اســطورة مئذنة جامع سـوق الغزل
هذه المنارة او المئذنة الضخمة الشاهقة هي الأثر الوحيد الباقي من اثر عباسي كبير هو جامع القصر الذي عرف ايضاَ بجامع الخليفة، الذي أسسه الخليفة العباسي المكتفي بالله (289-295هـ) = (901-907م) في الجانب لشرقي من بغداد، شرقي دار الخلافة العباسية في ايامها المتأخرة ولم يبق من الجامع العتيق شيء، اما المنارة الحالية فقد بنيت على عهد (اباقا بن هولاكو) الايلخاني،
في ولاية علاء الدين عطا ملك الجويني على العراق وقد تمَّ الفراغ من بنائها في سنة 678هـ (1279م).
وجامع القصر نسبة الى القصر الحسني، ثم اطلق عليه اسم (جامع الخليفة) ثم (جامع الخلفاء). وكان هذا الجامع الرسمي للدولة العباسية، ففيه تقرأ عهود الخلفاء، ويُصلّى على جنائز الاعيان والعلماء، وتعقد فيه حلقات الفقهاء والمناظرين والمحدثين.
ان منارة جامع سوق الغزل عجيبة البناء فائقة الريازة، ولعلّها تعدُّ افخم المنائر الاسلامية وأضخمها. اما تسميتها بمنارة سوق الغزل لأن الجامع قد قطعت ارضه وانشيء في احدى القطع الشرقية منه سوق للغزل، وشيد سليمان باشا الكبير والي بغداد (1193-1217هـ) = (1779هـ-1802م) جامعاً في غرب المنارة بقي قائماً الى سنة 1957، ويعرف بجامع سوق الغزل.يصعد الى المئذنة (المنارة) من سلمين مستقلين، وقد انشأوا فيها موضعين للمؤذنين، احدهما في الربع الاسفل منها والآخر في العلوي.
وفي عقد الستينات شيّد جامع حديث الطراز على انقاض وبقايا الجامع القديم، واصبحت المنارة داخل ساحة هذا الجامع. وقد اجريت اعمال صيانة وترميم للحوض السفل منها واعيد الزخارف والمقرنصات اليه.
ولما احتل البريطانيون بغداد ذهب مهندسوهم الى رؤية المئذنة وفحصواما حواليها فخافوا سقوطها وإتلافها البيوت التي في جوارها إذا هوت فتدفن حينئذ أصحابها تحت الردم. فعزموا على هدمها حقنا لدماء الخلق فأوعزت السلطة المحتلة الى احد الادباء المشاهير ان يكتب مقالا ينشر في جريدة العرب في(سنة1917) ليهيئ الافكار لقبول هذا الخاطر الذي اقلق أرباب السلطة المحتلة. فذهب صاحب الجريدة المذكورة يومئذ الى السير برسي كوكس وأفهمه ان لاخطر عليها لأنها أصبحت كالصخرة الواحدة وقد مضت عليها السنون وهي في تلك الحالة التي يظن انها خطرة وليست بها. فلم يقنع الحاكم المذكور بما قيل له لأنه آلى على نفسه ان ينسفها بالبارود كما نسفت مدخنة”العباخانة”تلك المدخنة التاريخية التي بنيت في نحو سنة 1869 وكانت آية في البناء والمتانة والجمال.
فلما رأى مدير الصحيفة المذكورة ان صاحب الزمام لايرجع عن عزمه اسرع فأخبر بالامر المرحوم السيد محمود شكري الآلوسي ليذهب ويقنع برسي كوكس بأن يعدل عن تحقيق ما دار في خلده. فذهب الآلوسي مع مدير جريدة العرب -وهو صاحب هذا المقال- وحملا الحاكم على أن يترك هذه المسألة الآن إلى وقت آخر الم يرد أن يعدل عن رأيه. فقنع وبعد سنتين كلف مهندس البلدية وهو المسيو شافانيس الفرنسي بأن يقوي كرسي المئذنة بما عنده من الوسائل ففعل. وهي اليوم قائمة على ساقها كما كانت سابقا وتضحك من كل من حاول ان ينظر اليها نظرة الى شيخة متغضنة.
ويذكر الدكتور كمال السامرائي في مذكراته الموسومة (حديث الثمانين) حكاية طريفة عن هذه المئذنة العجيبة، فيقول :
أنقل هنا واحدة من الحكايات عن المئذنة دون تحريف كبير لنصها الذي سمعته من إثنين من كبار البنائين في بغداد، وقد يكون مصدر حكايتهما واحد. أحدهما الأسطة محمد وهو الساعد الأيمن للدكتور مكية في بناء جامع الخلفاء وترميم مئذة سوق الغزل، وهو مثالاً للبغدادي الأصيل في ملبسه وفي كلامه وإشاراته التي يبطنها بمعاني خاصة، كما تبين لي أن له معلومات تأريخية لا بأس بها عن هذه المئذنة سردها لي بتقطيع وتأن، وقال:
إن هذه المئذنة لا يزيد عمرها على السبعة قرون، أي أنها ليست عباسية العهد، وقد أمر ببنائها (أحمد أباقا بن هولاكو) وعهد بالإشراف على تشييدها الى وزيره عبد الله الجويني، وتلتصق بها قصة ممتعة حتى لو كانت خرافية.
فقلت له أريد أن أسمعها لو تفضلت فقال:
كان في أصفهان أشهر البنائيين في إيران وإسمه (حاجي علي) وله تلميذ إسمه (غلام علي)، ورغم التحابب الذي يشد بقوة بين هذا الأستاذ وتلميذه، فإن أولهما كان ضنيناً بتعليم كثير من أسرار مهنة تجميل العمارة وزخرفتها، كما أن تلميذه كان حاد الذكاء وقوي الملاحظة، وكان يراقب استاذه دون أن يثير إنتباهه ليكون خليفته في الصنعة، وذات يوم وهما يتحدثان عن مئذنة أصفهان الشهيرة، قال غلام علي:
-إن هذه المئذنة هي غاية ما يمكن لأي إستاذ في البناء إن يصنعه.
ويبدو أن الإسطة الحاجي علي عدّ هذه الإشارة تحدياً له، فقال بكبرياء ووقار:
-ليس في هذه المئذنة الا إبداع في تناسق ألوان القاشاني فيها، وأنا أطمح أن أبني مئذنة من طابوق بلون واحد لا يدخلها أي لون آخر وهذا هو وجه الإبداع فيها والمبادرة التي لم يسبق اليها أحد من شيوخ البناء، كما سأجعل لها سلّمان، الصاعد اليها لا يرى النازل منها، أريد أن أجعل المنارة التي أفكر ببنائها حدثاً في العمارة يتحدث به الرُكبان.
وشرح حاجي علي لتلميذه طريقة بنائها وتلميذه ينصت اليه بكل جوارحه، وأراد أن يستوضح منه الكثير عنها وسأله:
-وهل ستكون إسطوانية القوام أم مربعة أم ماذا؟
فأجابه إسطة علي:
-إن المآذن المنشورية لا تعطي طابع الصعود والسموق المستمر كالمآذن الإسطوانية. ولذلك سأجعلها إسطوانية، كما أن النور والظلال يتداخلان على سطحها بنعومة تحت النظرة الواحدة، فلا نور قاطع ولا ظل قاطع كما هو في المآذن المنشورية فلا تتعب الناظر اليها.
وسأله:
-وأين تضع حوضها؟
فأجابه:
-سيكون لها حوضان يقسمان المأذنة الى ثلاثة أقسام.
وفكر غلام علي بما سمعه من أستاذه إسطة علي، وعزم على شئ، فقد إستيقظ مبكراً وحمل تحت إبطه صرة فيها زاد ما يكفيه للسفر بالكروان الى بغداد.
وكان يحكم بغداد يومئذ الخان أباقا التاتاري وقد دخل الإسلام في تلك الأيام، وغالى في التمسك بشرائعه، والعمل على نصرته، فوجد غلام في هذا السلطان ضالته، فتوجه الى الجامع حيث يصلي هذا السلطان، وصلى ورائه مع المصلين ولما إنتهى من صلاته تقدم من الخان الورع وسأله هذا الخان:
-ماذا تريد أيها الشاب؟
فقال له:
-أريد أن أخدم الخان يامولاي.
-وأية خدمة تستطيع تقديمها لي؟
-أراك ياسيدي الخان كثير الإهتمام بدينك كما أنك كثير الإهتمام برعيتك، وعندي من الفن في بناء المآذن ماليس لغيري مثله!
-ومن أين أنت أيها الشاب، هل أنت حاجي علي؟
-لا ياسيدي أنا تلميذه وأستطيع أن أبني مئذنة كان يحلم بها أستاذي ولم يحققها.
وفتح الخان خزانته ليمول بناء المئذنة، فجاءت آية في الفن والجمال. وسمع حاجي علي بهذه الإعجوبة في بغداد، وشد الرحال ليراها، ووقف ينظر اليها بإعجاب وتفاجأ حين رأى تلميذه غلام في الصحن الأعلى للمئذنة، فصعد اليه فلم يجده، وطاف حول صحن المئذنة فلم يجد له أثراً، ونظر الى الأرض فإذا بغلام علي يقف وعلى وجهه إمارات الظفر. فعرف الحاج علي أنه سرق منه سر بناء هذه المئذنة وسبقه الى بنائها، فرمى بنفسه من أعلى المأذنة الى الأرض ليموت غيظاً وكمداً!هذه هي إسطورة مئذنة سوق الغزل، وقد يكون فيها بصيص من الحقيقة.