خواطر ….المكانة
صيفٌ آخر.. سيكتب ذكريات جديدة، لِيُعدّل نسختي السابقة، هذا ما وجدته في أوراق الماضي،
«لا بد للسفر أن يُطَرّز الإجازةَ بخيوطٍ ذهبيّة، دون أن يمسّ الثوابت، لا بُدّ أن يُصححَ جُزءًا مما أظنّه مُسلّمات،
مُبدِيًا رغبته في التصالح مع الغرباء والمُستجدات».
تستخدمُ بعض الدول العربيّة كلمة «إجازة» بمفهومٍ مختلف، فلان لديه إجازة جامعية بتخصص كذا، أو إجازة قيادة سيارة،
بمعنى أنّ الإجازة دروس.
التعلّم جوهر الحياة، لطالما دافعنا عن أفكارنا حدّ الخلاف، لكن التطوّر والتنقّل، وسّع دائرة المصادر،
مُثيرًا رغبتنا في التدبر والاستيعاب الذاتي، كما أمرنا الله، بعيدًا عن الإملاءات، ودون سحب الثقة من مُعلّمينا الأوائل،
مع محاولة إقناعهم بأن ما نحن عليه اليوم، ليس نتاجنا وحدنا، خاصة بعد أن عاصرنا تقدّم الأمم الأخرى، مقابل تراجعنا كعرب.
يؤرّقني ذاك الجيل المنتشر في بعض البلاد العربية، جيلٌ يلوم الآباء على واقع بلادهم المتدهور، بداية من الفساد إلى قلة المال والأعمال،
بل وقلّة الرجال، فأغلبهم يعملون في الخارج، ولا مجال للولد أن يتعلمَ من أبيه، الدور الفعليّ للرجل، كابن وزوج وأب ومواطن،
فهو لا يراه مع جدّته وأمّه وإخوته، إلا في إجازات قصيرة، يقضيها راغبًا بالراحة والدلال، ليُعوّض تعب العمل والعزوبية والغُربة،
وتلك أبسط حقوقه.
بينما يحاولُ الوالد توجيه ابنه كلما سنحت له فرصة في الإجازة، فيقول له: «علّم ابنك الصيد بدلًا من أن تشتري له سمكة،
هيا بنا للبحر»، شكرًا يا أبي، لا أريد.
لقد اعتاد الابن على أن دور الوالد هو الإنفاق، لدرجة أنه أصبح يتضجّر من نُصح أبيه وتوجيهه، ويعتبره تدخلًّا،
ولاختصار المشاكل، تُقنِعهُ أُمّه بتجنب النقاش معه قائلةً، كلّها كم يوم ويسافر، استحمل.. يا لهوْل المأساة!
أمّا الآباء فيُعزّون أنفسهم بعدم التقصيرِ في توفير احتياجات الأسرة والأبناء، واختيار أفضل المدارس التي تؤهلهم لأرقى الجامعات،
وإدراجهم في كل نشاط رياضي وفنّي، يزيد السيرة الذاتية زخمًا، لكنهم اليوم يقفون عاجزين أمام معادلة صعبة،
حيث لا توازن بين كفاءة أبنائهم واحتياجاتهم وبين ظروف بلادهم، فواقع الحال العربي باستثناء بعض الدول،
يعاني البطالة والفقر بكل آفاته، إضافة للعزوف عن الزواج والسعي للهجرة.
وفي ليلة الوداع، اجتمعت العائلة مع الجد والجدّة، فسأل الأب والده الكهل: كيف آلت أحوال البلد إلى هذا الحال؟ فردّ قائلًا،
يا ابني أنا قضيت حياتي في الغربة، ريثما تتحسن أحوال البلد، لأضمنَ لكم حياة كريمة، ولا أُنقص عليكم شيئًا،
ثم عُدت لأجدها خربانة أكثر من ذي قبل، ماذا نفعل، «عملنا اللي علينا وأنت عملت اللي عليك،
والبَرَكِة في الجيل الجديد».
فضحك الابن بِغصّةٍ، وقهقه والده وجدّه، إلى أن حان موعد السفر.