مكتبات سوق السراي في العشرينيات
شهدت بغداد منذ نهاية الحرب العالمية الأولى نشاطا ملحوظا في مجال تجارة وبيع الكتب لم تشهده على هذا النحو منذ قرون مضت إذ جذبت هذه الظاهرة انتباه عدد من الناشرين العرب والأجانب وشجعتهم على التوجه الى العراق بعد ان وجدوا فيه سوقاً تجارياً مربحاً للكتب العلمية والأدبية , وكان في أغلب مدن العراق مكتبات لبيع الكتب لها نشاطها الكبير وعلاقاتها الواسعة بالناشرين والمكتبات الكبرى في بلاد العرب
ومنها ما ساهم بشكل كبير في الحركة الثقافية من خلال نشر او اعادة نشر الكتب النادرة والمخطوطات المحققة والدواوين والدراسات المختلفة.
ان من اوائل المكتبات التي تأسست في بغداد مكتبة العربية ومكتبة العصرية في سوق السراي الذي شهد بعد قيام الحكم الملكي انتشار مكتبات بيع الكتب والتي اختص بعضها ببيع نوع معين من الكتب فيما تنوع بعضها الآخر من أدبية وعلمية ودينية وتاريخية ونوادر المخطوطات فضلاً عن القرطاسية واللوازم المكتبية. وأسست مكتبات أخرى في هذه المدة منها مكتبة الأهلية ومكتبة مكنزي ومكتبة العلمية ومكتبة الطلبة ومكتبة الشبيبة ومكتبة الزوراء وسأتناولها بشي من التفصيل، وتأتي المكتبة العربية التي أسسها نعمان الاعظمي عام (1905) في طليعتها وهي أول مكتبة تفتتح في سوق السراي بل انها من اقدم مكتبات بيع الكتب في العراق , وكانت قبلة المثقفين ومنارا للباحثين, وساهمت المكتبة في طبع العديد من الكتب العربية والأجنبية في داخل العراق وخارجه, كان موقعها الاول في راس سوق السراي ثم انتقلت الى وسطه حتى وقتنا الحاضر .
قام محمود حلمي في عام(1914) بتأسيس المكتبة العصرية وهي ثاني مكتبة تفتح في سوق السراي، وذاع صيتها وأصبحت لها مكانة بارزة لا تقل منزلتها عن مكتبة نعمان الأعظمي وعمل صاحبها على رفدها بالكتب والمصادر القيمة التي كان يستورد معظمها من مصر وتركيا وايران ، فضلاً عن المجلات المصرية التي كان الوكيل الوحيد لتوزيعها في العراق , وهذا ما أدى الى ازدياد رواد هذه المكتبة من المثقفين الذين أخذوا يعقدون فيها الندوات الثقافية ومن أبرزهم الدكتور مصطفى جواد والمحامي عباس العزاوي وعبد الرزاق الحسني وطه الهاشمي والأديب احمد حامد الصراف وعبد المطلب الأمين وغيرهم. وكان يساعد محمود حلمي في ادارة المكتبة شخص يهودي اسمه(اسحق أبو نسيم ), انتقلت المكتبة الى اكثر من مكان الى أن انتقلت الى شارع المتنبي مقابل المخبز العسكري سابقاً ثم انتقلت الى بناية المكتبة البغدادية.
ومن المكتبات الأخرى مكتبة الشرق التي أسسها عبد الكريم الملا خضرعام(1920) في سوق السراي قرب مكتبة والده وقد ابدى همّة في مجال بيع الكتب وكانت مكتبته تختص ببيع الكتب الأدبية والمدرسية واستمرت المكتبة على هذا الحال الى ان توفي صاحبها.
كما أسس عبد الامير الحيدري عام (1922) المكتبة الأهلية في سوق الاستربادي بالكاظمية ثم سرعان ما نقلها الى سوق السراي ، وبعد وفاة صاحبها الحيدري تولى ادارتها نجله شمس الدين الحيدري الذي قام بنقلها من سوق السراي الى شارع المتنبي , واخذت المكتبة على عاتقها طبع عدد كبير من الكتب العربية والأجنبية.
وكذلك(مكتبة مكنزي) التي أسسها رجل اسكتلندي عام (1925), وتعد من المكتبات المتخصصة في بيع الكتب الأجنبية , وبعد وفاة صاحبها الذي دفن في مقبرة الأرمن ببغداد تولى ادارتها ابن عمه (دونالد) الذي كانت تربطه علاقة وطيدة مع اليساريين في العراق , وعندما توفي آلت المكتبة الى احد العراقيين وبقيت تعرف بالاسم نفسه. واشتهرت هذه المكتبة ببيع كتب الطب والهندسة المطبوعة باللغة الانكليزية التي كانت تصل من بريطانيا على وجه الخصوص , لذلك كان طلاب كليتي الطب والهندسة واساتذتهم يقصدونها على الدوام ليطلعوا على كل ما هو جديد.
ظهرت مكتبات اخرى لبيع الكتب وظلت مستمرة مثل مكتبة الطلبة التي آسسها يوسف سعيد حافظ عام (1927), ومكتبة الشبيبة التي أنشاها رشيد عبد الجليل النعمة الطائي عام (1930) في سوق السراي واختصت ببيع الكتب والمجلات العراقية والعربية منذ تأسيسها ولعدة عقود لاحقة , وهناك أيضاً مكتبة الزوراء التي أسسها حسين الفلفلي في عام (1930) وهي من المكتبات المتنوعة وتقع في سوق السراي ولازالت الى اليوم، يديرها نجله اكرم حسين الفلفلي, ومكتبة المعارف التي أسسها محمد جواد حيدر عام (1932) في سوق السراي وبعد عدد من الاعوام انتقلت الى شارع المتنبي بالقرب من مقهى الشابندر, ولازالت الى اليوم مستمرة في عملها يديرها اثنان من العاملين لقاء اجر.
وهناك مكتبات أخرى انشئت في الكاظمية مثل مكتبة المفيد لصاحبها الشيخ صالح الكاظمي الذي كان يبيع فيها اجزاء القران الكريم ومختلف الكتب الدينية ,وعند وفاة صاحبها عام (1910) تولى ابنه عبدالله ادارتها وعند وفاته عام(1930) تولى ابنه محمود إدارتها ورفدوها بالكتب الثمينة واستمرت لمدة طويلة من الزمن. والمكتبة الأخرى هي مكتبة الاعتماد التي اُنشئت في الغرفة الثامنة داخل الصحن الكاظمي الشريف على جهة اليمين من باب القبلة وأدارها الشيخ علي محمد الكتبي منذ عام (1905) وبعد توسعها نقلها الى خارج الصحن في داخل السوق وكان ذلك في بداية الاربعينات وبعد وفاة صاحبها الحاج علي محمد عام (1955) تولى ادارتها ابنه الحاج مرتضى.
ومن المكتبات القديمة الأخرى في الكاظمية (مكتبة النجاح) التي أسسها الشيخ عبد علي في العشرينات من القرن الماضي ومكانها في منتصف الشارع العام عند باب الدروازة ,وكانت ايضاً بمثابة ملتقى لوجهاء البلدة الذين يأنسون باحاديث صاحبها , واستمرت هذه المكتبة لعدة عقود لاحقة.
ويبدو من خلال ما تقدم أنّ هذه المكتبات أدت دورا كبيرا من خلال إيصال المراجع والمصادر من الكتاب العراقي والعربي والأجنبي الى المثقف البغدادي وعملت على نشر الثقافة بكل صورها واشكالها في المجتمع البغدادي , وسعت جاهدة لإقامة صلات التبادل الثقافي بين العراق والدول العربية من جهة والجوار غير العربي من جهة أخرى ولهذا فان هذه المكتبات كانت الشريان الدافق لمد الحياة الثقافية بما تحتاج ولإغناء ابناء المجتمع البغدادي بالثقافة فضلا عن ان سوق السراي اصبح بمثابة منتدى ثقافي تقام فيه الندوات الثقافية وذلك للتواجد الدائم للأدباء والمثقفين فيه وهذا ما صرح به جميع من قابلنا من اصحاب المكاتب القديمة.