديْلٍ وأصْحابه ، ثم رجع إلى قريْشٍ فأخْبرهمْ بما قال له رسول الله . ثم بعثتْ قريْشٌ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الحلْس بن علْقمة الكناني وهو يوْمئذٍ سيد الأحابيش ، فلّما رآه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : «هَذَا مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ ، فَابْعَثُوهَا لَهُ» ، فبعثوا الهدْي ، واسْتقْبله الناس يلبون ، فلما رأى ذلك قال : «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءَ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ» . ثم رجع إلى قريْشٍ ولمْ يصلْ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إعْظامًا لما رأى ، فقال لهمْ : «رَأَيْتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ» ! فقالوا له : «اجْلِسْ ، فَإِنَّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيٌّ لَا عِلْمَ لَكَ» . فغضب الحلْس بن علْقمة وقال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ ، وَلَا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ ، أَيُصَدُّ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظِّمًا لَهُ ؟! وَالذِي نَفْسُ الحِلْسِ بِيَدِهِ لَتُخَلُّنَّ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ أَوْ لَأَنْفِرَنَّ بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ» . فقالوا له : «مَهْ ! كُفَّ عَنَّا يَا حِلْسُ حَتَّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى بِهِ» .
بالرغم من أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أعلم قريشاً بما جاء له بواسطة بديل بن ورقاء وبواسطة عروة بن مسعود ، ثم من طريق الحليس وكذلك من خلال مكرز بن حفص ، لكن ذلك كله لم يره كافياً حتى بعث خراش بن أمية الخزاعي على جملٍ يقال له الثعلب ، وقد تعمد أن يحمله على جملٍ من أجل تسهيل الأمر على قريش بتقديم العلامة التي تجعلهم يتيقنون بكونه رسولاً من قبله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من دون حاجة إلى التماس القرائن والدلالات على ذلك ؛ إذ قد تطول المدة ، وتتراكم الشائعات ، وتثور الظنون حول هذا الوافد بأن يكون عيناً ويريد أن يحمي نفسه بهذا الادعاء . فلّما دخل خراشٌ مكة ليبلغ أشْراف قريْشٍ ما جاء به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عقرتْ به قريْشٌ وأرادوا قتله ، وكان عقر عكرمة بن أبي جهل لهذا الجمل بالذات لأنّه عرف أنّه جمل النبي نفسه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن أجل أن راكبه رسول من قبل هذا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالذات . إنّ ذلك كله قد جعل الناس يتسامعون بهذا الأمر وأن يفشو ويشيع في مكة ؛ فيشعر الناس كلهم بأنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قريبُ منهم وأنّ رسوله بينهم وأنّ جمله يعقر في بلدهم . وبعد أن عقروا الجمل جاءت الأحابيش لتمنع القتل عن خراش بن أمية الخزاعي فخلوْا سبيله ورجع إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخْبره بما لقي . ربما فعلت الأحابيش ذلك الأمر منعاً للعار لأنّ ما فعله عكرمة بن أبي جهل قد جاء على خلاف ما تفرضه الأعراف والسنن ؛ فإنّ قتل الرسل عار والعدوان عليهم رعونة غير مقبولة .
ثم دعا رسول اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عمر بن الخطاب ليبْعثه إلى مكة فيبلغ عنْه أشْراف قريْشٍ ما جاء له ، فقال عُمَر : «يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، قَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي لَهَا، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بَنِي عَدِيّ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَإِنْ أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللهِ دَخَلْت عَلَيْهِمْ» . فلمْ يقلْ رسول الله (صلّى الله عليْه وآله وسلّم) شيْئاً ! فقال عُمَر : «وَلَكِنْ أَدُلّك يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى رَجُلٍ أَعَزّ بِمَكّةَ مِنّي ، وَأَكْثَرَ عَشِيرَةً وَأَمْنَعَ ، عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ» . وهنا نجد دور عُمر بن الخطاب في الحديبية لم يطلب منه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يصل إلى حد ما طلبه من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ليلة الهجرة من حيث درجة الخطورة على حياته ! بل طلب منه أن يكون رسولاً يتمتع بحصانة الرسل الذين يعتبر الإعتداء عليهم عاراً وعيبا عند العرب وعند سائر الأمم ، وكان قد أرسل غيره في هذه المهمة وعاد سالماً ومنع المشركون أنفسهم سفهاءهم من الاعتداء عليه ، مستدلين بهذه الحجة نفسها وهي أنّ الرسل لا تقتل ! ولكن عمر بن الخطاب يرفض طلب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذا ولا يقدم تعليلاً يرتبط بالشأن العام أو بالقضية التي يريد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يعالجها ، بل هو قد اعتذر بأمر شخصي بحت ليس له منشأ يقبله العقلاء الذين يعيشون أجواء التضحية في سبيل مبادئهم ! بل لا يقبله حتى عقلاء أهل الشرك والكفر أيضاً ؛ لأنه يستند إلى شعوره بالهلع والخوف ، مع أنّ هذا الخوف لا يبرر ذلك ، فإنّه حتى لو كان له منشأ واقعي لم يكن ينبغي أن يدفعه إلى التمرد على إرادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . بل كان المطلوب هو أن يندفع لاكتساب هذا الشرف العظيم ولينال هذا الفوز الذي طالما حلم به الأولياء والأصفياء والأتقياء . ومع غض النظر عن ذلك كله تأتي المذاهب الأربعة لتدعي أنّ الإسلام قد عزّ بإسلام عمر ! وأنّه قد كانت له بطولات عظيمة ومواجهات رائعة مع المشركين قبل الهجرة ، وعزّ الإسلام في مكة إلى حد أن مكّن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أن يطوف بالبيت ويصلي الظهر معلناً . واللافت هنا أننا نجد عُمَر بن الخطاب يشرح الأمر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى كأنّه يرى أن تلك الأمور قد غابت عن ذهنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أنّه كان جاهلا بها من الأساس ! والأدهى والأمر أنّه يقول لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ» . فهل كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاهلاً بوجود عثمان وبموقعه العشائري بين أهل مكة ؟! فيحتاج إلى من يدله عليه وينبهه إلى مكانته بينهم وموقعه فيهم ؟!
وأما قول عُمر بن الخطاب لنبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا» . فنقول : إنّ عداوة قريش لعمر هي كعداوتها لأي فرد آخر من المسلمين ، بل قد تكون عداوتها له هي الأقل والأضعف ؛ كما أظهرته لنا وقائع في حرب أحد ، حيث بينت أنّ ثمة عطفاً من مقاتلي قريش وقادتها على عمر بن الخطاب ومحبة منهم وسعياً منهم لحفظه . فعن كتاب البداية والنهاية لابن كثير - الجزء (4) - الصفحة (264) :- «قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ لَحِقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِعَرْضِ الرُّمْحِ، وَيَقُولُ: انْجُ يَا بْنَ الْخَطَّابِ لَا أَقْتُلُكَ» . كما أن عمر قد أخبر أبا سفيان بوجود النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بينهم حياً رغم أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان قد طلب منه أن لا يفعل ! فظهر أنّه يتعمد الدلالة عليه في أخطر الأوقات وأصعب الحالات . يضاف إلى ذلك أنّ خالد بن الوليد لقي عمر بن الخطاب في أحد وما معه أحد ، فنكب عنه وخشي أن يؤذيه أحد ممن كان معه ، فأشار إليه بأن يتوجه إلى الشعب لينجو منهم . فعن مغازي الواقدي - الجزء (1) - الصفحة (237) :- «حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ، وَاسْمُ أَبِي جَهْمٍ عُبَيْدٌ، قَالَ: كَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُحَدّثُ وَهُوَ بِالشّامِ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ! لَقَدْ رَأَيْتنِي وَرَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ حِينَ جَالُوا وَانْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، وَإِنّي لَفِي كَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ فَمَا عَرَفَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، فَنَكَبْت عَنْهُ وَخَشِيت إنْ أَغْرَيْت بِهِ مَنْ مَعِي أَنْ يَصْمُدُوا لَهُ، فَنَظَرْت إلَيْهِ مُوَجّهًا إلَى الشّعْبِ» . ثم إنّه لم يعترض يوم أحد على الخائفين المنهزمين الذين اقترحوا توسيط عبد الله بن أبي لدى أبي سفيان ، وذلك بعد أن صعدوا على الصخرة التي في الجبل . أمّا في حرب بدر فكانت مشورة عمر مثل مشورة أبي بكر ، وهي : "أنّ قريشا ما آمنت منذ كفرت ، وما ذلت منذ عزت ، ولم يخرج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على هيئة الحرب .. فترك الحرب هو الرأي" . فلماذا هذا التخذيل الشديد منه عن الحرب وإظهار عزة قريش حتى زعما أنّها ما ذلّت منذ عزت ؟! ولماذا يحاولان إشاعة درجة من الخوف لدى المسلمين ؟! وهنا يعود السؤال من جديد : أين هي عداوة قريش لعمر بن الخطاب ؟! وأين هو نضال عمر بن الخطاب ضد قريش ؟! وأين كان هذا البطش عنه في أحد والخندق وحنين وخيبر وقريظة...الخ ؟! ولماذا فرّ في مختلف المشاهد الصعبة ولم يظهر شيئا من هذا في أي منها ؟! عن المستدرك على الصحيحين للحاكم - الجزء (3) - الصفحة (40) - الحلقة (4340) :- أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، بِمَرْوَ، ثنا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ، ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، ثنا نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا أَتَاهَا بَعَثَ عُمَرُ، وَبَعَثَ مَعَهُ النَّاسَ إِلَى مَدِينَتِهِمْ أَوْ قَصْرِهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ هَزَمُوا عُمَرَ وَأَصْحَابَهُ، فَجَاءُوا يُجَبِّنُونَهُ وَيُجَبِّنُهُمْ فَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . وعن فتح القدير للشوكاني - الجزء (1) - الصفحة (444) :- وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كُلَيْبٍ قَالَ: «خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: آلَ عِمْرَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا أُحُدِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّقْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَوْمَ أُحُدٍ، فَصَعِدْتُ الْجَبَلَ فَسَمِعَتْ يَهُودِيًّا يَقُولُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَقُلْتُ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَقُولُ قُتِلَ مُحَمَّدٌ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَنَظَرْتُ فإذا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَرَاجَعُونَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» .
وأما قول عُمر بن الخطاب لنبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي» . فقد تضمن اعترافاً بأنّ قبيلته غير قادرة على منعه ، إمّا عجزاً منها وذلاً ، وإمّا لأنّه لم يكن لديه فيها صديق ولا محب ، وقد أعترف عُمَر بذلك حيث قال لأبي عبيدة في الشام : «إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ» . ويقول معاوية بن أبي سفيان عن مصنف عبد الرزاق الصنعاني - الجزء (5) - الصفحة (451) - الحلقة (9767) :- عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مُبَارَكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنِ ابْنِ أَبْجَرَ قَالَ: «لَمَّا بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: غَلَبَكُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَذَلُّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي قُرَيْشٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَمْلَأَنَّهَا خَيْلًا وَرِجَالًا . قَالَ: فَقُلْتُ: مَا زِلْتَ عَدُوًّا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَمَا ضَرَّ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ شَيْئًا» . وقد ذكر المؤرخون أنّه لم يكن في بني عدي سيّد أصلاً ، ويقول عوف بن عطية في طبقات الشعراء لابن سلام - الصفحة (٣٨) :-
وأما الألأمان بنو عدي ... وتيم حين تزدحم الأمور
فلا تشهد بهم فتيان حرب ... ولكن أدن من حلب وعير
إذا رهنوا رماحهم بزبد ... فإن رماح تيم لا تضير
وأما قول عُمر بن الخطاب لنبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «وَإِنْ أَحْبَبْت يَا رَسُولَ اللهِ دَخَلْت عَلَيْهِمْ» . فهذه رصاصة الرحمة القاتلة لكل احتمال يمكن أن يكون في صالح عُمَر بن الخطاب ! لأنّ هذه الكلمة قد أظهرت أنّه يريد أن يجعل المسؤولية عن أي شيء يواجهه في مسيره ذاك تقع على عاتق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ! فكأنّه قال له : "أنا أرفض طلبك طائعاً بالاستناد إلى شواهد وأدلة ، ولكني أنفذه مرغماً" . يضاف إلى ذلك أنّ هذا يستبطن أكثر من إشارة ودلالة أخرى ، ومنها أن لا يكون لدى هذا المرغم أي ثواب فيما يقوم به ، وأنّه لو تعرض لأي خطر في مهمته تلك فإنّه يكون قد خسر نفسه في الدنيا والآخرة ، حيث سيكون مجرد قتيل ولا يكون شهيداً ، وأنّ على أهله وذويه أن يتوجهوا إلى من أرغمه على هذا الفعل الذي سوف ينتهي إلى هذه النتيجة ويطالبوه بدمه وبكل ضرر لحق به . والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يرضى بذلك ، بل يريد أن يجعل المسؤولية على عاتق عُمَر نفسه ، وأن يفتح أمامه باب الرحمة الإلهية والفوز العظيم ويمكّنه من أن يختار الدخول من خصوص هذا الباب ، فإن اختار أن يقصد التقرب إلى الله تعالى وسعى في نيل رضوانه كانت له المثوبة العظيمة ، سواء تعرض لعدوان أعداء الله أم نجا منهم . وإن اختار أن يقوم بالعمل بهدف الحصول على الشهرة والمقام في الدنيا ونحو ذلك ، فذلك شأنه ويكون هو المقصر في حق نفسه ؛ ولأجل ذلك سكت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يجب عُمَر على كلامه بشيء ، وكان لا بد له من صرف النظر عن الموضوع والبحث عن غيره لهذه المهمة .
فدعا رسول الله (صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم) عثْمان بن عفان وقال له : «اذْهَبْ إلَى قُرَيْشٍ فَخَبّرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَإِنّمَا جِئْنَا زَوّارًا لِهَذَا الْبَيْتِ ، مُعَظّمِينَ لِحُرْمَتِهِ ، مَعَنَا الْهَدْيُ نَنْحَرُهُ وَنَنْصَرِفُ» . وفي رواية أنّه طلب منه أن يدخل على رجالٍ مؤمنين ونساء مؤمنات ويبشرهم بالفتح القريب وبأنّ الله تعالى سيظهر دينه قريباً في مكة وسيتمكن أهل الإيمان من إظهار دينهم فيها . فانطلق عثمان إلى قريش ، فمر عليهم ببلدح ، فقالوا : «أَيْنَ تُرِيدُ؟» فقال : «إنّ رَسُولَ اللهِ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالِ أحد ، إِنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِرًا، مَعَهُ الْهَدْيُ عَلَيْهِ الْقَلَائِدُ يَنْحَرُهُ وَيَنْصَرِفُ» . فقالوا : «قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ وَلَا كَانَ هَذَا أَبَدًا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً، فَارْجِعْ إلَى صَاحِبِك فَأَخْبِرْهُ أَنّهُ لَا يَصِلُ إِلينَا» . ثم لقيه أبان بن سعيد فرحب به وأجاره ، ثم نزل عن فرس كان عليه فحمل عثمان على السرج فدخل به مكة ، فأتى أشراف قريش فجعلوا يردون عليه : «إنّ مُحَمّدًا لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا أَبَدًا» . ودخل على قومٍ مؤمنين من رجالٍ ونساء مستضعفين بمكة فقال : «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : قَدْ أَظَلّكُمْ حَتّى لَا يَسْتَخْفِي بِمَكّةَ الْإِيمَانُ» ، ففرحوا بذلك ، وقالوا : «اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللهِ مِنّا السّلَامَ، إنّ الّذِي أَنَزَلَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَقَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَهُ بَطْنَ مَكّةَ» . قد أظهرت الوقائع أنّ عشيرة عثمان (الأموية) هي التي كانت تتولى كبر المواجهة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ! فلا يمكن أن تتساهل في أمره ولم يصحّ قول عُمَر فيهم ؛ حيث لم يجد عثمان عندها عزة ولا نصراً بل احتاج إلى من يحميه ويجيره منها ، فكان أبان بن سعيد بن العاص هو الرجل الوحيد الذي أجاره ، ووجدت قريش أنّ التعدي على عثمان سيعتبر تعدياً على من أجاره ، ومن شأن هذا الأمر لو حصل أن يؤدي إلى الإنقسام في صفوف أهل الشرك ، وقد كانوا بأمسّ الحاجة إلى تحاشي ذلك بكل ثمن .
ولما فرغ عثمان من رسالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى قريش قالوا له : «إِنْ شِئْت أَن تَطوف بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ» . فقال : «مَا كُنْتُ لأَفْعَل حَتَّى يطوف بِهِ رَسُول اللَّهِ» . ولا ندري مدى صحة حديث امتناع عثمان عن الطواف بالبيت وأنّ قريشاً عرضت ذلك عليه ، فرفض أن يسبق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه ؛ لإنّهم يزعمون أنّ عثمان لم يستطع دخول مكة إلّا بجوار ، فما معنى أن تشتد عليه قريش هنا ثم تسمح له بالطواف بالبيت بعد ذلك ؟! ومن الذي قال إنّ عثمان كان يعرف كيف يؤدي مناسك العمرة كما حددها الإسلام ؟ فإنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قال للناس حينما دخل مكة المكرمة في العام القابل من صلح الحديبية : «خُذُوا عني مَنَاسِكَكُمْ» . (جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد : ج2، ص7،ح٣٤٨٩، عن صحيح مسلم : ح1297.) . فتعلّم الناس منه كيفية الاعتمار وكيفية الحج حينئذٍ ، ولم يكن قد حجّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معلناً قبل هذا ليكون عثمان قد حجّ معه ، ولا دليل يدل على أنّه قد تعلّم منه ذلك شفاهاً . ومما يلقي ظلالاً من الشك على هذه الأقوال أيضاً هو أنّ الكلام كله يتمحور حول عثمان ، مع أنّهم يقولون إنّ عشرة أشخاص قد دخلوا معه في أمانه ، ولم نجد أحداً قد سألهم أو سأل عنهم : هل طافوا حول الكعبة أم لم يطوفوا ؟ أو على الأقل لم يحدثنا التاريخ بشيءٍ من ذلك .
وقبل رجوع عثمان إلى الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن معه من رجالٍ دخلوا مكة بإذن النبي العظيم ، بلغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ عثمان ومن معه قد قُتِلوا وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأمر أصحابه بالحراسة بالليل ، فكانوا ثلاثة يتناوبون الحراسة : أوس بن خولي وعباد بن بشر ومحمد بن مسلمة . وكان محمد بن مسلمة على حرس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلة من الليالي ، وعثمان بن عفان بمكة . وقد كانت قريش بعثت ليلاً خمسين رجلاً وقيل أربعين عليهم مكرز بن حفص ، وأمروهم أن يطوفوا بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجاء أن يصيبوا منهم أحداً أو يصيبوا منهم غرة . فأخذهم محمد بن مسلمة فجاء بهم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وأفلت مكرز فخبّر أصحابه ، وظهر قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما تقدّم : "أنّه رجل غادر" . وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وهم : كرز بن جابر الفهري ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، وعبد الله بن حذافة السهمي ، وأبو الروم بن عمير العبدري ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وعمير بن وهب الجمحي ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وعبد الله بن أبي أمية . قد دخلوا مكة في أمان عثمان وقيل سراً ، فعلمت بهم قريش فأخذتهم . وبلغ قريشا حبس أصحابهم الذين مسكهم محمد بن مسلمة ، فجاء جمع من قريش إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة ، وأسر المسلمون من المشركين أيضاً اثني عشر فارساً ، وقُتِلَ من المسلمين ابن زنيم - وقد أطلع الثنية من الحديبية - فرماه المشركون فقتلوه . وعند ذلك قال النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «إنّ اللهَ أَمَرَنِي بِالْبَيْعَةِ» .
وبعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ، فلمّا جاء سهيل ورآه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لأصحابه : «سَهُلَ أمْرُكُمْ» . فقال سهيل : «مَنْ قَاتَلَك لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيٍ ذَوِي رَأْيِنَا وَلَا ذَوِي الْأَحْلَامِ مِنّا، بَلْ كُنّا لَهُ كَارِهِينَ حِينَ بَلَغَنَا وَلَمْ نَعْلَمْ بِهِ، وَكَانَ مِنْ سُفَهَائِنَا! فَابْعَثْ إلَيْنَا بِأَصْحَابِنَا الّذِينَ أَسَرْت أَوّلَ مَرّةٍ وَاَلّذِينَ أَسَرْت آخِرَ مَرّةٍ» ! فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «إنّي غَيْرُ مُرْسِلِهِمْ حَتّى تُرْسِلَ أَصْحَابِي» . فقالوا : «أَنْصَفْتنَا» . فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشّييم ـ بشين معجمة مصغر ـ بن عبد مناف التيمي : «إنّكُمْ حَبَسْتُمْ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ، لَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَقَدْ كُنّا لِذَلِكَ كَارِهِينَ! وَقَدْ أَبَى مُحَمّدٌ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ أُسِرَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ حَتّى تُرْسِلُوا أَصْحَابَهُ، وَقَدْ أَنْصَفَنَا، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّ مُحَمّدًا يَطْلِقُ لَكُمْ أَصْحَابَكُمْ» ، فبعثوا بمن كان عندهم وهم عثمان والعشرة السابق ذكرهم . وأرسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصحابهم الذين أُسِروا أول مرّة وآخر مرّة ، فكان فيمن أسر أول مرةٍ عمْرو بْن أبي سفيان . وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبايع الناس يوْمئذٍ تحْت شجرةٍ خضْراء، وقدْ كان مما صنع الله للْمسْلمين أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر مناديه فنادى : «إنّ رُوحَ الْقُدُسِ قَدْ نَزَلَ عَلَى الرّسُولِ وَأَمَرَ بِالْبَيْعَةِ، فَأَخْرِجُوا عَلَى اسْمِ اللهِ فَبَايِعُوا» . فلما نظرتْ قريْشٌ - سهيْل بْن عمْرٍو، وحويطب ابن عبْد الْعزى ومنْ كان معه، وعيون قريْشٍ - إلى ما رأتْ منْ سرْعة الناس إلى الْبيْعة وتشْميرهمْ إلى الْحرْب، اشْتد رعْبهمْ وخوْفهمْ وأسْرعوا إلى الْقضية . ورجع حويْطب بْن عبْد الْعزى وسهيْل بْن عمْرٍو ومكْرز بْن حفْصٍ إلى قريْشٍ، فأخْبروهمْ بما رأوْا منْ سرْعة أصْحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الْبيْعة، وما جعلوا له ، فقال أهْل الرأْي منْهمْ : «لَيْسَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ نُصَالِحَ مُحَمّدًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ عَنّا عَامَهُ هذا ويرجع قابل، فَيُقِيمُ ثَلَاثًا وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَنْصَرِفُ، وَيُقِيمُ بِبَلَدِنَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا» . فأجْمعوا على ذلك ، فلما أجمعتْ قريْشٌ على الصلْح والْموادعة بعثوا سهيْل بْن عمْرٍو ومعه حويْطب بْن عبْد الْعزى ومكْرز بْن حفْصٍ وقالوا : «ائْتِ مُحَمّدًا فَصَالِحْهُ ، وَلْيَكُنْ فِي صُلْحِك لَا يَدْخُلُ فِي عَامِهِ هَذَا ، فَوَاَللهِ لَا يَتَحَدّثُ الْعَرَبُ أَنّك دَخَلْت عَلَيْنَا عَنْوَةً» . فأتى سهيْلٌ للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلما رآه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين طلع قال : «أَرَادَ الْقَوْمَ الصّلْحَ» . فكلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأطال الْكلام، وتراجعوا ، وترافعتْ الْأصْوات وانْخفضتْ وقال عُمَر ورجالٌ معه منْ أصْحاب النبي : «يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ تَكُنْ حَدّثْتنَا أَنّك سَتَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَتَأْخُذُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَتُعَرّفُ مَعَ الْمُعَرّفِينَ؟ وَهَدْيُنَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْبَيْتِ وَلَا نَحْنُ!» . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «قُلْت لَكُمْ فِي سَفَرِكُمْ هَذَا» ؟ قال عُمَر : "لَا" . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «أَمَا إنّكُمْ سَتَدْخُلُونَهُ، وَآخُذُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، وَأَحْلِقُ رَأْسِي وَرُءُوسَكُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ، وَأُعَرّفُ مَعَ الْمُعَرّفِينَ» ثم أقْبل على عُمَر فقال : «أَنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ؟ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؟ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ كَذَا..» ؟ وجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يذكرهمْ أموراً فقال الْمسْلمون : «صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ! يَا نَبِيّ اللهِ، مَا فَكّرْنَا فِيمَا فَكّرْت فِيهِ، لَأَنْتَ أَعْلَمُ بِاَللهِ وَبِأَمْرِهِ مِنّا» .
فلما حضرتْ الدواة والصحيفة بعْد طول الْكلام والْمراجعة فيما بيْن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسهيْل بْن عمْرٍو ولما الْتأم الْأمْر وتقارب ، دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجلًا يكْتب الْكتاب بيْنهمْ ، ودعا أوْس بْن خوْلي يكْتب ، فقال سهيْلٌ : «لَا يَكْتُبُ إلّا أَحَدُ الرّجُلَيْنِ، ابْنُ عَمّك عَلِيّ أَوْ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ» ! فأمر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً (عليه السلام) يكْتب ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «اُكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ» . فقال سهيْلٌ : «لَا أَعْرِفُ الرّحْمَنَ، اُكْتُبْ كَمَا نَكْتُبُ بِاسْمِك اللهُمّ» . فضاق الْمسْلمون منْ ذلك وقالوا : «هُوَ الرّحْمَنُ! لَا تَكْتُبْ إلّا الرّحْمَنَ» . قال سهيْلٌ : «إذًا لَا أُقَاضِيهِ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى أَرْجِعَ!». فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «اُكْتُبْ بِاسْمِك اللهُمّ! هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ» . فقال سهيْلٌ : «لَوْ أَعْلَمُ أَنّك رَسُولُ اللهِ مَا خَالَفْتُك وَاتّبَعْتُك ، أَفَتَرْغَبُ عَنْ اسْمِك وَاسْمِ أَبِيك مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؟» فضجّ الْمسْلمون منْها ضجةً هي أشد منْ الْأولى حتى ارْتفعتْ الْأصْوات وقام رجالٌ منهم يقولون : «لَا تَكْتُبْ إلّا مُحَمّدٍ رَسُولِ اللهِ، وَإِلّا فَالسّيْفُ بَيْنَنَا! عَلَامَ نُعْطِي هَذِهِ الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟!» فجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخْفضهمْ ويومئ بيده إليْهمْ : «اُسْكُتُوا» ! وجعل حويْطب يتعجب مما يصْنعون ويقْبل على مكْرز بْن حفْصٍ ويقول : «مَا رَأَيْت قَوْمًا أَحْوَطَ لِدِينِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ» ! فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «اُكْتُبْ بِاسْمِك اللهُمّ» . فنزلتْ هذه الْآية في سهيْلٍ حين أبى أنْ يقر بالرحْمن : ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾ . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَاكْتُبْ» ! فكتب : «بِاسْمِك اللهُمّ، هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النّاسُ وَيَكْفِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ ، وَأَنّ بَيْننَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَعَقْدِهِ فَعَلَ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهَا فَعَلَ، وَأَنّهُ مَنْ أَتَى مُحَمّدًا مِنْهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ إلَيْهِ، وَأَنّهُ مَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ لَمْ تَرُدّهُ، وَأَنّ محمّدا يَرْجِعُ عَنّا عَامَهُ هَذَا بِأَصْحَابِهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْنَا قَابِلٌ فِي أَصْحَابِهِ فَيُقِيمُ ثَلَاثًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِسِلَاحٍ إلّا سِلَاحَ الْمُسَافِرِ، السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ» . شهد أبو بكْر بْن أبي قحافة، وعمر بْن الْخطاب، وعبْد الرحْمن بْن عوْفٍ، وسعْد بْن أبي وقاصٍ، وعثْمان بْن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد ابن مسْلمة، وحويْطب بْن عبْد الْعزى، ومكْرز بْن حفْص بْن الْأخْيف، وكتب ذلك على صدْر هذا الْكتاب، فلما كتب الْكتاب قال سهيْلٌ : «يَكُونُ عِنْدِي» ! وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «بَلْ عِنْدِي» ! فكتب له نسْخةً فأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الْكتاب الْأول وأخذ سهيْلٌ نسْخته وكان عنْده .
فلّما فرغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منْ الْكتاب وانْطلق سهيْل بْن عمْرٍو وأصْحابه قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأصْحابه : «قُومُوا فَانْحَرُوا وَاحْلِقُوا» . فلمْ يجبْه منْهمْ رجلٌ إلى ذلك ! فقالها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثلاث مراتٍ كل ذلك يأْمرهمْ ، فلمْ يفْعلْ منهم ذلك ! فانْصرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى دخل على أم سلمة زوْجته مغْضبًا شديد الْغضب وكانتْ معه في سفره ذلك ، فاضطجع فقالت : «مَالكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ مِرَارًا لَا تُجِيبُنِي» ؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «عَجَبًا يَا أُمّ سَلَمَةَ! إنّي قُلْت لِلنّاسِ انْحَرُوا وَاحْلُقُوا وَحِلّوا مِرَارًا، فَلَمْ يُجِبْنِي أَحَدٌ مِنْ النّاسِ إلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامِي وَيَنْظرونَ فِي وَجْهِي» ! قالتْ : «يَا رَسُولَ اللهِ، انْطَلِقْ أَنْتَ إلَى هَدْيِك فَانْحَرْهُ، فَإِنّهُمْ سَيَقْتَدُونَ بِك». فاضْطبع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بثوْبه ثم خرج وأخذ الْحرْبة ينْهم هدْيه. قالتْ أم سلمة : «فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يَهْوِي بِالْحَرْبَةِ إلَى الْبَدَنَةِ رَافِعًا صَوْتَهُ: بِسْمِ اللهِ وَاَللهُ أَكْبَرُ» ! قَالت (رضي الله عنها) : «فَمَا هَذَا إلّا أَنْ رَأَوْهُ نَحْرَ، فَتَوَاثَبُوا إلَى الْهَدْيِ، فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ حَتّى خَشِيت أَنْ يَغُمّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وعن جابرٍ (رضي الله عنه) قال : «وَأَشْرَكَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الهدى، فنحر البدنة عن سَبْعَةٍ، وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً. وَكَانَ جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ قَدْ غَنِمَهُ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ عَلَيْهِ الْمَغَازِيَ، وَكَانَ قَدْ ضُرِبَ فِي لقاح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّتِي اسْتَاقَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَلِقَاحِهِ الّتِي كَانَتْ بِذِي الْجَدْرِ الّتِي كَانَ سَاقَهَا الْعُرَنِيّونَ، وَكَانَ جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ نَجِيبًا مَهْرِيّا كَانَ يُرْعَى مَعَ الْهَدْيِ، فَشَرَدَ قَبْلَ الْقَضِيّةِ فَلَمْ يَقِفْ حَتّى انْتَهَى إلَى دَارِ أَبِي جَهْلٍ وَعَرَفُوهُ، وَخَرَجَ فِي أَثَرِهِ عَمْرُو بْنُ عَنَمَةَ السّلَمِيّ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ لَهُ سُفَهَاءُ مِنْ سُفَهَاءِ مَكّةَ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: ادْفَعُوهُ إلَيْهِ. فَأَعْطَوْا بِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لَوْلَا أَنّا سَمّيْنَاهُ فِي الْهَدْيِ فَعَلْنَا» . وكان ابْن الْمسيب يقول : «كَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ، وَكَانَ النّاسُ سَبْعَمِائَةِ، وَكَانَ كُلّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةٍ» . وأكل الْمسْلمون منْ هدْيهمْ الذي نحروا يوْمئذٍ وأطْعموا الْمساكين ممنْ حضرهمْ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قدْ بعث بعشْرين بدنةً لتنْحر عنْد الْمرْوة مع رجلٍ منْ أسْلم، فنحرها عنْد الْمرْوة وقسم لحْمها . فلما دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عام الْقضية وحلق رأْسه قال : «هَذَا الّذِي وَعَدْتُكُمْ» . وحينها ندم الصحابة لأنّهم شكّوا في مصداقية رسول الله مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في العام الأول بعد أن شكّوا في دينهم شكاً لم يشكوا مثله كما صرح عُمَر بن الخطاب بذلك ! قد ظهر منهم أنّهم كانوا مرغمين على هذا الإحلال ، حتى إنّهم حين كانوا يحلقون رؤوس بعضهم كاد بعضهم أن يقتل بعضاً بالجراحات من شدة غمهم وارتباكهم وعظيم غيظهم . (راجع :- تاريخ اليعقوبي : ج2، ص55. والكامل في التاريخ : ج2، ص215.)
ما هو سبب بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة ؟
زعموا أنّ السبب في دعوة الناس إلى بيعة الرضوان هو الشائعة التي سرت في الناس من أنّ عثمان قد قُتِلَ في مكة ! تاركين وراءهم جميع تلك الأحداث الشديدة التي نزل الوحي من أجلها على الرسول مُحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمر الناس للبيعة ! في حين إنّهم يذكرون أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أخبر أصحابه أنّ عثمان لم يطف بالبيت ولا يطوف ، فإنّ كان قد علم ذلك بواسطة الغيب فلماذا لم يعلم بواسطة الغيب أيضاً بسلامة عثمان من القتل ؟! ويكذب الشائعة التي انطلقت حول ذلك ؟! ولماذا بادر إلى عقد بيعة الرضوان استنادا إلى شائعة كاذبة ؟! وإن كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أخبرهم بهذا الأمر استناداً إلى معرفته بنفسية عثمان وبطريقة تفكيره فذلك يحتاج إلى إثبات وشاهد . وإذا كان سهيل بن عمرو قد شاهد بيعة الرضوان كما يستفاد من بعض النصوص ، فلماذا لم يخبر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن عثمان حي يرزق وأنّه لا داعي للقلق عليه ؟ ولماذا لم يسأل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أحد من المسلمين عنه ؟! وقد زعموا أيضاً أنّه لما بلغ المسلمين أنّ عثمان قد احتبس في مكة ، احتبس المسلمون سهيل بن عمرو مبعوث قريش . ونقول : إنّ سهيل بن عمرو إنّما جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معتذراً عمّا فعله سفهاؤهم وأنّ ما جرى لم يكن عن رأي ذوي الرأي فيهم . والظاهر أنّ سهيلاً قد وصل إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وقت البيعة ورأى ما جرى بأم عينيه ، فناسب ذلك إطلاق شائعة من هذا القبيل . فكل هذا الذي يقال عن شائعة قتل عثمان وعن البيعة عنه وغير ذلك من أمورٍ هو مما حاكته يد السياسة التي لم تستطع أن تحفظ تسلسل الأحداث ، ولا تمكنت من اكتشاف الخلل فيما يذاع ويشاع وينشر هنا وهناك من قبل المحبين والمتزلفين لعثمان بن عفّان الأموي .
أمّا سبب بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة الحقيقي فهو الشائعة التي سرت عن قتل العشرة الذين أرسلهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى مكة لملاقاة أهاليهم ، والدليل على ذلك قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «إنّي غَيْرُ مُرْسِلِهِمْ حَتّى تُرْسِلَ أَصْحَابِي» . وقد اختلفوا في طريقة دخولهم هل كان سراً أم دخلوا في أمان عثمان ؟! ونرجح أن يكون دخولهم سراً ؛ لتصريح الرواية بأنّهم "أُخِذُوا" ، فإنّهم لو كانوا قد دخلوا في أمان عثمان فلماذا أخذتهم قريش ؟ وإذا كان قد بدا لها أن تأخذهم فلماذا لم يبد لها أن تأخذ عثمان معهم ؟! ولم يكن في عثمان ما يميزه عنهم عندها ، بل قد يكون أخذه هو الأولى بالنسبة إليها ولا سيما مع تكفل كل قبيلة بالتصدي لمن يسلم من أبنائها ، وإذا كان عثمان قد دخل في جوار أبان ، فلماذا لم يطلب منه أن يجير رفقاءه معه ؟! وهل من المروءة أن يؤمن نفسه ويترك رفقاءه ؟! وإذا كانوا قد دخلوا في أمانه وفي جواره فكيف رضي من أجارهم أن يؤخذوا ؟! وقد تقدّم أنّه ليس ثمة ما يدل على أنّ أحداً منهم قد طاف بالبيت ولا ظهر في شيء من النصوص التي بين أيدينا أنّ قريشاً قد سمحت لهم بذلك ، فرفضوه أو قبلوه كما يزعمونه بالنسبة لعثمان . ولم يظهر أيضاً من النصوص أنّهم شاركوا عثمان في أي نشاط ، فلم تشر إلى ذهابهم معه لزيارة بيوت المؤمنين أو دخولهم على زعماء قريش لإبلاغ رسالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . وهذا كله يقرب احتمال أن يكونوا قد دخلوا إلى أهاليهم سراً فكانوا عندهم فنمي أمرهم إلى قريش فأخذتهم .
ومن أهم الأسباب أيضاً هي أنّ أعداداً من الأرقاء والعبيد الذين كانوا في مكة وبعضاً من المستضعفين من قريش كانوا قد لحقوا بالمسلمين قبل عقد الصلح ، فكتبت قريش إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يعيدهم إليها وجاء في الكتاب : «يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا خَرَجُوا إِلَيْكَ رَغْبَةً فِي دِينِكَ وَإِنَّمَا خَرَجُوا هَرَبًا مِنَ الرِّقِّ» . فرفض النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طلبهم وقال : «هُمْ عُتَقَاءَ اللَّهِ» . وطلب منه سهيل بن عمرو ذلك أيضاً وقال له : «قَدْ خَرَجَ إِلَيْكَ نَاسٌ مِنْ أَبْنَائِنَا وَإِخْوَانِنَا وَأَرِقَّائِنَا وَلَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ أَمْوَالِنَا وَضِيَاعِنَا فَارْدُدْهُمْ إِلَيْنَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِقْهٌ فِي الدِّينِ سَنُفَقِّهُهُمْ» . فقال ناسٌ : «صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ!» . فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال : «لَتَنْتَهُنَّ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ ، امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ ، يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ عَلَى الدِّينِ» . قِيلَ : "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ" ؟ قَالَ : «لَا» ، قِيلَ: "فَعُمَرُ" ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ خَاصِفُ النَّعْلِ فِي الْحُجْرَةِ» . وكان الإمام علي (عليه السلام) يصلح نعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويخصف موضعه . فهذا من الأسباب التي أراد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يفهم قريشاً أنّه على استعداد للدخول في الحرب من أجل هؤلاء . كما أنّ من أسباب بيعة الرضوان هو استكبار قريش عن قبول طلب المسلمين زيارة بيت ربهم وقضاء نسكهم وعمرتهم . ومنها إرسال جماعات ليلية تسعى لاختطاف أشخاص أو القيام باغتيالات قد يكون بعضها بالغ الخطورة ، وقد أخذ المسلمون منهم خمسين رجلاً . ومنها حصول مناوشات وصدامات بين جماعة من المشركين والمسلمين ، انتهت بأسر اثني عشر رجلاً من المشركين . ومنها قتل ابن زنيم الذي اطلع الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون فقتلوه . وغير ذلك من أمور أوجبت إظهار القوة أمام قريش والمشركين ، وأنّ عليهم أن لا يتوهموا أنّ القضية هي مجرد هوى أو قرار شخصي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد يعارضه فيه طائفة من أصحابه ، فمن أجل كل ذلك جاءت الدعوة إلى بيعة الرضوان .
موقف الإمام علي (عليه السلام) من الحديبية :-
مما لا شك فيه أنّ حقد قريش على علي أمير المؤمنين (عليه السلام) كان هائلاً وعظيماً ، وقد أمره أبو طالب (عليه السلام) وليس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأن ينام في فراش النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مدى ثلاث سنواتٍ حين حصرهم المشركون في شعب أبي طالب ؛ من أجل أنّه إذا فكرت قريش باغتياله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان هو الفداء له والضحية دونه . ثم إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمره بأن ينام في فراشه الهجرة ، فبادر إلى ذلك طائعاً مسروراً ولم يسأل عمّا سيصيبه من جراء ذلك ، بل قال له أو تسلم يا رسول الله ؟ فقال : نعم. فخر (عليه السلام) ساجدا لله شكراً . مع أنّ الرجال المتعطشين لدمه حاضرون خلف الباب شاهرين سيوفهم بأيديهم وهم ينتظرون اللحظة الموعودة لينزلوا ضربتهم به ، ولا مجال لتحاشي ذلك . وكانت هذه هي سيرة علي (عليه السلام) وطريقته طيلة حياته مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فقد كان متفانياً في الذب عنه وفي الطاعة له ، وكان السامع المطيع الذي لا يسأل ولا يناقش ولا يقترح ولا يتردد مثل بقية الصحابة . وموقف الإمام علي العظيم (عليه السلام) في الحديبية برز بأنّه الرفيق الأول في درب النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والساعد الأيمن في قضاء جميع حوائجه ، وهو الذي تولّى كتابة عقد الصلح الذي هو من أعظم الفتوح في الإسلام ؛ قال تعالى : ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ ، حتى أنّه كان يخصف نعل النبي في الحديبية مما يدل على عظيم خدمته له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى في أبسط الأمور والأشياء :-
1- المستدرك على الصحيحين للحاكم - الجزء (2) - الصفحة (149) - الحلقة (٢٦١٤) :- أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، ثنا ابْنُ أَبِي غَرَزَةَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، ثنا شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَاهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا حُلَفَاؤُكَ وَقَوْمُكَ وَإِنَّهُ لَحِقَ بِكَ أَرِقَاؤُنَا لَيْسَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا فَرُّوا مِنَ الْعَمَلِ، فَارْدُدْهُمْ عَلَيْنَا، فَشَاوَرَ أَبَا بَكْرٍ فِي أَمْرِهِمْ فَقَالَ: صَدَقُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لِعُمَرَ: مَا تَرَى؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ رَجُلًا مِنْكُمُ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ، فَيَضْرِبَ رِقَابَكُمْ عَلَى الدِّينِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا! قَالَ عُمَرُ: أَنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ فِي الْمَسْجِدِ . وَقَدْ كَانَ أَلْقَى نَعْلَهُ إِلَى عَلِيٍّ يَخْصِفُهَا ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . [التعليق من تلخيص الذهبي على شرط مسلم] .
2- سنن الترمذي - الجزء (6) - الصفحة (80) - الحلقة (٣٧١٥) :- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ شَرِيكٍ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ رِبْعِي بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالرَّحَبَةِ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ خَرَجَ إِلَيْنَا نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَأُنَاسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، خَرَجَ إِلَيْكَ نَاسٌ مِنْ أَبْنَائِنَا وَإِخْوَانِنَا وَأَرِقَّائِنَا، وَلَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ أَمْوَالِنَا وَضِيَاعِنَا، فَارْدُدْهُمْ إِلَيْنَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِقْهٌ فِي الدِّينِ سَنُفَقِّهُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ بِالسَّيْفِ عَلَى الدِّينِ، قَدِ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: هُوَ خَاصِفُ النَّعْلِ، وَكَانَ أَعْطَى عَلِيًّا نَعْلَهُ يَخْصِفُهَا. قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ .
3- مصنف ابن أبي شيبة - الجزء (6) - الصفحة (367) - الحلقة (٣٢٠٨١) :- حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ قَدِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ فَيَضْرِبُكُمْ أَوْ يَضْرِبُ رِقَابَكُمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ، وَكَانَ أَعْطَى عَلِيًّا نَعْلَهُ يَخْصِفُهَا» . وأخرجه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة : (ج17، ص380) وقال عنه النسائي في خصائص علي (ص89) : صحيح .
ولا ندري فلعل طرح اسمي أبي بكر وعمر ليجيب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنفي أن يكونا مرادين في كلامه قد جاء من قبل شخص يريد أن يسمع الناس هذا التصريح ؛ لقطع دابر الكيد الإعلامي الذي قد يمارسه ذلك الحزب الذي عرف بالانحراف عن الإمام علي (عليه السلام) منذ بدايات الهجرة وربما قبل ذلك أيضاً . ويسجّل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذا الوسام الرائع لأمير المؤمنين عليه السلام في إطار فريد ورائع ، حين بيّن أن هذا الذي يستطيع أن يضرب رقاب قريش على الدين ليس ممن يرغب في شيء من حطام الدنيا وليس هو ممن يميّزون أنفسهم عن الآخرين . وهو إنسان لا يمدح بكثرة المال ولا بشيء مما يمدح به الآخرون ، ولا يحتاج في استحضار صورته إلى أي إطار تظهر عليه الألوان والأشكال والزخرفات بل هو يظهر في صورته وهو يخصف نعلاً ، وهي صورة لا يتوقعون ظهور الحاكم والرئيس فيها في أي من الظروف والأحوال . واللافت أنّ هذا النعل الذي يخصفه ليس له ، وإنّما هو لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأمر الذي يشير إلى طبيعة نظرته لنفسه ويؤكد صحّة ما يلهج به ، حيث يقول (صلوات الله عليه) : «أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّد» .
على ماذا كانت بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة وكم كان عدد المبايعين فيها ؟
قد اختلفوا في بيعة الرضوان هل كانت على الموت أو على عدم الفرار ؟ وعلى الأغلب صرّح كبارهم بأنّها كانت على عدم الفرار ، فقد أخرج مسلم في صحيحه - الجزء (6) - الصفحة (25) - الحلقة (٦٧ - ١٨٥٦) :- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ . (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ سَمُرَةٌ، وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ» . وعن الحلقة (٧٦ - ١٨٥٨) من صحيح مسلم :- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، عَنْ خَالِدٍ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ، وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: لَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ» .
ونقول : أنّ البيعة على عدم الفرار خلاف الحكمة والتدبير ؛ وذلك لأنّها تتضمن اتهاماً لأصحابه بأنّهم مظنة الفرار وفيها إيحاءً للعدو بأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غير واثق بنصر أصحابه له ، وأنّ عدم الثقة هذا قد بلغ حداً جعله يلجأ إلى أخذ المواثيق والعهود منهم بذلك ، ومن شأن هذا أن يدفع الأعداء إلى أن يطمعوا بالنصر عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأن يفكروا بأنّ بذل المزيد من الجهد قد يعطي ثماراً طيبة لهم ؛ ومما يشهد على ذلك ما رووه من أنّ أول من بايع هو سنان بن أبي سنان الأسدي ، فعن معرفة علوم الحديث للحاكم - الصفحة (217) وعن مغازي الواقدي - الجزء (2) - الصفحة (603) وعن مصنف ابن أبي شيبة - الجزء (7) - الصفحة (254) :- أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمُقْرِئُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ الْجُنْدَ نيْسَابُورِيُّ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ صُبَيْحٍ الْهِلَالِيُّ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدِ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ، فَجَاءَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى مَا فِي نَفْسِكَ، قَالَ: وَمَا فِي نَفْسِي؟ قَالَ: أَضْرِبُ بِسَيْفِي بَيْنَ يَدَيْكَ حَتَّى يُظْهِرَكَ اللَّهُ أَوْ أُقْتَلَ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَ النَّاسُ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي سِنَانٍ» . وعن كتاب غاية المقصد فى زوائد المسند للهيثمي - الجزء (2) - الصفحة (332) - الحلقة (2471) :- حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، حَدَّثَنِى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِىُّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ عُبَادَةُ، رَحَمهُ اللَّه، لأَبِى هُرَيْرَةَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إِنَّا بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِى الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلاَ نَخَافَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ فِيهِ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ النَّبِىَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ فَنَمْنَعُهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ، فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الَّتِى بَايَعْنَا عَلَيْهَا، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ وَفَّى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ» . (راجع أيضاً :- المسند الجامع : ج8، ص104. ومسند أحمد بن حنبل : ج37، ص429. والجامع الصحيح للسنن والمسانيد : ج36، ص449.)
ومن أجل ذلك تكون الأحاديث التي ذكرت أنّ البيعة كانت على عدم الفرار ولم تكن على الموت باطلة وفاضحة أيضاً ! وذلك أنّ الصحابة قد فروا في أول معركة بعد بيعة الرضوان وهي فتح خيبر ، فعن المستدرك على الصحيحين للحاكم - الجزء (3) - الصفحة (40) - الحلقة (4340) :- أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، بِمَرْوَ، ثنا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ، ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، ثنا نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا أَتَاهَا بَعَثَ عُمَرُ، وَبَعَثَ مَعَهُ النَّاسَ إِلَى مَدِينَتِهِمْ أَوْ قَصْرِهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ هَزَمُوا عُمَرَ وَأَصْحَابَهُ، فَجَاءُوا يُجَبِّنُونَهُ وَيُجَبِّنُهُمْ فَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . وعن الجامع الصحيح للسنن والمسانيد - الجزء (15) - الصفحة (389) :- عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: «حَاصَرْنَا خَيْبَرَ ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْ الْغَدِ عُمَرُ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَيُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ ، فَبِتْنَا طَيِّبَةٌ أَنْفُسُنَا أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْغَدَاةَ (صَلَاةِ الْفجر) ثُمَّ قَامَ قَائِمًا فَدَعَا بِاللِّوَاءِ - وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ - فَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ اللِّوَاءِ، فَدَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ أَرْمَدُ ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ ، وَمَسَحَ عَنْهُ ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ ، فَفَتَحَ اللهُ لَهُ» . يضاف لها بطلان العدد الذي ذكرته تلك الأحاديث الذي هو ألف وأربعمائة شخص ؛ والصحيح أنّ عدد الناس كان عددهم سبعمائة شخصاً لأنّهم اصطحبوا معهم سبعين بدنة ، وكل بدنة عن كل عشرة منهم . فعن صحيح ابن خزيمة - الجزء (2) - الصفحة (1366) - الحلقة (٢٩٠٦) :- ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، قَالَا: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ» . وعن كتاب مغازي الواقدي - الجزء (2) - الصفحة (614) :- كَانَ ابْنُ الْمُسَيّبِ يَقُولُ: «كَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ، وَكَانَ النّاسُ سَبْعَمِائَةِ، وَكَانَ كُلّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةٍ» .
هل كان رضا الله تعالى يشمل جميع من بايع في بيعة الرضوان ؟
رضا الله سبحانه وتعالى لم يشمل جميع المبايعين ؛ وذلك لأسباب كثيرة منها أنّ الآية الكريمة ذكرت المؤمنين ولم تذكر المسلمين ، حيث قالت الكريمة : ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ ، فهو دالٌ على أنّ الله سبحانه راض عن بيعة المؤمنين ولم يقل سبحانه أنّه راض عن جميع المبايعين أو أنّه راضٍ عن الذين بايعوا ، هكذا بشكل مطلق يستفاد منه العموم ، وإنّما قيّد سبحانه رضاه بالمؤمنين فقط ، وعندها علينا احراز إيمان الشخص المراد شموله بهذه الآية أولاً حتى نقول بعد ذلك أنّه داخل تحت عموم آية الرضوان وأنّه حقّاً من الّذين رضي الله عنه . يقول الطبري في تفسيره - الجزء (21) - الصفحة (277) :- «وَقَوْلُهُ: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: ١٨] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَعَلِمَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ مَا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِكَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، مِنْ صَدْقِ النِّيَّةِ، وَالْوَفَاءِ بِمَا يُبَايِعُونَكَ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ مَعَكَ ﴿فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح: ١٨] يَقُولُ: فَأَنْزَلَ الطُّمَأْنِينَةَ، وَالثَّبَاتَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِمْ وَحُسْنِ بَصِيرَتِهِمْ بِالْحَقِّ الَّذِي هَدَاهُمُ اللَّهُ لَهُ» . إذ أنّه هناك فرقٌ بين المؤمن والمسلم ، الفرق بينهما هي النسبة بين العموم والخصوص المطلق ، فكل مؤْمنٍ مسلم ولا عكس ، وهما منْ الألفاظ التي يصح القول فيها أنهما إذا افترقا اجْتمعا وإذا اجتمعا افترقا ، بمعنى إذا جاء ذكر المؤْمن لوحْده في كلامٍ وجاء ذكْر المسْلم في كلامٍ آخر كان المراد منْهما شيْئاً واحداً ، ولكنْ إذا اجْتمعا بحيْث ذكرا كلاهما في كلامٍ واحدٍ يكون المراد منْ أحدهما غيْر الآخر ، كما في قوْله تعالى : ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ . وكيفما كان المراد منْ الإسْلام عنْد اجْتماع اللفْظتيْن معاً هو النطْق بالشهادتيْن، فمن نطق بالشهادتين ولم ينكر ضرورياً من ضروريات الإسْلام كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما فهو مسْلمٌ يحْرم ماله وعرْضه ودماؤه إلّا بحقها . وأمّا الإيمان فهو التصديق والعمل بكل ما ثبت في الشريعة ، ومما ثبت هو ولاية الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بأدلةٍ غزيرة صحيحة .
السبب الثاني هو أنّ المنافقين كانوا حاضرين في الحديبية ، وقد بايع قسم منهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحديبية ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه كانوا حاضرين في ذلك المقام ، الذي تقول عنه مذاهب السنة والجماعة إنّه كان رأس النفاق في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) . وإن كنا نحتمل أن يكون ثمة تضخيم لدور ابن أبي ومحاولة الإنحاء باللائمة عليه في كثير من الأمور ، التي قد يكون بطلها الحقيقي شخصاً آخر يراد التستر عليه ، أمّا ابن أبي فهو ضحية هذه السياسة حين لا يكون له دور أساسي فيها والله أعلم . خاصةً إذا علمنا أنّ قاتل عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) هو أبا الغادية الجهني الذي شهد بيعة الرضوان ، فعن الطبقات الكبرى لابن سعد - الجزء (3) - الصفحة (260) :- أَخْبَرَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: «كُنْتُ بِوَاسِطِ الْقَصَبِ عِنْدَ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، فَقُلْتُ: الْإِذْنُ، هَذَا أَبُو غَادِيَةَ الْجُهَنِيُّ، فَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: أَدْخِلُوهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ لَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ طُوَالٌ، ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَمَّا أَنْ قَعَدَ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم قُلْتُ: بِيَمِينِكَ، قَالَ: نَعَمْ، وَخَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يَوْمَ الْعَقَبَةِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَى أَنْ تَلَقَّوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . وعن البداية والنهاية لابن كثير - الجزء (9) - الصفحة (194) :- رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ كَانَ ابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الْحَقِّ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَمَّارًا كَانَ فِي جَيْشِ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ، وَقَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْغَادِيَةِ» . ويقول علماء مذاهب السنة والجماعة أنّ عبد الرحمن بن عديس البلوي بايع تحت الشجرة وهو قاد الجيش الذي قتل عثمان بن عفان ، فيقول ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب في معرفة الأصحاب - الجزء (2) - الصفحة (840) - الحلقة (١٤٣٧) :- «عبد الرحمن بن عديس البلوي، مصري، شهد الحديبية. ذكر أسد ابن موسى، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، قَالَ: كان عبد الرحمن بن عديس البلوي ممن بايع تحت الشجرة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر: هو كان الأمير على الجيش القادمين من مصر إلى المدينة الذين حصروا عثمان وقتلوه» . ويقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح صحيح البخاري - الجزء (1) - الصفحة (263) :- قال : كما أوضحته في الشرح يحيى بن سعيد ، عن سفيان هو الثوري ، حدثني : أبو إسحاق هو السبيعي ، حدثني : عبد الله بن يزيد هو الخطمي ، حدثني : «البراء هو بن عازب قوله وكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة هو بن عتبة بن ربيعة اسمه مهشم ، وقيل غير ذلك حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار في قوله لعثمان إنك امام عامة ونزل بك ما ترى ويصلي لنا امام فتنة ونتحرج الحديث المراد بامام الفتنة المذكور عبد الرحمن بن عديس البلوي ، قاله بن عبد البر ، قال : وقد صلى بالناس أيام حصار عثمان بأمره أبو امامة أسعد بن سهل بن حنيف» . فهل سيقر المتمذهب بالمذاهب السنية برضا الله على عبد الرحمن بن عديس البلوي الذي بايع تحت الشجرة وقتل عثمان بن عفان ؟! وظهر أيضاً عدم صحة حديث : "أنتم اليوم خير أهل الأرض" ؛ فإنّ المنافقين كانوا فيهم ولم يكن المنافقون خير أهل الأرض قطعاً ، كما أنّ هذا الحديث المفترى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينفي حياة الخضر (عليه السلام) ؛ قال الحلبي في كتابه السيرة الحلبية - الجزء (3) - الصفحة (25) :- «واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم أنتم خير أهل الأرض على عدم حياة الخضر (عليه السلام) حينئذٍ ، لأنه يلزم أن يكون غير النبي أفضل منه. وقد قامت الأدلة الواضحة على ثبوت نبوته ، كما قاله الحافظ ابن حجر» .
السبب الثالث هو أنّ هذه الآية مسبوقة بآية أخرى تحذر الذين يبايعون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من نكث البيعة ، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ - [سُّورَةُ الْفَتْحِ : 10.] . كما قال عز وجل في الآية الأخرى : ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ - [سُّورَةُ الْفَتْحِ : 18.] . فدلَّ ذلك على أن نيلهم للرضا الإلهي دائر مدار شرطين : أحدهما الوفاء بالبيعة والآخر الإيمان ، فيجب أن تكون بيعة الشجرة من غير نكث حتى ينال صاحبها رضا الله تعالى ويؤتيه أجراً عظيماً . كما أنّه قد قال : ﴿...إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...﴾ . ولم يقل : "إذ بايعوك" ، ليدلَّ على أن البيعة لم تكن علة للرضا مطلقاً ، بمعنى أنّ الرضا قد تحقق بالبيعة وانتهى الأمر ، بل هو مشروط بالاستمرار على البيعة الذي يفيده الفعل المضارع ، فكأنه تعالى قال : ما داموا ملتزمين بالبيعة ، وما دامت هذه البيعة سارية وباقية بذاتها وعينها ، فإنّ الرضا موجود ، فإذا انقطع سريانها انقطع الرضا . وذلك يدلُّ أيضاً على أنّ الرضا عنهم لم يكن لأجل صحبتهم ليشمل حتى زمان ما قبل البيعة ، وإنما لأجل بيعتهم وعلى سبيل الجزاء لهم على هذا الفعل بخصوصه . قد يقول قائل أنّ الظرف (إذا) متعلق بقوله (رضي) ، فنجيبه : أنّ الرضا وقع على العمل ، فإنّ الرضا نوع جزاء وهو يقع على العمل لا الذات . وقد يقول قائل أيضاً أنّ الفعل (رضي) يفيد الماضي المستمر ، فنجيبه : أنّ الماضي هنا قيد بظرف المبايعة المدلول عليه بـ(إذ) وأمّا قوله سبحانه (فعلم) أي علم ما في قلوبهم من صدق النية من عدمها ، فرضي عمّن صدق وسخط على من كذب . فعن تفسير الطبري - الجزء (21) - الصفحة (254) :- «الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 10] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾ [الفتح: 10] بِالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَلَا يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: 10] يَقُولُ: إِنَّمَا يُبَايِعُونَ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّاكَ اللَّهَ، لِأَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُمُ الْجَنَّةَ بِوَفَائِهِمْ لَهُ بِذَلِكَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ . ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾ [الفتح: 10] قَالَ: يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ» .
السبب الرابع هو وقوع المعصية من المبايعين بالفرار فيما بعد ونقض العهد ؛ لأنّ المراد أن لا يفروا في جميع حروبهم لا في خصوص غزوة الحديبية ، ولذا اشترط الله تعالى عليهم الوفاء في الآية المتقدمة مع أنّ غزوة الحديبية لم يقع فيها حرب ، وسورة الفتح نزلت بعد صلح الحديبية ، كما يناسبه أيضاً تذكير النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم بهذه البيعة في واقعة حنين ، فعن مصنف ابن أبي شيبة - الجزء (7) - الصفحة (417) - الحلقة (٣٦٩٩١) :- عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ ، مَوْلَى غُفْرَةَ قَالَ: نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَةٍ كَانَ عَلَيْهَا فَجَعَلَ يَصْرُخُ بِالنَّاسِ: «يَا أَهْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، يَا أَهْلَ بَيْعَةِ الشَّجَرَةِ ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَنَبِيُّهُ ، فَتَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ» . وعلى ذلك يكون فرار جماعة منهم في غزوة خيبر و فرار أكثرهم في غزوة حنين نكثاً لتلك البيعة رافعاً لرضا الله سبحانه عنهم . ولقد ورد حديثٌ عن النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صاعقٌ فاضح ! وهو حديث الحوض المصرّح بارتداد الصحابة عن الدّين ودخولهم نار جهنم . وقد ورد هذا الحديث بألفاظٍ مختلفة ، مثل :- «يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمِ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ أَصْحَابِي؟ فَيُقَالُ : إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ! فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ : ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ . فَيُقَالُ : إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ» . «لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، فَأَقُولُ : إِنَّهُمْ مِنِّي ، فَيُقَالُ : إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ؟ فَأَقُولُ : سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» . «لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ» . «أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ ، أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ : إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ ! فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا» . «لَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ أَصْحَابِي ؟ فَيُقَالُ : إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» . فهذه الأحاديث واضحة بعبارات صريحة جداً لا تقبل التأويل ، نحو قوله : (من أصحابي) ، (فأقول: يا رب أصحابي) ، الظاهرة في أنّ المبدِّلين من بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمحدِّثين في الدّين هم ممّن صحبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخالطه ، وهذا هو الذي يقتضيه الظهور للعبارات المذكورة . ونحو قوله : (رجالٌ منكم) ، (أعرفهم ويعرفونني) ، فهذه عبارات لا يمكن حملها على المرتدّين من الأعراب في أطراف الجزيرة بأيّ حالٍ من الأحوال . ونحو قوله : (سُحْقًا سُحْقًا) أي بُعداً لهم بعداً ونصبه على المصدر وكرر للتوكيد . فحديث الحوض الشريف يكشف عن وقوع الارتداد من الصحابة ، وأنّه لا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم ، ومعلوم أنّ الناجين هم الذين ثبتوا على أوامر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخلصوا من شائبة الانحراف ، ومنهم من القلّة كهمل النعم وهي ضوال الإبل .
السبب الخامس هو أنّ عمر بن الخطاب قد قام بقطع شجرة بيعة الرضوان ! فَقَدْ رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صحِيحٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : «كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ التِي يُقَالُ لَهَا: شَجَرَةَ الرِّضْوَانِ التِي بُويِعَ تَحْتَهَا فيصَلُّونَ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ فَأَوْعَدَهُمْ فِيهَا، وَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ» . (أخرجه ابن سعد في طبقاته : ج2، ص299. وصحح إسناده الحافظ في الفتح : ج8، ص218.) وعن مصنف ابن أبي شيبة - الجزء (2) - الصفحة (150) - الحلقة (٧٥٤٥) :- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: أَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: «بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ نَاسًا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ» . فلا ندري ما هذه المفارقات العجيبة بين آراء وتصرفات عُمَر بن الخطاب ؟! فهو من جهة يتوسل إلى الله في الاستسقاء بالعباس عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ويقبّل الحجر الأسود لأنّه رأى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقبّله . وهو يرى أنّ الصحابة يتبركون بفضل وضوء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبشعره وعرقه وببصاقه وبكل شيءٍ يرجع إليه . ويشاهد بأمّ عينيه ما فعله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين بصق وغرس السهم في البئر التي في الحديبية ، بالإضافة إلى عشرات الموارد التي يشاهدها هو والمسلمون طيلة حياتهم معه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعدة سنين بعدها فضلاً عن تبركهم بقبره الشريف وبغير ذلك . ولكنه لا يطيق في أيام خلافته رؤية المسلمين يتعاهدون شجرة بيعة الرضوان ويصلّون عندها . واللافت أنّ عُمَر بن الخطاب قد أجرى امتحاناً للصحابة ، وذلك حين مرّ بذلك المكان بعد ذهاب الشجرة (أي بعد أن أمر بقطعها) فقال : «أَيْنَ كَانَتْ؟» فجعل بعضهم يقول : «هَاهُنَا» . وبعضهم يقول : «هَاهُنَا» فلما كثر اختلافهم قال : «سِيرُوا، قَدْ ذَهَبَتِ الشَّجَرَةُ» . (تفسير البغوي : ج7، ص304.)