يستقبل قصر الحمراء في إسبانيا -أحد أهم معالم العمارة الإسلامية في الأندلس- ملايين السياح سنويا، ويوفر لهم فرصة الاطلاع على عراقة العمارة الإسلامية بين القرنين الثامن والـ14 الميلادي.
القصر الذي تم تشييده على مساحة 142 ألف متر مربع في منتصف القرن الـ13 في غرناطة عاصمة دولة بني الأحمر (بني نصر)، تحول إلى رمز معماري بحدائقه الغناء وبركة الماء التي تتوسط الفناء عاكسة انسجامها مع الهياكل العامة.
ويحتوي قصر الحمراء، الذي يصفه زواره على أنه "قصر من عالم الحكايات الأسطورية"، على العديد من الزخارف اليدوية، وخاصة الأعمال الحجرية والخشبية والفسيفساء والخزف.
وعلى الرغم من الإهمال الذي تعرض له لسنوات عديدة، فإن المبنى تمكن من مواصلة الحفاظ على جماليته الفريدة وزخارفه الأصيلة التي تعكس جمال وعراقة العمارة الأندلسية، ومن البقاء كواحد من كنوز العمارة الإسلامية.وقصر الحمراء مدرج على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي العالمي، ويستضيف سنويا ملايين السياح من مختلف دول العالم.
جولة في غرناطة
تبدأ الجولة في قصر الحمراء بزيارة الجزء الخاص بالقصبة أو الحصن العسكري، وهي المنطقة التي كانت مخصصة للجند والعسكر وتخزين الأسلحة والعتاد، وتقع القصبة في جزء بعيد عن مكان قصور السلاطين والأمراء، وفق تقرير لمراسلة الجزيرة نت اعتماد بلعيد من غرناطة.
أشكال السلالم والخنادق والأقبية والسقوف والأسطح، وحتى البيوت الصغيرة التي خصصت لإقامة الجند الملتحقين بخدمة السلطان تتماشى مع الغاية التي بني من أجلها هذا الجزء. أعلاها وبعد سرداب طويل من الدّرج، تصل إلى برج الحراسة الضخم، وفوقه انتصبت أعلام إسبانيا وغرناطة والاتحاد الأوروبي، وعلى أطرافه بدت غرناطة كلها مستلقية في الأسفل بين أشجار الصنوبر والحور.
كم وقف بنو الأحمر وجندهم هنا لينظروا إلى غرناطة ونواحيها وبيوتها البيضاء ذات القرميد الأخضر؟! والتي لم تعد كما كانت، فكل الأحياء تغيرت وبقي بعضها فقط على أصالته، تحديدا حي البيازين. وما بقي من غرناطة الأندلس أصبح في عهدة من لا يعرفون شيئا عن حكايا من بناها وسكنها.
تترك القصبة خلفك، وتلتحق بمنطقة القصور في الموعد الذي حدد في تذكرة الدخول، مرة أخرى شعور بالرهبة يغلف قلبك وأنت تخطو إلى قلب قصور السلاطين والأمراء. عندما أتى محمد بن الأحمر النصري وجد هذا المكان طللا من أطلال قصر بناه أحد ملوك الطوائف، فقرر أن يبني فيه قصر الحمراء الذي كان نواة مملكته.
قصر بين التل والجبل
يقع القصر بين تل غرناطة المرتفع وجبال "سيرانيفادا"، وقد تم بناء قصوره واستكمال حصنه في ظل السلاطين والحكام المتعاقبين على مدى 150 سنة تقريبا، بدءا من العام 749هـ، وبعد السلطان محمد بن الأحمر شيد السلطان يوسف الأول -الذي حكم غرناطة بداية القرن الرابع- قصره الذي ضم قاعة السفراء الفخمة، والتي أريد لتصميمها أن يعكس ويرسخ مناعة وقوة يوسف الأول لدى أعدائه، خصوصا أنه كان يتفاوض معهم فيها.
الشعور بالانبهار والجلالة يلاحقك وأنت تلج القصر، وتتطلع إلى سقوف قاعة السفراء الآسرة، حيث الزخارف الجصية والنقوش المزدانة بجمل وكلمات تمجد الله، في مقدمتها شعار النصريين "لا غالب إلا الله" الذي تجده في معظم الجدران والأبواب والزوايا.
حتى النوافذ المقوسة هنا غاية في الإبداع، بعضها ذو زجاج أندلسي ملون، وبعضها الآخر له تصميمات فنية مختلفة، تسمح بمرور أشعة النور منعكسة بأشكال خماسية وسداسية تحول خيوط الضوء المتسربة إلى آيات جمالية. كان المشهد ينطق بنفسه كأنه يقول أنا عربي، كأنه ينبض وينادي كما صوره نزار قباني في هذا البيت "الزخرفات أكاد أسمع نبضها، والزركشات على السقوف تنادي".
سقف قاعة السفراء الملكية المطلة على بيوت غرناطة يرتفع بحوالي 23 مترا، وقد صمم من آلاف القطع من خشب شجر الأرز، طبقا لفنون التصميم في العمارة الإسلامية، وهناك من يرى أن ذاك السقف آية فلكية منقطعة النظير، إذ يشبه صورة مصغرة للكون، والهدف من إبداعه أن يرمز لقوة السلطان يوسف الأول.
أوج العمارة الإسلامية
ولجأ معماريو الحمراء إلى الرياضيات خلال تصميماتهم، من أجل إبداع مساحة تشعر الزوار بأهمية وشأن السلطان، وأثْروا الرياضيات بتقنيات جديدة وهم يبرعون في استخدام وحدات قياس دقيقة، صمم بناء قصر الحمراء عليها ككل. وفي هذا الجزء أيضا يوجد فناء الريحان الفتان وبركته المائية الشهيرة، بالإضافة إلى "برج قماريش" الذي يعد البناء الأكثر علوّا في قصر الحمراء.
أوج العمارة الإسلامية الذي شهدته الأندلس خلال عهد السلطان يوسف الأول، استكمل خلال عهد السلطان محمد الخامس، الذي شيد قصرا آخر عُدَّ جوهرة قصر الحمراء، ازدان بالزخارف المغربية المذهلة التي تلاعب فيها صانعوها بالظل والنور، وبين مساحات قبابها الممتلئة والفارغة قبل أن يتم تتويجها بألوان زرقاء وذهبية ومختلفة، تكاد تخطف الأبصار.
قاعة الأختين المبهرة هي الأخرى تؤدي من بابها الجنوبي إلى أشهر أجنحة القصر، وهي بهو السباع أو بهو الأسود، تنظر إلى الأسود الحجرية الـ12 وتتساءل، كيف تفتقت قريحة هؤلاء المعماريين لصناعة تحفة مماثلة؟
الماء ما يزال يخرج من أفواهها رغم أنه لم يعد متماشيا مع أوقات الصلاة والليل والنهار كما كان في عهد بني الأحمر، ذلك أن الإسبان قاموا بتحريك أحد الأسود رغبة في اكتشاف التقنية التي اعتمدها الأندلسيون، والتي توائم بين تدفق الماء وتغير الوقت، لكنهم لم يستطيعوا معرفة آلية عملها، ولا كيفية إعادتها إلى حالها الأول. وقد صنعت الأسود من المرمر الأبيض، وهي نفس المادة التي تم استعمالها لاحقا خلال إحدى عمليات ترميم القصر، لإعادة تهيئة أرضية البهو الذي كانت جنباته مزروعة بالورد والرياحين أيام الأندلس.
ومثل باقي جدران القصور وزواياها فإن نافورة الأسود هي الأخرى نقشت عليها القصائد، إذ كان شعر النقوش من الفنون الأندلسية المزدهرة، فيتم تنميق وتزويق النافورات والجدران والحيطان بجميل القصائد.
المدينة الأندلسية الأخيرة
القيمون على القصر حاليا لم يغفلوا وضع صورة ضخمة تؤرخ لمشهد الملكين إيزابيل وفيرديناند وهما يتسلمان خطاب تنازل أبي عبد الله محمد الصغير آخر ملوك غرناطة عنها بعد حصار طويل، وسط الأقواس والنقوش، التي ما زالت تشهد على عربية المكان، بل إن عددا من الأواني والمصابيح والمخطوطات والأدوات وغيرها تم وضعها في متحف داخل القصر، يسمح بزيارته ويمنع التقاط صور لما في داخله.
وفي الجانب الأقصى من قصر الحمراء تقع جنّة العريف، حدائق غناء ممتدة تثير الإعجاب وتبعث على الطمأنينة، إنشاؤها على هذه المساحة كانت الغاية الأولى منه أن تكون فضاء يسرّ الناظرين، ويدخل على أنفسهم البهجة، وثانيا لزراعة الحبوب والخضراوات، حتى تشكل طعام حوالي 5 آلاف شخص كانوا يعيشون داخل حصن غرناطة.
وفي أنحاء الجنّة تتناثر أنواع الأشجار وصنوف الأزهار والورود الندية، وتتدفق المياه العذبة عبر النوافير والقنوات، يتطاير رذاذها في عنان السماء مشكلا أقواسا تبدو حبيباتها تحت الشمس كأنها من ماس. وقد كان من عادة الأندلسيين -الذين برعوا في تقنيات مد القنوات واستعمال المياه- الحرص على جريان الماء حفاظا على طهارته، ولذلك لا عجب ألا تجد في كل الاستعمالات المختلفة للماء في قصر الحمراء سواء في السقي والريّ أو في الزينة خصّة راكدة أو بركة آسنة أو مياها ضحلة.
تحالف ملكي "قشتالة" و"أراكون" ونشوء إسبانيا، ساهم في التعجيل بسقوط غرناطة آخر ممالك المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية عام 1492م. بعدها سارع سادة قصر الحمراء الجدد إلى وضع بصمتهم عليه فحولوا المسجد الذي بناه محمد بن محمد النصري داخل القصر إلى كنيسة، كما فعلوا مع باقي مساجد المدينة، وبنوا قصر الملك كارلوس الخامس بجانب القلعة العسكرية، وهو ضخم على الطراز الأوروبي تتوسطه مساحة دائرية شاسعة، رغم ذلك فإنه لا يحظى بذات اهتمام السياح والزائرين بقدر اهتمامهم بقصور النصريين. إنهم بالآلاف في المكان لأجل قصر الحمراء.
وعندما ترقب القصر مساء في سفحه، من حي البيازين، ستمجد جماله ولونه الأحمر غروب الشمس كجمرة متوهجة، وستتحسّر مردّدا البيت الشعري للشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي في رثائه للأندلس "لكل شيء إذا ما تم نقصان، فلا يغرّ بطيب العيش إنسان".